الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | جمع القرآن - شبهات حول القرآن |
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يجمع في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين قاموا بجمعه وترتيبه نصه وتوحيده في كتاب واحد، وقد حرفوه فأسقطوا كثيرا من آياته وسوره، ويستدلون على هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي ولم يكن هناك قرآن مدون في أيدى المسلمين. ويرمون من وراء ذلك إلى وصم القرآن بشيء من التحريف أو التصحيف أو التزييف أو النقص أو الزيادة أثناء جمعه؛ بغية الطعن في سلامته والتشكيك في تمامه.
1) لقد حفظ الله القرآن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في حياته بطرق عدة؛ منها: حفظه في صدور الصحابة، وتدوين الكتبة له فور تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه، ثم معارضة جبريل القرآن عليه كل عام مرة وعام وفاته - صلى الله عليه وسلم - مرتين.
2) لم يجمع القرآن في مصحف واحد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن اكتمل بعد، ولم يكن المسلمون بحاجة لذاك الجمع والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم، فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وخشي المسلمون نفاد الحفظة، ثم لم يأمنوا الفتنة على أهل الأمصار، كان ما كان من جمع القرآن في مصحف، وجمع المسلمين على مصحف هو المصحف الإمام.
3) لقد كان الصحابة الكرام من الحرص على سلامة القرآن، والتحوط في جمعه بمكان؛ ولذا لم يقبلوا غير المتواتر وردوا غير قطعي الثبوت، واشترطوا في قبول النص القرآني أن يكون مكتوبا بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مجرد الحفظ مع المبالغة في الاستظهار، وأن يكون مما ثبت عرضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرضة الأخيرة، وغير ذلك من الضوابط التي راعاها الصحابة ضمن الدستور الرشيد المحكم الذي انتهجوه أثناء جمعهم القرآن ونسخهم إياه.
لقد كان القرآن الكريم محفوظا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ظل يتلقى القرآن الكريم في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة المنورة عشر سنين، وخلال تلك الفترة الطويلة كان كل حرف ينزل يعيه الحفظة في قلوبهم، ويسجله الكتبة في صحفهم.
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما نزل عليه الوحي وفرغ من تلقيه دعا كتاب الوحي فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور، وكان يعرض على جبريل مرة كل عام ما كتب من الوحي في ذاك العام، وعرضه عليه مرتين في سنة موته - صلى الله عليه وسلم - وهكذا جمع القرآن كله في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحف ورقاع، وكان مرتبا كما هو الآن في سوره وآياته إلا أنه لم يكن في مصحف واحد.
ومن هنا نستطيع القول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما توفي كان كل محفوظ من القرآن مكتوبا، كما كان كل مكتوب من القرآن محفوظا في صدور المؤمنين، وليس أدل على ذلك من مصحف عائشة - رضي الله عنها - الذي اعتمد عليه عثمان - رضي الله عنه - في توحيده المصاحف كما كان لكثير من الصحابة مصاحف مدونة خاصة بهم، بل كان بين المسلمين من يحفظ القرآن كله أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هؤلاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة وسعد ابن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وحذيفة وسالم مولى أبي حذيفة وأبو هريرة وابن عمر وابن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبوه، وغيرهم من المهاجرين، ومن الأنصار: أبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء، وأبو زيد - رضي الله عنهم - ومهما يكن من شيء فقد حفظ القرآن كثير من الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه روي أنه في يوم بئر معونة فقط قتل سبعون من حفظة القرآن.
لكن قد يشكل على هذا الذي نذكره
ما جاء عن أنس بن مالك، قال:
«مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد»
[1].
والحق أن لا إشكال؛ لأن مراد أنس الحصر الإضافي لا الحقيقي حتى يشكل الأمر، إذ لا يتم له الحصر الحقيقي؛ والدليل على ذلك في الرواية الأخرى عن أنس قال «أربعة كلهم من الأنصار...». [2] والحق ما ذهب إليه ابن حجر في الفتح من أن ذلك بالنسبة إلى الخزرج دون الأوس؛ لأنه قال ذلك في معرض المفاخرة بين الأوس والخزرج، فلا يتنافى أن كثيرا من غيرهم قد حفظوه [3].
