الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عادل العضيب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
لما أمر الله إبراهيم ببناء البيت العتيق قال لابنه إسماعيل: "إن الله -عز وجل- أمرني أن أبني له بيتا،" فقال إسماعيل: "أطع ربك -عز وجل-"، قال إبراهيم: "وتعينني"، قال إسماعيل: "وأعينك"، عند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني؛ حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر الذي يعرف بمقام إبراهيم، فوضعه له فقام عليه إبراهيم وهو يبني...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: المسجد الحرام أو مسجد الكعبة قبلة المسلمين، والحرم الذي تهواه الأفئدة، أشرف المساجد على الإطلاق، وهو أو بيت وضع لعبادة الله على ثرى هذه البسيطة، قال ربنا -جل وعلا-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96]. وفي صحيح الإمام البخاري -رحمه الله- أن أبا ذر-رضي الله عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وضع في الأرض، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام". قال أبو ذر: فقلت: ثم أي، قال: "المسجد الأقصى"، قلت: وكم بينهما؟ قال: "أربعون عام"، بناه إبراهيم -عليه السلام- وابنه إسماعيل -عليه السلام-.
وقد ذهب أهل العلم إلى أن إبراهيم -عليه السلام- أول من بنى البيت، ولم يبن قبله، وذهب كثير من المفسرين إلى أن البيت كان موجودا من عهد آدم -عليه السلام-، وأن إبراهيم أعاد بناءه بعد أن اندثر. يدل على ذلك قوله -جل وعلا- حكاية عن إبراهيم: ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].
لما أمر الله إبراهيم ببناء البيت العتيق قال لابنه إسماعيل: "إن الله -عز وجل- أمرني أن أبني له بيتا،" فقال إسماعيل: "أطع ربك -عز وجل-"، قال إبراهيم: "وتعينني"، قال إسماعيل: "وأعينك"، عند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني؛ حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر الذي يعرف بمقام إبراهيم، فوضعه له فقام عليه إبراهيم وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127] فجعل يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127].
كان وهيب بن الورد إذا قرأ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127]. يبكي ويقول: "يا خليل الرحمن؛ ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق ألا يتقبل منك!".
ولما بنى إبراهيم وإسماعيل البيت ووصلا إلى موضع الحجر الأسود جاء جبريل -عليه السلام-، وقد جاء في الحديث أنه نزل من السماء أبيض لكنه اسود من خطايا بني آدم، ومنذ أن رفع إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- قواعد هذا البيت وهو معظم مكرم، يتسابق الناس لخدمته والاعتناء به، ويحذرون أشد الحذر من المساس بقدسيته ومكانته، فهو محفوظ بحفظ الله. قال الله: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25].
وفي العصر الجاهلي وفي وجود النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولكن قبل مبعثه, عزمت قريش على هدم الكعبة وإعادة بنائها بعد حريق صدع بنيانها وأوهن حجارتها؛ لكن لم يجرؤ أحد منهم على إحداث شيء في البيت؛ إجلالا له وخوفا من نقمة تنزل بهم، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم في هدمها، فتقدم إليها واقتلع منها حجرا وهو يقول: "اللهم لا نريد إلا خيرا"، ثم هدم من ناحية الركنين فقالوا: "انظروا الليلة؛ فإن أصيب لن نهدم منها شيئا، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا"، وأصبح الوليد من ليلته لم يصب بشر، فأتموا هدمه، ثم جمعت القبائل لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيمن يرفعه حتى تخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بني عبد الدار جفنة مملوءة دما, ثم تعاقدوا وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم فسموا لعقة الدم، ثم اتفقوا على تحكيم أول داخل المسجد فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، فلما وصلهم أخبروه الخبر، فقال: "هلم إلي ثوبا"، ثم وضع الحجر فيه، وقال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب"، فرفعوا جميعا، ثم وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة الطاهرة في مكانه، وأتموا بناءها بعد أن جعلوا لها بابا واحدا، ورفعوه؛ ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا وسقفوها، وكانت في عهد إبراهيم غير مسقوفة، وجعلوا لها ميزابا؛ لتصريف الأمطار.
ولأن النفقة كثرت بهم حيث اتفقوا ألا يدخلوا في بنائها إلا الطيب لم يستطيعوا إعادتها على قواعد إبراهيم، فبنوها على ما هي عليه الآن، وجعلوا الحِجر دلالة على أن هذا من البيت، والعامة يسمونه حجر إسماعيل، وهذا من الخطأ، لم يصنعه إسماعيل بل قريش هي التي عملت.
