العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | باحثو مركز أصول |
القسم | موسوعة الشبهات المصنفة |
النوع | صورة |
اللغة | العربية |
المفردات | الحداثة |
مضمونُ السؤال:
إنكارُ النبوَّاتِ بإنكارِ إمكانيَّةِ وقوعِ المعجِزات؛ لكونِها مخالِفةً للعقلِ، أو مفسِدةً لنظامِه.
مختصَرُ الإجابة:
تجويزُ انخرامِ قوانينِ الكونِ عند المؤمِنين بالنبوَّةِ، ليس أمرًا عَبَثيًّا ولا فَوضَويًّا؛ فهو:
أوَّلًا: جائزٌ عقلًا، وواقعٌ وجودًا، وإنكارُهُ مكابَرةٌ، وهو إنما يَخرِمُ العادةَ، ولا يَخرِمُ النظامَ العقليَّ، بل هو موافِقٌ للضروريَّاتِ العقليَّة، أو غيرُ معارِضٍ لها، وفرقٌ بين المستحيلِ عادةً، والمستحيلِ عقلًا؛ فالثاني: مِن مُحالاتِ العقولِ الذي لا تأتي به الأنبياءُ، والأوَّلُ: مِن مُحاراتِ العقولِ الذي تأتي به الأنبياءُ، ولا يتعارَضُ مع العقل. وثانيًا: أن المؤمِنين بالنبوَّةِ لا يقولون: بأن انخراقَ السُّنَنِ يتحقَّقُ بلا قيدٍ ولا شرطٍ ولا ضابط، وهم يقولون: إن آياتِ الأنبياءِ تتَّصِفُ بالظهورِ والقطعيَّةِ والجَلاءِ، وليست أمورًا ظنِّيَّةً احتماليَّةً، ودعوى إفسادِ العقلِ الإنسانيِّ والمعرفةِ الإنسانيَّةِ منقلِبةٌ على الناقِدين للنبوَّةِ، ممن جعَلوا الحقائقَ نسبيَّةً، لا مطلَقةً.
الجوابُ التفصيليّ:
إن هذه الشبهةَ مما استنَدَ إليه منكِرو المعجِزاتِ منذُ القديم، وقد أرَّخ مقالتَهم تلك أبو عبدِ اللهِ الرازيُّ؛ كما أنها أُثِيرتْ في العصرِ الحديث.
والردُّ عليها - وَفْقًا لما قرَّره عددٌ مِن أهلِ العلمِ والباحِثين المعاصِرين تفصيلًا - مِن وجوه:
1- المعجِزاتُ خرقٌ للعادةِ، لا خرقٌ للضروريَّاتِ العقليَّة، بل هي موافِقةٌ للضروريَّاتِ العقليَّة، أو غيرُ معارِضةٍ لها:
فإن الضروريَّاتِ العقليَّةَ - مِثلُ كونِ الكلِّ أكبَرَ مِن الجزء، وامتناعِ اجتماعِ النقيضَيْنِ وارتفاعِهما - ليس في المعجِزاتِ ما يضادُّها.
ومنشأُ إنكارِ المعجِزاتِ، واستبعادِ وقوعِها، هو اعتقادُ المنكَرِ: بأن نظامَ الكونِ إنما هو مِن طبيعةِ الأشياءِ التي لا يَقبَلُ الانفكاكَ عنها، وليس بجعلٍ اختياريٍّ مِن الله؛ إذْ لا بدَّ إذا كان اللهُ جاعلَ نظامِ الكونِ، وكان مختارًا في جعلِهِ: أن يَقدِرَ على تغييرِهِ متى شاء ذلك؛ فاللهُ تعالى في عقيدةِ المؤمِنين: إذا شاء، فإنه يسلُبُ الأشياءَ ما جرَتْ سُنَّتُهُ فيها، ويكونُ هذا السلبُ خَرْقًا منه للعادة، لا خَرْقًا للعقلِ حتى يكونَ مُحالًا عقليًّا؛ فكما تكونُ إماتةُ الأحياءِ مِن القتَلةِ بإذنِ اللهِ تعالى، يكونُ إحياءُ الموتى مِن أنبياءِ اللهِ أيضًا بإذنِ الله، ولا فرقَ بين الحالَيْنِ إلا بكثرةِ وقوعِ الأوَّل، وقلَّةِ وقوعِ الثاني، مع تساوِيهِما في الإمكانِ العقليِّ بالنسبةِ إلى قدرةِ اللهِ تعالى.