وكذلك ما ورد من أن الحفظة للقرآن كانوا سبعة أو أقل فإنه يحمل على من اشتهر منهم لا على إرادة الحصر؛ فقد أورد البخاري في صحيحه ثلاث روايات ذكر في مجموعها سبعة من القراء، هم: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل - مولى حذيفة -، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء.
وذكر هؤلاء الحفاظ السبعة، لا يعني - كما قلنا - الحصر، وإنما هو محمول على أن هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن كله في صدورهم، وعرضوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - واتصلت بنا أسانيدهم، أما غيرهم من حفظة القرآن - وهم كثر - فلم تتوافر فيهم هذه الأمور كلها، لا سيما أن الصحابة تفرقوا في الأمصار، وحفظ بعضهم عن بعض؛ ويكفي دليلا على ذلك أن الذين قتلوا في بئر معونة من الصحابة ممن كان يقال لهم "القراء" كانوا سبعين رجلا كما سبق أن ذكرنا.
وقد نال شهرة حفظ كتاب الله كثير من الصحابة؛ مما يدل على أن الحصر ليس مرادا، ومنهم على سبيل المثال: الخلفاء الأربعة، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وتميم بن أوس الداري، وعقبة ابن عامر - رضي الله عنهم - وغيرهم.
هذا من ناحية الحفظة والحفظ في الصدور، ومن ناحية أخرى ثمة طريقة أخرى كانت تسير مع تلك الأولى جنبا إلى جنب تلك هي كتابة الوحي، ومن أشهر الكتبة الذين عهد إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة القرآن زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وهو أول من كتب له بالمدينة، وممن كتب له صلى الله عليه وسلم: الخلفاء الأربعة، والزبير ابن العوام، وخالد، وابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الربيع الأسدي وعبد الله بن الأرقم وآخرون ممن كانوا يكتبون القرآن في سعف النخيل، وصفائح الحجارة، والجلود، والرقاع، وغيرها.
هذا فضلا عن بعض الصحابة الذين كانوا يكتبون لأنفسهم، ما شاء الله لهم أن يكتبوا، ويحتفظون به في بيوتهم ليرجعوا إليه متى أرادوا.
وفي هذا ما يبين لنا طرفا من الجهد الذي بذله ذلك الرعيل الأول في إثبات مقتضى حفظ الكتاب الخالد وبتحقيق مقتضى الوعد الإلهي:
* (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) [الحجر.]
لقد عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياته والقرآن محفوظ في الصدور ومدون في السطور، ومعلوم أنه لم يجمع في مصحف عام؛ لأن الوحي كان ينزل، فلو جمع في مصحف واحد لأدى ذلك إلى مشقة كبيرة في ترتيبه؛ إذ لم يكن ترتيب الكتابة وفق ترتيب النزول، بل كانوا يكتبون الآية بعد نزولها؛ حيث يشير - صلى الله عليه وسلم - إلى موضع كتابتها بين آية كذا وآية كذا في سورة كذا، ولو جمع القرآن كله بين دفتي مصحف واحد؛ لأدى هذا إلى التغيير كلما نزل شيء من الوحي، وفي ذلك من المشقة ما لا يخفى لصعوبة آلية الكتابة وبدائية أدواتها وهذا ما ألمح إليه الزركشي - رحمه الله - بقوله: "وإنما لم يكتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مصحف؛ لئلا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم ".
وورد عن زيد بن ثابت من قوله: "قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن القرآن جمع في شيء"،وقد اتخذها بعضهم مطعنا في صحة القرآن، متوهما أن هذه الرواية تدل على عدم جمع القرآن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلا بمعنى تدوينه وحفظه، وهذا زعم مردود عليه - لو قلنا بصحة الرواية - بما بينه العلماء من أن المراد هنا أن القرآن لم يجمع في صحيفة واحدة في كتاب واحد على غرار ما هو حادث اليوم.
ولعل روايات جمع القرآن في عهد عثمان - رضي الله عنه - نفسها تقف بنا على حقيقة ما خلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرآن بين المسلمين وكيف أنه كان مدونا؛ يقول العلامة ابن حجر شارحا ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "فأرسل عثمان - رضي الله عنه - إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف". وفي رواية يونس بن يزيد: "فاستخرج الصحيفة التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق". "والفرق بين الصحف والمصحف أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر، وكانت سورا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة، لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت، ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفا" [4].
