البحث

عبارات مقترحة:

الصمد

كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

العمل والعاملون

العربية

المؤلف فؤاد بن يوسف أبو سعيد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. إباحة الإسلام للعمل وضابط ذلك .
  2. قيام الأنبياء والصحابة بالعمل والمهن .
  3. ترغيب الإسلام في العمل .
  4. أفضل المكاسب في الإسلام .
  5. حقوق كفلتها دولة الإسلام للعاملين فيها .
  6. التحذير من الأعمال المحرمة والمهن المشبوهة وبعض صور ذلك .
  7. حفظ الإسلام لحقوق العاملين وبعض شواهد ذلك .

اقتباس

اعلم أن الأنبياء لما بعثوا داعين للخلق إلى الحقِّ -عزَّ وجل-؛ لم يطلبوا من الخلق جزاءً، ولم يكن بدٌّ من الجريان مع الأسباب، فاشتغل كل منهم بسبب، فكان آدمُ حراثا، ونوحٌ نجارا، وكذلك زكريا، وإدريس خياطا، وكذلك لقمان، وداودُ زرَّادًا، وإبراهيم زرَّاعا، وكذلك لوط، وصالح تاجرا، وموسى وشعيب ومحمد -صلى الله عليه وسلم- رعاة. وهذه سيرة العلماء من بعدهم والصالحين، فكان...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:

فهذه خطبة بعنوان: "العمل والعاملون".

قال سبحانه: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].

وقال سبحانه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96].

والعمل الذي يقوم به الإنسان دنيوي وأخروي، فالدنيوي جائز مباح ما لم يؤثر على واجب، قال سبحانه: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة: 9 – 11].

والعمل لم يمنع الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- من التبليغ والدعوة، قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان: 20].

فآدم -عليه السلام- نزل من الجنة، فزرع وحصد، وأكل من عمل يده، فله خبرة بالزراعة.

و "أول من خاط الثياب ولبسها إدريس" -عليه السلام- [الأوائل للعسكري].

فله خبرة بالخياطة.

وإسماعيل -عليه السلام- له خبرة بالصيد، فعيشه منه.

وعيسى -عليه السلام- يداوي الناس ويطببهم، فله خبرة بالطب.

قال ابن الجوزي في كتابه: "كشف المشكل من حديث الصحيحين": "اعلم أن الأنبياء لما بعثوا داعين للخلق إلى الحقِّ -عزَّ وجل-؛ لم يطلبوا من الخلق جزاءً، ولم يكن بدٌّ من الجريان مع الأسباب، فاشتغل كل منهم بسبب، فكان آدمُ حراثا، ونوحٌ نجارا، وكذلك زكريا، وإدريس خياطا، وكذلك لقمان، وداودُ زرَّادًا، وإبراهيم زرَّاعا، وكذلك لوط، وصالح تاجرا، وموسى وشعيب ومحمد -صلى الله عليه وسلم- رعاة.

وهذه سيرة العلماء من بعدهم والصالحين، فكان أبو بكر الصديق وعثمان بنُ عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة، وابن سيرين، وميمون بن مهران؛ بزازين.

وكان الزبير وعمرو بن العاص وعامر بنُ كريز، جزارين.

وكان سعد بن أبي وقاص، يبري النبل.

وعثمان بن طلحة الحجبي، خياطا.

وأيوب السختياني، يبيع السختيان.

ويونس بن عبيد، جزارا.

ومالك بن دينار، وراقا؛ يكتب المصاحف.

وكان سعيد ابن المسيب، يحتكر الزيت.

وسفيان الثوري، يباضع.

واعلم أن الاشتغال بالكسب والتسبب إلى الغنى عن الناس؛ يحفظ الدين، ويمنع من الرياء، ويكونُ أدعى إلى قبول القول".

والله الموفق.

وكذلك الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-؛ كانوا أصحاب مهن وحرف، فالمهاجرون تجار، والأنصار مزارعون.

واعلموا -عباد الله- ما ورد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَيْرُ الْكَسْبِ كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ" [أحمد عن أبي هريرة، حسنه في الصحيح ح(3283)].

أي إذا أتقن وأحسن وأخلص في عمله.

وبوب البخاري في صحيحه عدة أبواب بأسماء أعمال ومهن محترمة مباحة؛ مثل: "اللحام والجزار" و"ما قيل في الصواغ" و"ذكر القين" و"النساج" و"النجار" و"العطار وبيع المسك" [فتح الباري (4/312-324)].

