البحث

عبارات مقترحة:

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

كيف نُحِبُّ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه، وقد امتنَعَ عن بَيْعةِ أميرِ المؤمِنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه، وقاتَلَه؟

العربية

المؤلف باحثو مركز أصول
القسم موسوعة الشبهات المصنفة
النوع صورة
اللغة العربية
المفردات عدالة الصحابة
الجواب المختصر:

مختصَرُ الإجابة:

هذه الشبهةُ قائمةٌ على جهلٍ بموقفِ أهلِ السنَّةِ مما شجَرَ بين الصحابة، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى تَجْليةِ ذلك الموقف: فقد كان مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه متأوِّلًا في قتالِهِ عليًّا رضيَ اللهُ عنه، وإنْ كان في ذلك مخطِئًا، غيرَ أن ذلك لا يُجيزُ الطعنَ في قصدِه؛ لأنه صحابيٌّ، واللهُ تعالى زكَّى الصحابةَ في كتابِه؛ مما يقتضي حملَ تصرُّفاتِهم على أحسنِ المَحامِلِ، لا أسوئِها؛ وعلى ذلك: فليس في امتناعِ مُعاوِيةَ عن بيعةِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهما دليلٌ على طمعِهِ في المُلْك، كما أنهناك فرقًا بين تخطئةِ مُعاوِيةَ في قتالِ عليٍّ، وبين الطعنِ في قصدِه، وقد جاء عن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه ما يدُلُّ على تأوُّلِهِ في القتالِ، وإنْ لم يكن تأوُّلُهُ صحيحًا.


الجواب التفصيلي:

الجوابُ التفصيليّ:

يتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1- ليس في امتناعِ مُعاوِيةَ عن بيعةِ عليٍّ دليلٌ على طمعِهِ في المُلْك:

لأن الدليلَ على ثبوتِ وِلايةِ عليٍّ ووجوبِ طاعتِهِ، مِن المسائلِ المشتبِهةِ التي لا تَظهَرُ إلا بعدَ بحثٍ ونظَرٍ، بخلافِ مَن أجمَعَ الناسُ على طاعتِه، وقد امتنَعَ ابنُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما عن بيعةِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنه، ولم يبايِعْهُ في حياتِه، وإنما بايَعَ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه بعد تنازُلِ الحسَنِ له، واجتماعِ الناسِ عليه.

2- فرقٌ بين تخطئةِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في قتالِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنه، وبين الطعنِ في قصدِه:

وفرقٌ بين «أن يقالَ: إن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه كان مخطِئًا في عدمِ بيعتِهِ لعليٍّ رضيَ اللهُ عنه، وفي قتالِهِ له، وأن تُنقَضَ أدلَّةُ تصويبِ مَن صوَّب مُعاوِيةَ في قتالِهِ عليًّا رضيَ اللهُ عنهما، ويُبيَّنَ وَهْيُ وضعفُ حُجَجِهمُ المتعلِّقةِ بمسألةِ قَتَلةِ عثمانَ بأجوبةٍ مفصَّلةٍ، تجلِّي حقَّ أميرِ المؤمِنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ومنزِلَتَهُ، ثم يقالَ بعد ذلك كلِّه: هو فيما ذهَبَ إليه، كان مجتهِدًا متأوِّلًا»، وبين الطعنِ في ديانةِ مُعاوِيةَ وقصدِه.

فهذا المقامُ الذي يَقِفُهُ أهلُ السنَّةِ؛ لأن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه صحابيٌّ، ومناقِبُ الصحابةِ وفضائلُهم كثيرةٌ، وحقيقٌ على المتديِّنِ أن يستصحِبَ لهم ما كانوا عليه في عهدِهِ ^، وينبغي ألا يألُوَ جهدًا في حملِ كلِّ ما يُنقَلُ على وجهِ الخير، ولا يكادُ يَعدَمُ ذلك.

أما غيرُ أهلِ السنَّةِ، فلا يَقِفون عند هذا الحدِّ، ويَتجاوَزون ذلك الأصلَ القرآنيَّ في الثناءِ على الصحابةِ؛ كقولِهِ تعالى:

﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾

[الفتح: ٢٩]

وقولِهِ تعالى:

﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾

[التوبة: ١٠٠]

فيتجاوزُونه إلى الطعنِ في قصدِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه وبواعثِه، فيَجعَلون ذلك صادرًا عن استكبارٍ عن طاعةِ اللهِ تعالى، أو عن شهوةِ المُلْكِ والرياسة.

3- جاء عن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه ما يدُلُّ على تأوُّلِهِ، وإنْ لم يكن تأوُّلُهُ صحيحًا:

قال ابنُ حجَرٍ في «فتحِ الباري» (23/172): «وقد ذكَرَ يحيى بنُ سليمانَ الجُعْفيُّ - أحدُ شيوخِ البخاريِّ - في «كتابِ صِفِّينَ» مِن تأليفِهِ، بسندٍ جيِّدٍ، عن أبي مسلِمٍ الخَوْلانيِّ؛ أنه قال لمُعاوِيةَ: «أنت تنازِعُ عليًّا في الخِلافة؛ أَوَأَنْتَ مِثلُه؟! قال: لا، وإنِّي لأَعلَمُ أنه أفضَلُ منِّي، وأحقُّ بالأمرِ، ولكنْ ألَسْتم تَعلَمون أن عثمانَ قُتِلَ مظلومًا، وأنا ابنُ عمِّه ووَلِيُّه، أطلُبُ بدمِه؟! ...».