وعقب السيوطي على حديث أبي سعيد الخدري: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه». [5] فقال: "لا ينافي ذلك - أي ما جاء في حديث زيد السابق - لأن الكلام في كتابة مخصوصة، على صفة مخصوصة وقد كان القرآن مكتوبا كله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه غير مجموع في موضع واحد".
ثم إن زيد بن ثابت الذي جاء عنه الحديث السابق هو نفسه الذي ذكر له البخاري حديثا صريح الدلالة صحيح الثبوت في أن القرآن كان مكتوبا في السطور، محفوظا في الصدور قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونص الحديث: «أن زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - وكان ممن يكتب الوحي - قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم. فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله، لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن، أجمعه من الرقاع [6] والأكتاف [7] والعسب [8] وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره:
* لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]
حتى خاتمة براءة. وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها» [9].
فالقرآن كما تدل هذه الرواية التي لا يتطرق إليها شك قد جمع في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - بمشورة عمر - رضي الله عنه - مما كتب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صدور الرجال - وهم كثير - وإن كان ما كتب في عهده - صلى الله عليه وسلم - مفرقا في العسب واللخاف [10] والرقاع والأكتاف وغيرها كما أشار زيد راوي الحديث.
وقد فهم العلماء من حديث زيد بن ثابت - السالف ذكره - أن القرآن كان مكتوبا ومحفوظا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن جمع أبي بكر - رضي الله عنه - له جمعا مستحدثا؛ قال الزركشي في البرهان: "قال الإمام أبو عبد الله الحارث المحاسبي في كتاب "فهم السنن": كتابة القرآن ليست محدثة؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان وكان ذلك بمنزلة أوراق فيها القرآن وجدت في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعها جامع، وربطها بخيط؛ كيلا يضيع منها شيء.
ثم قال - والكلام للإمام المحاسبي -: وفي قول زيد بن ثابت: "فجمعناه من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال " ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن من قال: إنه جمع القرآن أبي بن كعب وزيد بن ثابت ليس بمحفوظ، وليس الأمر على ما أوهم وإنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن؛ ليشترك الجميع في علم ما جمع فلا يغيب لمن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف ولا يشك في أنه جمع عن ملأ منهم".
وهذا الذي قاله المحاسبي المتوفى سنة243هـ تصوير جيد لجمع القرآن ورد عظيم على المشككين في تاريخه.
وبعد... فليس ثمة ما يحتاجه مشكك في أمر الجمع وخلافه من فضل تفنيد وبيان للحقيقة على وجهها، وإلى من يؤمنون بالوحي ويتشككون في أمره نقول: إذا كان هؤلاء يؤمنون بالوحي الإلهي، فلماذا يستبعدون نزوله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة أمين الوحي جبريل، يعارضه القرآن مرة كل سنة ومرتين في العام الأخير لحياته صلى الله عليه وسلم؟ وإذا ثبت عندهم ذلك ففيمن يشككون؟! وعلام يتحفظون،
* وقد قال سبحانه وتعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) [الحجر؟!]
وجاء عن فاطمة - رضي الله عنها - أنها قالت:
«أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني هذا العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي»
[11].
ولقد تكفل الحق - سبحانه وتعالى - بجمع القرآن فقال:
* (إن علينا جمعه وقرآنه (17)) [القيامة]
وجمعه في الآية يشمل المعنيين المشار إليهما من قبل: حفظه في الصدور وكتابته في السطور، فكيف ينال من جمع القرآن وحفظه نائل بعدما تعهد الله الحفيظ العليم بجمعه وقرآنه؟ [12].