فيجب عليك أيها العامل! أن تقتدي بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وكذلك الصحابة والصالحين، في أعمالهم بإتقانها وإحسانها، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا-: أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم- قَالَ: "إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ". 

وفي رواية أخرى: عن عاصم بن كليب عن أبيه كليب: أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا غُلامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ، فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُمْكِنُ لَهَا، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "سَوُّوا لَحْدَ هَذَا" حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّ هَذَا لا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلا يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ" [الصحيحة (1113)].

ولقد شجَّع ديننا الحنيف على العمل بما ينفع الجميع، من إنسان، وطير وحيوان، عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ" [رواه الإمام أحمد (3/183، 184، 191) والبخاري في الأدب المفرد، ح(479) انظر: الصحيحة ح(9)].

"الفسيلة: هي النخلة الصغيرة، وهي الودية".

وعن الحارث بن لقيط قال: كان الرجل منا تَنْتِج فرسُه فينحرها ،فيقول: أنا أعيش حتى أركبَ هذه؟! فجاءنا كتاب عمر: "أن أصلحوا ما رزقكم الله؛ فإن في الأمر تنفسا" [وسنده صحيح].

وعن عبد الله بن سلام: "إن سمعت بالدجال قد خرج، وأنت على وديَّة تغرسها؛ فلا تعجل أن تصلحه؛ فإن للناس بعد ذلك عيشا" [خد 480].

وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: "ما يمنعك أن تغرس أرضك؟" فقال له أبي: أنا شيخ كبير، أموت غدا، فقال له عمر: "أعزم عليك؛ لتغرسنها" فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي.

لذلك عَدَّ بعض الصحابةِ الرجلَ يعمل في إصلاحِ أرضِه؛ عاملا من عمَّال الله -عز وجل-، فروى البخاري في الأدب المفرد (448) عن نافع بن عاصم أنه سمع عبدالله بن عمرو قال لابن أخ له خرج من الوهط: "أيعمل عمالك؟" قال: لا أدري! قال: "أما لو كنت ثقفيا؛ لعلمْتَ ما يعمل عمالك" ثم التفت إلينا، فقال: "إن الرجل إذا عمل مع عماله في داره -وقال الراوي مرة: في ماله-؛ كان عاملاً من عمَّال الله -عز وجل-" [وحسن إسناده الألباني -رحمه الله تعالى-].

و "الوهط: البستان، وهي أرض عظيمة، كانت لعمرو بن العاص بالطائف، على ثلاثة أميال من "وجٍّ" يبدو أنه خلَّفها لأولاده.

وعن عمرو بن دينار قال: "دخل عمرو بن العاص في حائط له بالطائف، يقال له: "الوهط" "فيه" ألف ألف خشبة، اشترى كل خشبة بدرهم. يعني يقيم بها الأعناب [انظر هذه الروايات في السلسلة الصحيحة، تحت حديث رقم (9)].

قال الألباني: "ولا أدلَّ على الحضِّ على الاستثمار من هذه الأحاديث الكريمة، لاسيما الحديث الأخير منها، فإن فيه ترغيبًا عظيماً على اغتنام آخر فرصة من الحياة، في سبيل زرع ما ينتفع به الناس بعد موته، فيجري له أجره، وتكتب له صدقته إلى يوم القيامة".

هذه بعض ما أثمرته تلك الأحاديث في جملتها من السلف الصالح -رضي الله عنهم-.

وقد ترجم البخاري في "صحيحه" للحديثين الأولين بقوله: "باب فضل الزرع إذا أكل منه".

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ؛ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ" [فتح الباري (5/3) ح(2320)].

يقول النووي: "فِي هَذِهِ الأَحَادِيث فَضِيلَةُ الْغَرْس, وَفَضِيلَةُ الزَّرْع, وَأَنَّ أَجْرَ فَاعِلِي ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ مَا دَامَ الْغِرَاس وَالزَّرْع, وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَطْيَب المَكَاسِب وَأَفْضَلهَا؛ فَقِيلَ: التِّجَارَة.

وَقِيلَ: الصَّنْعَة بِالْيَدِ.

وَقِيلَ: الزِّرَاعَة, وَهُوَ الصَّحِيح.

وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيث أَيْضًا؛ أَنَّ الثَّوَاب وَالأَجْر فِي الآخِرَة مُخْتَصّ بِالمُسْلِمِينَ, وَأَنَّ الإِنْسَان يُثَاب عَلَى مَا سُرِقَ مِنْ مَاله، أَوْ أَتْلَفَتْهُ دَابَّة أَوْ طَائِر وَنَحْوهمَا" من [شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الرابع (10/213)].

