القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | مجموعة مؤلفي بيان الإسلام |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | شبهات حول القرآن |
يدعي بعض المغالطين أن هناك تعارضا بين القرآن الكريم والحقائق الشرعية، مستدلين على دعواهم هذه بعدة تساؤلات منها:
كيف تزعمون أن محمدا اصطفاه الله للرسالة وهيأه، مع وصفه له بالضلال، فهو كقومه كان وثنيا،
* (ووجدك ضالا فهدى (7)) [الضحى؟]
كيف سحر النبي مع أن الله تعالى يذكر كلام الكفار، ووصفهم النبي بالمسحور في مقام الذم في قول الله على ألسنتهم:
* (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)) [الفرقان.]
كيف يسحر النبي مع أن الشياطين لا تسلط على عباد الله الصالحين، كما
* قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)) [الحجر]
* (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)) [النحل]
؟! فسحر النبي دليل أنه من الغاوين، وأنه من الذين يتولون الشيطان.
كيف يذكر في القرآن أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم في
* قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)) [البقرة]
، مع أن هذا الدين اشتهر بالتشدد في إنكار الشرك، وتكفير كل ساجد لغير الله؟!
هادفين من وراء ذلك إلى التشكيك في حقائق الإسلام ومبادئه السامية.
1) المقصود بالضلال هو المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت شرع.
2) سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في الأمور الدنيوية، لكنه معصوم من الخطأ فيما يتعلق بالأمور الشرعية والوحي.
3) للسحر أنواع وليست كلها تسلط من الشياطين على المسحور، وسحر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أشبه بالمرض.
4) الأمر بالسجود لآدم غرضه التحية والإكرام، لا العبادة والإعظام.
إن العرب كانت إذا وجدت شجرة منفردة في صحراء لا شجر معها سموها "ضالة"، فيهتدى بها على الطريق،
* فقال الله تعالى لنبيه: (ووجدك ضالا فهدى (7)) [الضحى]
، أي: وجدتك لا أحد على دينك فهديت بك الخلق إلى، ومن هذا قول العرب: "الحكمة ضالة المؤمن"، أي أن الضلال هنا المقصود به الحقيقة اللغوية لا الشرعية، إذ لم يكن في ذلك الوقت شرع، وهذا المعنى اللغوي المقصود في الآية يوضح الحالة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الفترة، فقد كان وحيدا على طريق الحق فهدى الله به قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما.
وقيل: إنه من قولك: ضللت الطريق. أي لم تعرفه، ومنه قولهم: ضالة الإبل والغنم. يعني التي لم تهتد لقومها، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان موحدا عارفا بالله بفطرته وعقله، ولكنه لم يعرف كيف يعبده؛ لأنه لم ينزل عليه شرع، فهو ضال بهذا المعنى، أي لم يعرف طريق العبادة الصحيحة.
قال الراغب: الضلال ترك الطريق المستقيم؛ عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي صلى الله عليه وسلم:
* (ووجدك ضالا فهدى (7)) [الضحى]
، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة، وقال في يعقوب:
* (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95)) [يوسف]
، وقال أولاده:
* (إن أبانا لفي ضلال مبين (8)) [يوسف]
، إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وقال عن موسى عليه السلام:
* (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20)) [الشعراء]
، تنبيه أن ذلك منه سهو،
* وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ۖ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]
، أي: تنسى وذلك من النسيان الموضوع على الإنسان.
والضلال من وجه آخر ضربان: ضلال في العلوم النظرية، كالضلال في معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة النبوة ونحوهما، المشار إليهما
* بقوله: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)) [النساء]
، وضلال في العلوم العملية، كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه.
ألا ترى أن زيد بن عمرو بن نفيل دخل الجنة مع أنه لم يعرف كيف يعبد الله تعالى،
* فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح [1]، قبل أن ينزل على النبي الوحي، فقدمت إلى النبي سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لن آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؛ إنكارا لذلك وإعظاما له» [[2].]
وعن ابن عمر
«أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني؟ فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم - عليه السلام - خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم»
[3].