ثانيا. لم يجمع القرآن كاملا ولم يدون في مصحف واحد على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لموانع انتفت بوفاته - صلى الله عليه وسلم - فارتأى الصحابة جمعه، وهذا ما كان:
لسائل أن يسأل: لم لم يجمع القرآن في مصحف واحد على عهده صلى الله عليه وسلم؟ وهو سؤال مشروع، والجواب عليه من أوجه نلخصها فيما يأتي:
• إن دواعي الكتابة لم تكن قائمة في عهده - صلى الله عليه وسلم - من جهة أن القرآن لم يكن اكتمل بعد، ومن جهة أخرى أن عددا كبيرا من الصحابة كان يحفظ القرآن في صدره.
• إن وجود النسخ في حياته - صلى الله عليه وسلم - كان أمرا واردا على بعض آيات القرآن الكريم، طالما أن الوحي لم ينقطع بعد، فلو دون القرآن ثم جاء النسخ لأدى ذلك إلى الاختلاف والاختلاط في الدين، فحفظه - سبحانه وتعالى - في قلوب الصحابة إلى انقضاء زمن النسخ، ثم وفق الصحابة بعد للقيام بجمعه. كما أمن الله - سبحانه وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم من النسيان، بقوله:
* (سنقرئك فلا تنسى (6)) [الأعلى]
، فحين توفي المعصوم من النسيان، وبقي القرآن، في صدور غير المعصومين منه؛ وقع الخوف من نسيان الخلق، وحدث ما لم يحتج إليه قبل ذلك من جمع القرآن.
بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - توافرت دواعي جمع القرآن كاملا وتدوينه في مصحف واحد لما ترتب على وفاته - صلى الله عليه وسلم - من انقطاع الوحي ومن حروب الردة التي استنفدت عددا كبيرا من الصحابة الحفظة...، ومقتل سبعين صحابيا في اليمامة على عهد أبي بكر رضي الله عنه.
ولقد كانت هذه الوقعة أهم الأسباب التي اكتملت بها الحاجة إلى جمع القرآن، ودفعت الصحابة إلى هذا العمل، لما رأوا أن مصلحة الدين، وحفظ الكتاب الحكيم لا تتم إلا به [13].
هذا عن سبب جمع القرآن في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - أما في عهد عثمان - رضي الله عنه - فإن الأسباب الباعثة على جمع القرآن كما ذكرها الباحث محمد شرعي في رسالته للماجستير عن جمع القرآن: تتمثل في اتساع بلاد المسلمين وتفرق الصحابة فيها، وباتساع دولة الإسلام كثر المسلمون، وتفرق الصحابة في الأمصار، يدعون إلى الله، ويعلمون العلم، ويقرئون القرآن.
وكان الناس يقرأون كما علموا، فأهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب، وأهل الكوفة يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة يقرؤون بقراءة أبي موسى الأشعري، وهكذا؛ [14]
فعن الشعبي عن علقمة قال:
«لقيت أبا الدرداء فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: من أيهم؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: هل تقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ»
[15].
وكان هؤلاء القراء من الرعيل الأول الذين شهدوا نزول القرآن، وسمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلموا وجوه قراءته، ولم يكن شيء من ذلك لمن تعلم منهم في الأمصار، فكانوا إذا اجتمع الواحد منهم مع من قرأ على غير الوجه الذي قرأ عليه يعجبون من ذلك، وينكر بعضهم على بعض، وكان لانتشار حلقات تعليم القرآن، في هذا الشأن أثر ملحوظ؛ إذ انتقل الخلاف إلى الغلمان والمعلمين، فخطأ بعضهم بعضا، وأنكر بعضهم قراءة بعض.
وكان لغزو أرمينية وأذربيجان في عام خمس وعشرين من الهجرة النبوية في هذا شأن؛ إذ اجتمع أهل الشام وأهل العراق وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب، وكان أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، فتنازع أهل الشام وأهل العراق في القراءة، حتى خطأ بعضهم بعضا، وأظهر بعضهم تكفير بعض، والبراءة منه، وكادت تكون فتنة عظيمة.
وكان السبب وراء هذا الخلاف عدم مشاهدة هؤلاء نزول القرآن، وبعدهم عن معاينة إباحة قراءته بأوجه مختلفة، فظن كل منهم أن ما يقرأ به غيره خطأ لا يجوز في كتاب الله، فكادت تكون تلك الفتنة.
على أن حذيفة بن اليمان لما وقف على شيء من هذا الخلاف، أنذر أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذاك الخطر الداهم؛
فعن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمنية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان:
يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى» .