والدليل على أنَّ الزراعةَ أفضلُ المكاسب، أنَّ هذا الحرص على الزراعة يبقى حتى في الجنة، قال ابن حجر: "فيُفهَم مما سبق أنَّ الاشتغالَ بالزراعةِ ليس منهيًّا عنه بالعموم -وبالأخص إذا قام الإنسان بزكاتها-؛ لأنَّ من أهل الجنة من يشتهي الزرع؛ كما جاء في الحديث عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: "أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ, فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟! قَالَ: بَلَى! وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ، وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ الله: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ! فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ". فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: "وَالله لا تَجِدُهُ إِلاَّ قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا؛ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ" فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [البخاري ح(2348)].

إن الأكل من عمل اليد لهو خير طعام تدخله جوفك، وتطعمه أهلك، عَنْ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ؛ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلام- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" [البخاري ح (2072) فتح الباري (4/303)].

وإنفاقك على أهلك مأجور عليه عند الله -جل جلاله-، عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ؛ فَهُوَ صَدَقَةٌ" [ابن ماجة، ح(2138) صحيح الترغيب، ح(1685)].

واعلموا -أيها العمال- أن الدولة في الإسلام تكفل لكم –إن عملتم في أحد مرافقها- الزواج والخادم والمسكن، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلاً؛ فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ؛ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ؛ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا" قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ أَوْ سَارِقٌ" [أبو داود ح(2945) المشكاة ح(3751)].

لكن من هم العمال؟!

العامل هو كلُّ من يعمل، من رئيسِ الدولة، أو ملكِها أو أميرِها، أو سلطانِها أو خليفتِها، إلى من يعمل في النظافة والحدادة والنجارة، فهذا الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لما استخلف -كما ورد عند البغوي-، "قال: "لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشُغِلت بأمر المسلمين، فسيأكل آلُ أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه" [صحيح].

فوليُّ الأمر لا بد له من خادم أو عامل يقوم على شئونه، وما يحج به ويعتمر، وملابس للشتاء وأخرى للصيف، وراتبا لقوته وعياله، وما له من نصيب وسهم مع المسلمين، عن ابن سيرين، عن الأحنف بن قيس قال: "كنا جلوساً عند باب عمر، فخرجت علينا جارية، فقلت: هذه سُرِّيَّةُ أميرِ المؤمنين" فقالت: "والله ما أنا بسُرِّيَّةٍ، وما أحلُّ له، وإني لمن مال الله" ثم دخلت، فخرج علينا عمر، فقال: "ما ترونه يحلُّ لي من مال الله" أو قال: "من هذا المال؟" قال: قلنا: "أمير المؤمنين أعلم بذلك مناً!" فقال: "إن شئتم أخبرتكم ما استحل منه، ما أحجُّ وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء، وحلتي في الصيف، وقوت عيالي وشِبَعي، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين".

قال معمر: "وإنما كان الذي يحج عليه ويعتمر بعيراً واحداً".

قال الإمام: يجوز للوالي أن يأخذ من بيت المال قدر كفايته من النفقة، والكسوة لنفسه، ولمن يلزمه نفقته، ويتخذ لنفسه منه مسكنا، وخادماً.

قال أبو سليمان الخطابي -رحمه الله-: هذا يتأول على وجهين:

أحدهما: إنما أباح له اكتساب الخادم، والمسكن من عمالته التي هي أجر مثله، وليس له أن يرتفق بشيء سواها.

والوجه الآخر: أن للعامل السكنى والخدمة، فإن لم يكن له مسكن وخادم؛ استؤجر له من يخدمه، فيكفيه مهنة مثله، ويكترى له مسكن يسكنه مدة مقامة في عمله.

وكان شريح يأخذ على القضاء أجراً.

قال الشافعي: "وينبغي أن يجعل مع رزق القاضي شيئاً لقراطيسه" والله أعلم [شرح السنة للإمام البغوى (10/85- 87)].

هذا في الأعمالِ الشريفة، والمهنِ المباحة، والحرف اليدوية، أجر وثواب ونفع للآخرين.

ولكن احذر -أيها العامل- من العمل في الأعمال المحرَّمة، والمهنِ المشبوهة، فإياك من الاتجار بالخمر وأخواتها؛ من الأفيون والحشيشة والمخدرات، وسائر السموم البيضاء من مسكنات ومهدئات، أما الدخان والشيشة، والغليون والنرجيلة؛ فهم أولادٌ غيرُ شرعيين، متولدون من الخمر والمخدرات، فكلُّها إما تغطي العقلَ، أو تخدِّره وتهدئه وتفتره، عن ابْنِ عُمَرَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ" [أبو داود ح(3674)] وهذا لفظه.