* «عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموءودة [4]، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مئونتها، فيأخذها فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها» . [[5]]
فزيد بن عمرو مع جهله بطريق العبادة، إلا أن فطرته دلته على وجود الله، وعقله هداه إلى توحيد الله، فكان يعبد الله على حسب اجتهاده، فهو مع ضلاله عن طريق العبادة الصحيحة، إلا أنه كان معذروا، لذلك أدخله الله الجنة، ومن هذا الباب معنى
* قوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى (7)) [الضحى]
، أي: ضالا عن طريق العبادة الصحيحة فدلك عليها، وإن كنت عارفا بالله موحدا له.
ثم إننا نلزمهم بأمر وهو: هل هم يقولون هذا أيضا في موسى - عليه السلام - عندما قال عن نفسه:
* (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20)) [الشعراء]
، ثم إننا لو تنزلنا لهم وسلمنا لهم بالمعنى الذي يريدون، فإن هذا لا يضره؛ فهو معذور بعدم العلم إذ لم يضل عن علم، بل ضل بغير علم، وهذا لا حرج عليه ولا مؤاخذة فيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لم يخطئ أو لم يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا".
ولكن الحرج كل الحرج فيمن يعرف العلم والهدى ثم يتركه، كما هو حال اليهود والنصارى الذين يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم.
لا بد - أولا - أن نعرف أن حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت في كتب السنة [6]،
فعن عائشة قالت:
«سحر النبي حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله - وفي رواية: وأنه يأتي أهله ولا يأتي - حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال: "أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه"؟ قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب [7]. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم - اليهودي من بني زريق - قال: فيم ذا؟ قال: في مشط ومشاطة [8] وجف [9] طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان [10]. قال: فذهب النبي في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة فقال: "والله، لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين". قلت: يا رسول الله، أفأخرجته؟ قال: "لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثور على الناس منه شرا، وأمر بها فدفنت» .
[11]
فظاهر من الحديث أن السحر كان في الأمور الدنيوية، فهو يخيل إليه أنه أتى أهله ولكنه لم يفعل، ويخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله [12]، وأما الأمور الشرعية والوحي، فإنه معصوم من الخطأ فيها، كما ثبت في النصوص الكثيرة،
* كقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)) [النجم.]
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال:
«كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: " اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق»
[13].
وغير ذلك من النصوص الكثيرة.
قال المازري: أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري: وهذا كله مردود لأن الدليل قد قام على صدق النبي فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس: إن المراد بالحديث أنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه: «حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» [14].
وفي رواية الحميدي: «أنه يأتي أهله ولا يأتيهم» [15]. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد: "فقالت أخت لبيد بن الأعصم: «إن يكن نبيا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله». قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح.
وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النبي من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين.
* ومثل هذا قوله تعالى عن موسى: (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66))، [طه]
فسحر النبي مثل سحر موسى، وهو أن يخيل إليه الشيء، فمن أنكر الحديث ماذا يقول عن هذه الآية؟
ونزيد الأمر وضوحا فنقول: السحر الذي أراده المشركون غير السحر الذي حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهم أرادوا المسحور يعني الذي يصل إلى حد الجنون والافتراء، وقول ما لا يعقل ودخول الجن في المسحور، وهذا لا شك أنه باطل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من نوع التخيل الذي يحصل لأي إنسان يقظة ومناما، وهذا لا يضر في مقام النبوة.
للسحر أنواع منها:
• سحر بالأدوية.
• سحر لا حقيقة له، بل هو خيال أو "خفة يد" كما يقولون.
• سحر بالاستعانة بالشياطين.
إذن فليس كل أنواع السحر تسلطا من الشياطين على المسحور، وذهب بعض العلماء إلى أن سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - من نوع الأدوية؛ قال ابن حجر: واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: «فأما أنا فقد شفاني الله» [16]. وفي الاستدلال بذلك نظر.
لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل«فكان يدور ولا يدري ما وجعه» [17].
وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد:
مرض النبي وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان.... إلخ. ولو سلمنا أنه من النوع الشيطاني، فليس كل تعرض من الشيطان للإنسان معناه أنه ليس من عباد الله، وفرق كبير بين التعرض والمحارشة [18] وبين التسلط، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم عن جابر قال سمعت النبي يقول: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»
[19].