[16]
فكانت هذه الحادثة من أهم الأسباب التي بعثت عثمان - رضي الله عنه - على جمع الناس على مصحف واحد ونسخه نسخا للأمصار قاطبة، فقد أكدت ما ظنه - رضي الله عنه - من أن أهل الأمصار أشد اختلافا ممن كان بدار الخلافة بالمدينة وما حولها.
معلوم أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أحرص الناس على الاحتياط للقرآن، وكانوا أيقظ الخلق في حراسة القرآن، ولهذا لم يعتبروا من القرآن إلا ما ثبت بالتواتر [17] وردوا كل ما لم يثبت تواتره؛ لأنه غير قطعي ويأبى عليهم دينهم وعقلهم أن يثبتوا ما ليس بقطعي.
ولو أخذنا منهج أبي بكر - رضي الله عنه - في جمع القرآن لوجدنا مدى الدقة والحرص في اهتمام الصحابة بجمع القرآن.
وفي اختيار أبي بكر الصديق زيد بن ثابت - رضي الله عنهما - للقيام بمهمة جمع القرآن؛ دليل قاطع على حرص الصحابة الشديد، ودقتهم البالغة في جمع القرآن الكريم. وقد بين أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أسباب اختياره زيد بن ثابت؛ حيث قال له: «إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه» [18].
وقد ورد أيضا أن زيد بن ثابت كان قد حضر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم.
أضف إلى ذلك أن زيد بن ثابت كان ممن جمع القرآن حفظا في صدره في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فعن قتادة قال:
«قلت لأنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، ورجل من الأنصار يكنى أبا زيد»
[19].
نخلص من هذا إلى أن أبا بكر - رضي الله عنه - إنما اختار زيد بن ثابت لهذه المهمة الشاقة للأسباب الآتية:
• أنه كان شابا، وفي ذلك خصال توافق غرض الصديق، حيث إن الشاب أقوى وأجلد على العمل الصعب من الشيخ، كما أن الشاب لا يكون صعب القياد، كثير العناد، شديد الاعتداد برأيه، فعند حصول الخلاف يسهل قبوله النصح والتوجيه.
• أنه كان معروفا بوفرة عقله، وهذا مما يؤهله لإتمام هذه المهمة الجسيمة.
• أنه كان غير متهم في دينه، فقد كان معروفا بشدة الورع، والأمانة وكمال الخلق، والاستقامة في الدين.
• أنه كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرى إملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يشاهد من أحوال القرآن ما لا يشاهده غيره، وهذا يؤهله أكثر من غيره ليكتب القرآن.
• أنه كان حافظا للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرضة الأخيرة؛ إذ كان ممن شهدها.
وقد كان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - جديرا بهذه الثقة، ويدل على ذلك قوله لما أمر بجمع القرآن: فوالله! لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرني به من جمع القرآن، قال ابن حجر: وإنما قال زيد بن ثابت ذلك لما خشيه من التقصير في إحصاء ما أمر بجمعه، لكن الله تعالى يسر له ذلك، فشرع زيد بن ثابت يجمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وعاونه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة. [20]
نضيف لما سبق أن الجمع نفسه اصطبغ بصبغة إجماعية لا تقبل غير المتواتر؛ فعن عروة بن الزبير قال: لما استحر القتل بالقراء يومئذ، فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: اقعدا - يوم معركة اليمامة - على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. [21]وعن أبي العالية «عن أبي بن كعب أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون، ويملى عليهم أبي بن كعب …» [22] بهذه المشاركة أخذ هذا الجمع الصفة الإجماعية، فقد اتفق عليه الصحابة - رضي الله عنهم - وتعاونوا على إتمامه على أكمل وجه.