قال الشيخ عبد المحسن العباد في شرحه على "سنن أبي داود": "الأدوية المسكنة للأعصاب والمنومة؛ تعتبر من المفترات، ولكن؛ إذا كانت تستعمل من أجل العلاج والدواء، وليس من أجل شرب، أو من أجل تخدير، أو ما إلى ذلك، فلا بأس بها".

واحذر من المتاجرة بالكلاب، ولا تكن قوَّاداً تجمع بين الرجال والنساء على الحرام، ولا يكن عملُك موسيقيًّا مطرباً، أو طبَّالاً فناناً، للحديث: "ثَمَنُ الخَمْرِ حَرامٌ، ومَهْرُ البَغِيِّ حَرَامٌ، وَثَمَنُ الكَلْبِ حَرَامٌ، والكُوبَةُ حَرَامٌ، وإنْ أتَاكَ صاحِبُ الكَلْبِ يَلْتَمِسُ ثَمَنَهُ؛ فامْلأْ يَدَيْهِ تُراباً، والخَمْرُ والمَيْسِرُ حَرَامٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" [أحمد عن ابن عباس. الصحيحة ح(1806)].

فحذارِ ف"كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ؛ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ" [أبو نعيم فى الحلية(1/31)، والبيهقى في شعب الإيمان (5/56، رقم 5759) عن أبى بكر، وصحيح الجامع ح(4519)].

الخطبة الثانية:

إن حق العامل مكفولٌ في الإسلام، ولقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من يأكلُ حقوقَ العمالِ ظلمًا وعدوانًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ" [صحيح البخاري (2227)].

وللحفاظ على حق العامل أمرنا بعدم المماطلة في إعطائه أجره، عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قبل أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ" [ابن ماجة ح (2449) عن ابن عمر، انظر: صحيح الجامع ح (1055)].

ثم لا بد من الاتفاق على الأجرة قبل البدء بالعمل حتى لا يكونَ ظلم أو خصام، عَنْ حَمَّادٍ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى طَعَامِهِ؟ قَالَ: "لا! حَتَّى تُعْلِمَهُ" النسائي ح (3859) صححه مقطوعا في الإرواء (1490)].

وإذا أخطأ عامل فاشتغل في غير أرضه؛ فلا شيء له، وإنما يردون عليه ما أنفق، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ زَرَعَ فِى أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ؛ فَلَيْسَ لَهُ فِى الزَّرْعِ شَىْءٌ، وَتُرَدُّ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ" [ابن ماجة، ح(2457) (1998) صححه في الإرواء ح(1519)].

وزاد في "السنن الكبرى للبيهقي" (6/136) فقال: "هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ أَبِى الْوَلِيدِ، وَفِى رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ قَالَ يَرْفَعُهُ، وَقَالَ: "فَلَهُ نَفَقَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَىْءٌ".

وتعلمون -بارك الله فيكم- قصة الثلاثة الذين: "كَانُوا فِي كَهْفٍ، فَوَقَعَ الْجَبَلُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ فَأَوْصَدَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: "أَيُّكُمْ عَمِلَ حَسَنَةً لَعَلَّ اللَّهَ بِرَحْمِتِهِ يَرْحَمُنَا؟" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: "قَدْ كَانَ لِي أُجَرَاءٌ يَعْمَلُونَ عَمَلاً لِي، فَاسْتَأْجَرْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَجَاءنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَسْطَ النَّهَارِ، وَاسْتَأْجَرْتُهُ بِشَرْطِ أَصْحَابِهِ، فَعَمِلَ فِي بَقِيَّةِ نَهَارِهِ كَمَا عَمِلَ فِي نَهَارِهِ كُلِّهِ، فَرَأَيْتُ عَلَيَّ مِنَ الزِّمَامِ أَنْ لاَ أَنْقُصَهُ مِمَّا اسْتَأْجَرْتُ بِهِ أَصْحَابَهُ، لِلْجَهْدِ فِي عَمَلِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَوَ تُعْطِي هَذَا مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَنِي؛ وَلَمْ يَعْمَلْ إِلاَّ نِصْفَ النَّهَارِ؟ قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ! لَمْ أَبْخَسْكَ شَيْئًا مِنْ شَرْطِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالِي أَحْكُمُ فِيمَا شِئْتُ، قَالَ: فَغَضِبَ وَذَهَبَ وَتَرَكَ أَجْرَهُ، فَوَضَعْتُ حَقَّهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مَرَّتْ بِي بَعْدَ ذَلِكَ بَقَرٌ فَاشْتَرَيْتُ بِهِ فَصيلَة مِنَ الْبَقَرِ، فَبَلَغَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَمَرَّ بِي بَعْدَ حِينٍ شَيْخٌ ضَعِيفٌ، وَلاَ أَعْرِفُهُ، فَقَالَ: إِنَّ لِي عِنْدَكَ حَقًّا ...، فَذَكَرَه حَتَّى عَرَفْتُهُ، فَقلت: إِيَّاكَ أَبْغِي، هَذَا حَقُّكَ، فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ! لاَ تَسْخَرْ بِي، إِنْ لَمْ تَتَصَدَّقْ عَلَيَّ فَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا أَسْخَرُ بِكَ، إِنَّهَا لَحَقُّكَ، وَمَالِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ لِوَجْهِكَ فَافَرِّجْ عَنَّا، فَانْصَدَعَ الْجَبَلُ حَتَّى رَأَوْا وَأَبْصَرُوا " [أخرجه الإمام أحمد (4/274 ـ 275) انظر: الصحيحة، ح(3468)].