ظلت الكعبة على بناء قريش حتى جاء سيل جارف في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فاقتلع السيل مقام إبراهيم وجرفه إلى أسفل مكة، فلما أن وصل الخبر عمر -رضي الله عنه- قدم بنفسه من المدينة إلى مكة ورد المقام إلى مكانه ملاصقا للكعبة، ثم إنه أبعده بعد ذلك عن الكعبة إلى موضعه الآن؛ حتى لا يضايق المصلين الطائفين.
وقد كان عمر- رضي الله عنه- قد أشار على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، فلم يلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك؛ لأنه لم ينزل عليه فيه شيء، فنزل قول الله -جل وعلا-: (مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة:125], فوافق القرآن عمر-رضي الله عنه-.
ولما تولى عثمان الخلافة -رضي الله عنه- اشترى دورا بجوار المسجد، ثم قام بتوسعته واتخذ له رواقا مسقوفا، وهو أول رواق أظل المسلمين، ولقد كان هذا البيت ولا يزال مكانا يأوي إليه الخائفون، ويرفع عنده حوائجهم السائلون، من نزلت به النوازل وتوالت عليه الكروب، أمَّ البيت العتيق ورفع حاجته إلى الله من الملتزم أو من عند الحطيم وزمزم لما في نفوسهم من تعظيم لهذا البيت.
وقد ذكروا أنه لما حج هشام بن عبد الملك دخل الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله بن عمر يطوف, وبيده حذاء مقطع وعليه ملابس لا تساوي إلا دراهم، فاقترب منه وسلم عليه وقال: "يا سالم ألك إلي حاجة؟", فنظر إليه سالم نظرة استغراب ثم قال: "يا سليمان -خليفة المسلمين في ذلك الزمان- أنا في بيت الله وتريد مني أن أرفع حاجتي لغير الله"، لسان حاله: أما تستحي ونحن في البيت العتيق، وعند الركن والمقام، كأنه يقول له: أما تعلم أنه نها تسكب العبرات، وترفع الدعوات، ثم تركه هشام يكمل طوافه بالبيت العتيق، فلما خرج تبعه, قال: "أبيت ونحن في الحرم وقد خرجنا الآن"، فقال له سالم: "أرفع لك حاجة من حوائج الدنيا، أمن حوائج الآخرة"، فقال سليمان: "يا سالم حوائج الآخرة لا يملكها إلا الله، من حوائج الدنيا"، فقال سالم: "يا سليمان؛ والله ما طلبت حاجة من حوائج الدنيا ممن يملكها فكيف أطلبها ممن لا يملكها". لقد كنا عظماء فانحنى الشرق والغرب لنا.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على من بعثه ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا معاشر المسلمين: لم تزل الكعبة على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة 60 لما حاصره بنو أميه, ورموا الكعبة بالمنجنيق فاحترقت وتصدعت حيطانها، حينئذ نقض هدم الزبير وبناها على قواعد إبراهيم وأدخل فيها الحِجر، وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا؛ وذلك لأنه سمع خالته عائشة -رضي الله عنها- تقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "يَا عَائِشَةُ! لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَهَدَمْتُ الْبَيْتَ حَتَّى أُدْخِلَ فِيهِ مَا أَخْرَجُوا مِنْهُ فِي الْحِجْرِ، فَإِنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ نَفَقَتِهِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ، بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَأَلْصَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَوَضَعْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ".
فلما قتل ابن الزبير هدم الحجاج الكعبة وأعادها على بناء قريش بعد أن استأذن الخليفة عبد الملك بن مروان. وظلت على هذا البناء حتى جاء هارون الرشيد أو المهدي، فسأل الإمام مالك عن هدم الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم، فقال له مالك: "يا أمير المؤمنين؛ لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها". فترك ذلك، ولا تزال هكذا إلى آخر الزمان، إلى أن يأذن الله بخرابها على يد ذو السويقتين.
وقد روي أن أول من كساها إسماعيل وكانت تكسى القباطي، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف، وفي الجاهلية كانت تكسى في يوم عاشوراء، ثم صارت تكسى في يوم النحر، وكانت كسوة الكعبة تصنع في مصر ثم صارت تصنع بالمملكة من الحرير الطبيعي الخالص والكتابة التي عليها بأسلاك الفضة المطلية بالذهب، والتكلفة الإجمالية لثوب الكعبة المشرفة تقدر بسبعة عشر مليون ريال -حرسها الله وزادها شرفا وتعظيما-.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ امتثالا لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]. قال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإٍسلام وانصر المسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم انشر الأمن في ربوع بلاد المسلمين كافة.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم فرج هم المهمومين، اللهم نفس كرب المكروبين، اللهم اقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضانا، ومرضى المسلمين، اللهم إنا نسألك إيمانا يباشر قلوبنا، ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبته لنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا للذين آمنوا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحانك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.