ولمزيد من الإيضاح نريد أن نقف على الدستور الذي اقتفاه الصحابة حين جمعوا القرآن، وقد بلغت رغبتهم في المحافظة على القرآن الغاية القصوى، فمع أنهم شاهدوا تلاوة القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين سنة، ومع أن القرآن كان بالفعل مكتوبا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه كان مفرقا، ومع أن تزويره كان مأمونا، ومع أن زيد بن ثابت - الذي قام بالجمع - كان هو وغيره من الصحابة يحفظون القرآن، فقد اتبعوا في جمع القرآن على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - منهجا دقيقا حريصا، أعان على وقاية القرآن من كل ما لحق النصوص الأخرى من مظنة الوضع والانتحال، ويمكن تلخيص ذلك المنهج في النقاط الآتية:
1. أن يأتي كل من تلقى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما تلقى من قرآن إلى زيد بن ثابت ومن معه، على ذلك ما ذكره ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب قام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب [23].
2. أن لا يقبل من أحد شيء حتى يشهد عليه شاهدان، أي أنه لم يكن يكتفي بمجرد وجود الشيء مكتوبا حتى يشهد عليه شاهدان.
ويدل على ذلك أثر عمر السابق، وكذلك قول أبي بكر لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. [24] وقد اختلف في المراد بالشهادة هنا:
• فقال السخاوي: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن.
• وقال ابن حجر: وكان المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب. ثم ذكر احتمال الوجهين الأولين.
• قال السيوطي: أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام وفاته.
والذي يظهر - والله أعلم - أن المراد الشهادة على كتابته بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه مما عرض على جبريل في العام الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان القرآن محفوظا في صدور كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - فلو أرادوا الإشهاد على حفظه لوجدوا العشرات.
3. أن لا يقبل مما يؤتى به إلا ما تحقق فيه الشروط الآتية:
• أن يكون مكتوبا بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من مجرد الحفظ، مع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا الشرط. قال أبو شامة: وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من مجرد الحفظ [25].
• أن يكون مما ثبت عرضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام وفاته، أي في العرضة الأخيرة؛ وذلك أن ما لم يثبت عرضه في العرضة الأخيرة لم تثبت قرآنيته، وقد مر قريبا احتمال كون الإشهاد على أن المكتوب كان مما عرض في العرضة الأخيرة.
وعن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال:
«لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب وزيد ابن ثابت، قال: فبعثوا إلى الربعة [26] التي في بيت عمر، فجيء بها، قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه، قال محمد: فقلت لكثير - وكان فيهم فيمن يكتب -: هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنهم إنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الآخرة، فيكتبونها على قوله»
[27].
• أن تكتب الآيات في سورها على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا ولا يظنن ظان أن الصحابة الكرام كانوا من أولئك الذين يخالف فعلهم قولهم، أو أنهم وضعوا شروط ثم لم يلتزموها؛ فقد التزم في هذا الجمع كل الضوابط السابقة بدقة صارمة؛ فقد جاء عن الليث بن سعد، قال: أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها؛ لأنه كان وحده [28] [29].
وإذا كان القرآن قد تم جمعه وفق منهج حكيم مضبوط بشروط التوثيق وقواعده في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - فإن المنهج نفسه اتبع في عملية الجمع الثانية التي تمت في عهد ذي النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بل زاد عليه، ويمكننا أن نلخص ملامح هذا المنهج في النقاط التالية:
• الاعتماد على جمع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ويظهر هذا جليا في طلب عثمان - رضي الله عنه - الصحف التي جمع فيها أبو بكر القرآن من حفصة - رضي الله عنها - وقد كانت هذه الصحف - كما مر - مستندة إلى الأصل المكتوب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يقبل شيء في مرحلة الجمع الثاني ليس له وجود في تلك الوثائق التي أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل.
• أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظا مطابقا لما في مصحف أبي بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأقل فلا يكفي حفظ الرجل الواحد ولا يكفي وجودها في مصحف أبي بكر، بل لا بد من الأمرين معا.
• أن يتعاهد لجنة الجمع ويشرف عليها خليفةالمسلمين بنفسه؛
فعن كثير بن أفلح قال: «لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت، قال:
فبعثوا إلى الربــعة التي في بيت عمر، فجيء بها، قال: وكان عثمان يتعاهدهم»
[30].
• أن يأتي كل من عنده شيء من القرآن سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما عنده، وأن يشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده شيء منه، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشك في أنه جمع عن ملأ منهم [31].