فكل صالح يتعرض له الشيطان، بل هذه وظيفته في الحياة، وهو أقسم على إغواء بني آدم. ولو سلمنا أن هذا من التسلط فإنه لفترة محدودة، ثم بعد ذلك يذهبه الله تعالى، ويرجع المسلم إلى حاله الأولى. هذا آدم - عليه السلام - أغواه الشيطان حتى وقع في الأكل من الشجرة، وهذا موسى قتل نفسا بغير نفس فقال:
* وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص: 15]
ولا يقول أحد أن هذا من التسلط بمعنى التحكم والإغواء والتضليل، بل يبقى آدم وموسى - عليهما السلام - من خير أنبياء الله ورسله.
وبذلك يتبين لنا أن سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشكك في نبوته، وإنما يمثل نقطة مشرقة، إنه سحر، ولكنه لم يخرج عن دائرة الصواب، بل كان في أعلى درجات الاستقامة والهداية، وهذا يدل على أن السحر لم يؤثر في قواه العقلية، ولا في درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثرا في أداء الجسم، وهذا لا علاقة له بالرسالة والوحي والعصمة، ومع أنه أمر جسدي، فإن الرعاية الإلهية قد شملته، وتولاه الله بالحفظ، وسلمه وشفاه [20].
إن سجود العبادة لا يجوز في جميع الملل وعند جميع الرسل، بل لا يسجد الإنسان إلا لله وحده، وأما سجود التحية فهذا كان جائزا في شرع من قبلنا، كما حصل ليوسف عندما خر له أبواه وإخوته سجدا، فلم ينكر عليهم، ومن هذا الباب سجود الملائكة لآدم، وأما في شرعنا فقد نسخ سجود التحية، درءا للفتنة وسدا لأبواب الشرك وطرائقه.
قال القرطبي - رحمه الله - في تفسير
* قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100]
وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود - على أي وجه كان - إنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة [21].
على أن كثيرا من العلماء يقولون: إن السجود هنا المقصود به المعنى اللغوي للسجود، وهو عموم الانحناء والميل والاحترام، ولا يلزم منه أن يخر على الأرض.
وبهذا يتبين لنا أن سجود الملائكة لآدم كان سجود تحية وتعظيم وتسليم، لا سجود عبادة وصلاة؛ لأن سجود العبادة لا يجوز إلا لله - سبحانه وتعالى - وفي سجود الملائكة لآدم - عليه السلام - طاعة لله - عز وجل - فضلا عن تحية عبده عليه السلام.
• لا يمكن أن يوجد تعارض بين القرآن والحقائق الشرعية؛ لأن القرآن والحقائق الشرعية كلها من وحي الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
• ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفاه الله تعالى للرسالة وهيأه لها، فكيف يعده ويصطفيه ثم يضله عن طريق الحق الذي أراده له المولى عز وجل؟! وأما الضلال المنسوب إليه في سورة الضحى إنما قصد به معناه اللغوي، لا المعنى الشرعي، ولو كان المقصود به المعنى الشرعي لكان الأنبياء من قبله من الضالين أيضا، وهذا مستحيل.
• لقد كان سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الدنيوية، لا في الأمور الشرعية كالوحي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما من الخطأ في التبليغ عن الله - عز وجل - ودليل ذلك أنه لم يقل شيئا أثناء سحره، ثم عاد بعد شفائه ونقض ما قال.
• ثم إن السحر ليس كله تسلطا من الشياطين على المسحور، وإن السحر أنواع؛ منه سحر بالأدوية، ومنه سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسحر لا حقيقة له، بل هو خيال أو خفة يد كما يقولون، وسحر فيه استعانة بالشياطين.
• لقد حفظ الله - عز وجل - دينه من أن يحتوي على إشراك به سبحانه، وأن أمره سبحانه بالسجود لآدم، ليس معناه الشرك، أو أنه سجود عبادة وإعظام، إنما كان سجود التحية وإكرام، وكانت هذه تحية في شرع من قبلنا، وقد نسخ في ديننا، فكانت التحية في ديننا بالكلام دون السجود أو الانحناء درءا للفتنة وسدا للذريعة، لأن سجود العبادة لا يكون إلا لله عز وجل.