2- تجويزُ انخرامِ قوانينِ الكونِ عند المؤمِنين بالنبوَّةِ، ليس أمرًا عَبَثيًّا، ولا فَوضَويًّا:
فالمؤمِنون بالنبوَّةِ لا يقولون: بأن انحرافَ السُّنَنِ يتحقَّقُ بلا قيدٍ ولا شرطٍ ولا ضابط؛ بل إنهم مِن أشدِّ الناسِ إيمانًا بالنظامِ الكونيِّ، وانضباطِهِ، وصرامتِه.
ولا أدَلَّ على ذلك مِن أن المؤمِنين بالنبوَّةِ يستدِلُّون بإحكامِ الكونِ وإتقانِ صنعِهِ على خالقٍ عليمٍ.
ومع ذلك: فإنهم يقولون: «إن اللهَ الخالقَ للكونِ، والواضعَ لقوانينِهِ، لا يُعجِزُهُ أن يَخرِقَ بعضَها إذا شاء بحكمتِهِ وإرادتِه؛ فهو أعلَمُ بها، وأقدَرُ عليها».
وأمرُ انخرامِ قوانينِ الكونِ إنما هو أمرٌ محكومٌ بإرادةِ الله، وحكمتِهِ، وعلمِهِ، ورحمتِهِ، وهو محكومٌ أيضًا بالبقاءِ على الأصل، وليس هو الغالبَ ولا الأكثرَ.
فحقيقةُ ما يقولُهُ المؤمِنون بالنبوَّةِ: أن الكونَ محكومٌ بقوانينَ تَضبِطُ أحداثَه، وتحكُمُ مشاهِدَه، وأن ذلك هو الأصلُ المطَّرِدُ فيه، ولكنَّ اللهَ قد يُحدِثُ انخرامًا في بعضِ تلك القوانينِ إذا اقتَضَتْ حكمتُهُ وإرادتُهُ ذلك.
فلا يَصِحُّ إذَنْ تصويرُ مسألةِ المعجِزاتِ على أنها إيمانٌ بانخرامٍ دائمٍ مضطرِدٍ للكونِ في هذه الحياةِ الدنيا، وتصويرُ المؤمِنين بها على أن حالَهم يُشبِهُ حالَ المَجَانِين.
3- آياتُ الأنبياءِ تتَّصِفُ بالظهورِ والقطعيَّةِ والجَلاء، وليست أمورًا ظنِّيَّةً احتماليَّةً:
فخروجُ الماءِ مِن بينِ أصابعِ النبيِّ ^، أمرٌ ظاهِرٌ مُدرَكٌ بالضرورةِ الحسِّيَّةِ لمن أحَسَّ بها وحضَرَها، والحسُّ يُفِيدُ اليقينَ والقطع، وكذلك الحالُ في تكثيرِ الطعام، وتحريكِ الأشجار، وشفاءِ المريض، وحنينِ الجِذْع؛ فكُلُّ هذه الأمورِ كانت مُدرَكةً بالضرورةِ الحسِّيَّةِ، وليست أمورًا ظنِّيَّةً.
والمؤمِنون لا يَقبَلون كلَّ دعوى في انخرامِ السننِ الكونيَّة، ولا يُدخِلون في ضِمنِ أدلَّتِهم على النبوَّةِ إلا ما كان ظاهرًا على حقيقتِه، قطعيًّا في تحقُّقِ انخرامِ السننِ فيه؛ فلا يَصِحُّ أن يقالَ مع ذلك: «إن المعجِزاتِ أمورٌ ظنِّيَّةٌ تعارِضُ أمورًا قطعيَّةً».