كما أن ادِّعاءَ مُعاوِيةَ بعد التحكيمِ: أنه أحَقُّ مِن عليٍّ بالأمرِ -: كان اجتهادًا منه؛ إذ كان رأيُهُ في الخلافةِ تقديمَ الفاضلِ في القوَّةِ والرأيِ والمعرفةِ، على الفاضلِ في السبقِ إلى الإسلامِ والدِّينِ والعبادة.

إن البَغْيَ على عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه كان خطأً، ولكنْ هناك فرقٌ بين مَن أراد الحقَّ فأخطأَه، وبين مَن أراد الباطلَ فأصابَه؛ هذا ما حدَثَ في تأوُّلِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه.

وعن محمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، قال: «لمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ ياسِرٍ، دخَلَ عمرُو بنُ حَزْمٍ على عمرِو بنِ العاصِ، فقال: قُتِلَ عمَّارٌ، وقد قال رسولُ اللهِ ^: «تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»، فقام عمرُو بنُ العاصِ فَزِعًا يرجِّعُ حتى دخَلَ على مُعاوِيةَ، فقال له مُعاوِيةُ: ما شأنُكَ؟ قال: قُتِلَ عَمَّارٌ، فقال مُعاوِيةُ: قد قُتِلَ عمَّارٌ؛ فماذا؟ قال عمرٌو: سَمِعتُ رسولَ اللهِ ^ يقولُ: «تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»، فقال له مُعاوِيةُ: دُحِضْتَ في بَوْلِكَ، أوَنَحْنُ قَتَلْناه؟! إنما قَتَلهُ عليٌّ وأصحابُه؛ جاؤوا به حتى ألقَوْهُ بين رماحِنا، أو قال: بين سيوفِنا»؛ رواه عبدُالرزَّاقِ في «مصنَّفِهِ» (20427)، ومِن طريقِهِ الإمامُ أحمدُ في «مسنَدِهِ» (17778)، وغيرُه.

وأفعالُ الصحابيِّ لا تُحمَلُ على القصودِ السيِّئةِ، وهي تحتمِلُ القصودَ الحسَنةَ؛ لأن قاعدةَ أهلِ السنَّةِ في التعامُلِ مع الصحابةِ، تقُومُ على تحسينِ الظنِّ، والحملِ على الوجهِ الأحسنِ عند تعدُّدِ الاحتمالات؛ فإذا دار الأمرُ بين حملِ الفعلِ على القصودِ السيِّئةِ؛ كطلَب المُلْكِ والرياسةِ، وبين التأوُّلِ والقصودِ الحسَنةِ -: حُمِلَتْ أفعالُ الصحابيِّ على التأوُّل.

إن الحرصَ على إعمالِ القواعدِ والأصولِ الكليَّةِ في التعامُلِ مع الصحابةِ، يَقِي مِن الظنونِ السيِّئةِ نحوَهم، ويَحفَظُ القلوبَ سليمةً مِن الغِلِّ عليهم؛ وهذا الفرقُ بين أهلِ السنَّةِ المهتدِينَ بهدايةِ القرآنِ، وبين غيرِهم.

ونَختِمُ ببيانِ أن القتالَ بين الصحابةِ كان قتالَ فتنةٍ: فمُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه - وإن كان مخطِئًا في قتالِهِ عليًّا رضيَ اللهُ عنه - فإن ذلك القتالَ كان قتالَ فتنةٍ؛ كما ذهَبَ إليه أكثرُ الصحابةِ والأئمَّةِ مِن بعدِهم، ولم يكن القتالُ مع عليٍّ واجبًا.

والفئةُ الباغيةُ (فئةُ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه) سمَّاها اللهُ عزَّ وجلَّ في القرآنِ الكريمِ بـ «الفئةِ المؤمِنةِ»؛ فقال سبحانه:

﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾

[الحُجُرات: 9]

ولاحِظْ كلمةَ «المؤمِنين».

قال الحافظُ ابنُ كَثِيرٍ: «يقولُ تعالى آمِرًا بالإصلاحِ بين المسلِمينَ الباغِينَ بعضُهم على بعضٍ:

﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾

[الحجرات: 9]

فسمَّاهم مؤمِنين مع الاقتتال.

وبهذا استدَلَّ البخاريُّ وغيرُهُ على أنه لا يُخرَجُ مِن الإيمانِ بالمعصيةِ وإن عظُمَت، لا كما يقولُهُ الخوارجُ ومَن تابَعَهم مِن المعتزِلةِ ونحوِهم، وهكذا ثبَتَ في «صحيحِ البخاريِّ» [(2704)]، مِن حديثِ الحسَنِ، عن أبي بَكْرةَ؛ أن رسولَالله ^ خطَبَ يومًا، ومعه على المِنبَرِ الحَسَنُ بنُ عليٍّ، فجعَلَ ينظُرُ إليه مرَّةً، وإلى الناسِ أخرى، ويقولُ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أن يُصلِحَ به بين فِئتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِين»؛ فكان كما قال صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه؛ أصلَحَ اللهُ به بين أهلِ الشامِ وأهلِ العراقِ بعد الحروبِ الطويلةِ والواقِعاتِ المَهُولة». «تفسيرُ ابنِ كَثِيرٍ» (7/ 374، ط دار طَيْبة، الرياض).

والفئةُ الباغيةُ سمَّاها النبيُّ ^: «فئةً مسلِمةً»، بقولِهِ للحسَنِ بنِ علِيٍّ: «ابْني هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»، ولاحِظْ كلمةَ «المسلِمين». إذَنْ: فقد يَبْغي المسلِمُ مرَّةً أو يَظلِمُ، ومع ذلك يظَلُّ مسلِمًا مؤمِنًا باللهِ سبحانه وتعالى.