فقد ورد أن عثمان - رضي الله عنه - دعا الناس إلى أن يأتوا بما عندهم من القرآن المكتوب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان يستوثق لذلك أشد الاستيثاق؛ فعن مصعب بن سعد قال: قام عثمان - رضي الله عنه - فخطب الناس فقال: أيها الناس! عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة سنة، وأنتم تمترون في القرآن… فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من القرآن شيء لما جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلا رجلا، فناشدهم: لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم [32].
• الاقتصار عند الاختلاف على لغة قريش، كما جاء في حديث أنس بن مالك «أن عثمان قال للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا» [33].
والمقصود من الجمع على لغة واحدة: الجمع على القراءة المتواترة، المعلوم عند الجميع ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن اختلفت وجوهها، حتى لا تكون فرقة ولا اختلاف، فإن ما يعلم الجميع أنه قراءة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يختلفون فيها، ولا ينكر أحد منهم القراءة بها. قال أبو شامة: يحتمل أن يكون قوله: نزل بلسان قريش، أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم، فلعل عثمان - رضي الله عنه - عندما جمع القرآن رأى الحرف الذي نزل القرآن أولا بلسانه أولى الأحرف، فحمل الناس عليه عند الاختلاف [34].
• أن يمنع كتابة ما نسخت تلاوته، وما لم يكن في العرضة الأخيرة، وما كانت روايته آحادا، وما لم تعلم قرآنيته، أو ما ليس بقرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة، شرحا لمعنى، أو بيانا لناسخ أو منسوخ، أو نحو ذلك [35].
ومما يدل على ذلك ما ورد عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال: «فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخروه، قال محمد: فقلت لكثير - وكان فيهم فيمن يكتب -: هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت أنهم إنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة، فيكتبونها على قوله» [36].
• أن يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل بها القرآن، والتي ثبت عرضها في العرضة الأخيرة - كما سبق أن فعل أبو بكر - مع مراعاة ما يأتي:
o عند كتابة اللفظ الذي تواتر النطق به على أوجه مختلفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبقيه الكتبة خاليا عن أية علامة تقصر النطق به على وجه واحد؛ لتكون دلالة المكتوب على كلا اللفظين المنقولين المسموعين متساوية، [37] فتكتب هذه الكلمات برسم واحد - في جميع المصاحف - محتمل لما فيها من الأوجه المتواترة؛ ومن أمثلة ذلك
* قوله سبحانه وتعالى: (في عمد ممددة (9)) [الهمزة]
، بفتح العين والميم، فقد قرأها حمزة والكسائي وخلف وشعبة بضم العين والميم (عمد).
o ما لا يحتمله الرسم الواحد كالكلمات التي تضمنت قراءتين أو أكثر، ولم تنسخ في العرضة الأخيرة، ورسمها على صورة واحدة لا يكون محتملا لما فيها من أوجه القراءة، فمثل هذه الكلمات ترسم في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفي بعضها برسم آخر يدل على القراءة الأخرى [38].
ولم يكتب الصحابة تلك الكلمات برسمين أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية؛ لئلا يتوهم أن الثاني تصحيح للأول، وأن الأول خطأ، وكذلك لأن جعل إحدى القراءات في الأصل والقراءات الأخرى في الحاشية تحكم، وترجيح بلا مرجح؛ إذ إنهم تلقوا جميع تلك الأوجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست إحداها بأولى من غيرها، ومن الأمثلة على ذلك:
* قوله سبحانه وتعالى: وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132]
، فقد قرأها أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: (ووصى بها إبراهيم) من الإيصاء. وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة والشام بإثبات ألف بين الواوين. قال أبو عبيد: وكذلك رأيتها في المصحف الإمام مصحف عثمان - رضي الله عنه - ورسمت في بقية المصاحف بواوين قبل الصاد، من غير ألف بينهما.
* وقوله سبحانه وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]
، فقد قرأها عبد الله بن كثير المكي بزيادة (من) قبل (تحتها). وهي كذلك في المصحف المكي، وفي بقية المصاحف بحذفها [39] إلى آخر تلك النماذج.
بعد الفراغ من كتابة المصحف الإمام يراجعه زيد بن ثابت، ثم يراجعه عثمان - رضي الله عنه - بنفسه.