4- دعوى إفسادِ العقلِ الإنسانيِّ، والمعرفةِ الإنسانيَّةِ، منقلِبةٌ على الناقِدين للنبوَّة:
فإن كثيرًا منهم تبنَّى آراءً ومواقفَ تؤدِّي بالضرورةِ إلى إحداثِ أضرارٍ بالغةٍ بالمنظومةِ المعرفيَّة، وتُدخِلُ العقلَ الإنسانيَّ في مَتَاهاتٍ مِن الشكوك، وأصنافٍ مِن الاضطراباتِ المعرفيَّة، وتتسبَّبُ في دخولِ ألوانٍ مِن الغموضِ والقلَقِ إلى ساحاتِ المعرفة.
فكثيرٌ مِن أتباعِ التيَّارِ الإلحاديِّ: صرَّح بإنكارِ المبادئِ الفطرِيَّةِ البَدَهيَّة، وانتهى إلى أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ نسبيَّةٌ في كلِّ مجالاتِها، وقرَّر بأنها لا تقومُ على أصولٍ كلِّيَّةٍ مطلَقةٍ، وهذه الرؤيةُ تؤدِّي - بالضرورةِ - بالمعرفةِ الإنسانيَّةِ إلى الوقوعِ في مَتَاهاتِ السَّفسَطةِ القاتلة، وتُدخِلُ العقلَ الإنسانيَّ في أمواجٍ مِن الشكوكِ العاتية؛ بل إنها - فضلًا عن ذلك - تُغلِقُ البابَ أمام نقدِ موقفِ المؤمِنين مِن المعجِزات، وتُوقِعُ أتباعَها في التناقُضِ المنهجيِّ الصارِخ؛ إذْ كيف يُمكِنُ لمَن يُؤمِنُ بنسبيَّةِ الحقيقةِ أن يدَّعِيَ أن قولَ المخالِفين له باطِلٌ مخالِفٌ للعقل؟! وأما أتباعُ التيَّارِ الرُّبُوبيِّ، فحالُهم لا يختلِفُ كثيرًا عن حالِ أتباعِ التيَّارِ الإلحاديِّ؛ فإنهم وقَعوا في أصنافٍ مِن المغالَطاتِ المنطقيَّة؛ فإنهم في إنكارِهم للمعجِزاتِ وقَعوا في «مغالَطةِ الانقلابِ الإقراريِّ»؛ حيثُ إنهم سلَّموا بخلقِ اللهِ للكون، وقدرتِهِ على إحداثِهِ مِن بعدِ العدَم، ثم اعتقَدوا أنه لا يُمكِنُ إحداثُ انخرامٍ جزئيٍّ في بعضِ قوانينِ الكونِ التي وضَعها اللهُ ابتداءً، وسلَّموا بخلقِ اللهِ للكون، ثم طَفِقوا يتشكَّكون في كمالِ حكمتِهِ وقدرتِهِ وعلمِه، وكُلُّ ذلك اضطرابٌ يُوقِعٌ العقلَ الإنسانيَّ في صنوفٍ مِن القلَقِ والحَيْرةِ والغموض.
خاتِمةُ الجواب - توصية:
وبعدُ؛ فلعلَّ ما عَلِمتَهُ مِن بُعْدِ مُثِيري هذه الشبهةِ عن العقلانيَّةِ التي يَدَّعون حمايتَها، يستحِثُّكَ إلى التأمُّلِ في الحمولةِ العقلانيَّةِ الحقيقيَّةِ التي جاء الوحيُ بها؛ فإنك ستَظفَرُ مِن ذلك على دليلٍ على صدقِ النبيِّ ^، ونعني بذلك: ما اشتمَلَتْ عليه دعوةُ النبيِّ ^؛ مِن إرشادٍ لمصالحِ العبادِ في الدنيا والآخِرة، ومِن حثٍّ على ما أرشَدَتْ إليه العقول، ومِن موافَقةٍ للفِطَرِ المستقيمة؛ وذلك مِن أعظمِ براهينِ صدقِ النبيِّ ^، وشواهدِ نبوَّتِه.