قال الشيخ الألباني في "التوسل (1/35): "وتوسَّل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته، التي كانت فرقا من أرز، كما ورد في رواية صحيحة للحديث، وذهب فنمَّاها له صاحب العمل، وثمَّرها حتى كانت منه الشاة، والبقرة، والإبل، والرقيق، فلما احتاج الأجير إلى المال ذكر أجرته الزهيدة عند صاحبه، فجاءه وطالبه بحقه، فأعطاه تلك الأموالَ كلَّها فدهش وظنه يستهزئ به، ولكنه لما تيقَّن منه الجدَّ، وعرف أنه ثمَّر له أجره، حتى تجمعت منه تلك الأموالُ؛ استساقها فرحا مذهولا، ولم يترك منها شيئا، وايم الله إن صنيع ربِّ العمل هذا بالغٌ حدَّ الروعة في الإحسان إلى العامل، ومحقِّقٌ المثلَ الأعلى الممكن، في رعايته وإكرامه، مما لا يصل إلى عُشْرِ معشاره موقف كلِّ من يدعي نصرة العمالِ والكادحين، ويتاجرُ بدعوى حمايةِ الفقراء والمحتاجين، وإنصافِهم وإعطائهم حقوقَهم، دعا هؤلاء الثلاثةُ ربَّهم سبحانه متوسلين إليه بهذه الأعمال الصالحة أي صلاح، والمواقف الكريمة أي كرم، معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله تعالى وحده، لم يريدوا بها دنيا قريبة أو مصلحة عاجلة أو مالاً، ورجوا الله جل شأنه أن يفرج عنهم ضائقتهم، ويخلصهم من محنتهم، فاستجاب سبحانه دعاءهم، وكشف كربهم، وكان عند حسن ظنهم به، فخرق لهم العادات وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة، فأزاح الصخرة بالتدرج على مراحل ثلاث، كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج حتى انفرجت تماماً مع آخر دعوة الثالث بعد أن كانوا في موت محقق. ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يروي لنا هذه القصة الرائعة التي كانت في بطون الغيب، لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- ليذكرنا بأعمال فاضلة مثالية لأناس فاضلين مثاليين من أتباع الرسل السابقين، لنقتدي بهم، ونتأسى بأعمالهم، ونأخذ من أخبارهم الدروس الثمينة، والعظات البالغة".

ونحن اليوم في غزة، نعاني ما نعاني من صروف الآلام، وأنواع العذاب النفسي والمادي والمعنوي؛ من أعدائنا وإخواننا، فأين أعمالنا الصالحة الخالصة؟ وأين توسلنا بها إلى الله -جل في علاه-؟ وهل ستتزحزح عنا الصخرة الجاثمة على قلوبنا وصدورنا؟ الجاثمة على منافذنا ومعابرنا؟ فإن كان الجواب بنعم؛ فمتى؟! (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء: 51].

اللهم إننا نتوسل إليك بأعمالنا الصالحة الخالصة أن تفرج عنا ما نحن فيه من كرب، وتخرجنا مما نحن فيه من ضيق.

اللهم تقبل صالح أعمالنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم، وتجاوز عن سيئاتنا، وآمن روعاتنا، واجعل بلدنا فلسطين آمنا مطمئنا رخاء وسائر بلاد المسلمين.