وكانت هذه هي المراجعة الأولى لزيد - رضي الله عنه - ويظهر من الروايات أنه عرضه مرتين أخريين، فأظهرت الثانية الاختلاف في لفظ (التابوت)، ولم تكشف الثالثة عن شيء؛ «فعن زيد أنه لما بلغ:
* وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 248]
قال زيد: فقلت أنا: التابوت، وقال أبان: التابوت فرفعنا ذلك إلى عثمان، فكتب التابوت، ثم عرضه - يعني المصحف - عرضة أخرى، فلم أجد فيه شيئا، فأرسل عثمان إلى حفصة أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردن الصحيفة إليها، فأعطته، فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء، فردها إليها وطابت نفسه، وأمر الناس يكتبون مصاحف» [40].
وفي هذا الأثر ما يدل على أن المعارضة بما جمعه الصديق كانت بعد الانتهاء من كتابة المصحف الإمام، لمزيد الاطمئنان، وفي هذا ما يدل على بقاء الأوجه الثابتة من القراءة بغير اختلاف بين الحفاظ والعلماء.
وقد نفذ الصحابة - رضي الله عنهم - هذه الضوابط أدق تنفيذ، فكانوا ينتظرون الغائب الذي عنده الشيء من القرآن زمانا إذا لزم الأمر؛ حتى يستثبتوا مما عنده، على الرغم من أن القائمين بالكتابة والإملاء كانوا من الحفاظ القراء؛ فعن أبي قلابة البصري قال: كنت فيمن أملى عليهم، فربما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء، أو يرسل إليه [41].
ومما يدل على حصانة منهج الصحابة في تدوين القرآن وسلامته من النقص أن القرآن الذي نقرؤه اليوم هو الذي نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتغير فيه حرف واحد، وذلك بشهادة كثيرين من أهل الغرب أنفسهم وأصحاب الدراسات الدينية المقارنة فقد أكد "لوبلوا": "أن القرآن الكريم هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر".
وكان "و. موير" قد أعلن ذلك قبله إذ قال: "إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة...فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا" [42].
• إن تدوين آيات القرآن قائم منذ أول سورة نزلت، بل أول آية من القرآن، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه - صلى الله عليه وسلم - على أحد كتبة الوحي فدونه سماعا منه لتوه، ولم يلق - صلى الله عليه وسلم - ربه إلا والقرآن كله مدون في الرقاع وما أشبهها من وسائل التدوين المتاحة، وهذا هو التدوين الأول للقرآن الذي قام جمع الصحابة الكرام للقرآن على أساس منه.
• إن الفترة النبوية التي سبقت جمع القرآن في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - لم تكن فترة إهمال للقرآن - كما يزعم البعض - بل العكس هو الصحيح، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتي الأهمية هما:
o السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته.
o والكتابة على الجلود والعظام والرقاع والعسب.
ومعلوم أن السماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ القرآن وتلاوته، وسيظلان هكذا إلى يوم الدين.
• لم يكن الصحابة بحاجة لجمع القرآن في مصحف واحد والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي بين ظهرانيهم، فلما توفي لم يأمنوا عليه لضياع بعض الرقاع من جهة، ولاستشهاد كثير من الحفظة في المعارك من جهة ثانية، فكان جمعه في مصحف على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وجمع المسلمين على مصحف في عهد عثمان رضي الله عنه.
• لقد التزم الصحابة في جمع القرآن ونسخه دستورا رشيدا قويما، وطبقوه بمنتهى الدقة؛ فكان أن أخرج المصحف بالصورة التي أنزل بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - مصداق قول الحق:
* (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) [الحجر.]
إن القرآن منذ أول آية نزلت منه، حتى اكتمل وحيه لم يغب عن المسلمين، ولم يغب عنه المسلمون، بل كان ملازما لهم، ملازمين إياه ملازمة الروح للجسد.
• إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح، لم تمر عليه فترات غموض، مبهمة المعالم، كما هو الشأن في عهدي الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - وما خضعا له من غموض وإبهام لا يمكن إسقاطه على تاريخ القرآن، بحال من الأحوال؛ لفرق بين بين المقيس والمقيس عليه.