أيها الداعون أعظموا الرغبة!

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله ...

أما بعد:

فإن الله -تبارك وتعالى- تعرّف على عباده بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأراهم من آياته ما يزيدهم له عبوديةً وافتقاراً، إما اختياراً وإما اضطراراً: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[آل عمران: 83].

ومِن أجلى الصور التي يظهر فيها هذا المعنى: قدرته تعالى وعجز عباده، وغناه جل وعلا، وافتقار خلقه إليه، حينها يجد العبدُ نفسه -بفطرته- منقاداً لسؤال الله -تعالى-، والتعلق به: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [الروم: 26].

ولذا كان من أحبّ العبادات إلى الله -تعالى- دعاؤه، والتضرع إليه، وسؤاله، والانطراح بين يديه، وإظهار الافتقار والحاجة إليه، بل ندب عبادَه إلى ذلك ندباً مؤكداً، وتوعّد من أعرض عن دعائه، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].

ومن أسرار القرآن في شأن الدعاء: أن جميع الأسئلة التي ذكرت في القرآن، وصُدّرت ب "يسألونك" أتى الجواب فيها ب "قل" إلا الموضع المتعلق بالدعاء؛ فجاء الجواب عنه بأسلوب آخر، فاستمعوا له: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].

فلم يأت السؤال أصالةً بقوله: "يسألونك" أو "ويسألونك"، بل جاء مقروناً بالجملة الشرطية التي كلما تحققت تحقق موجبها.

وأيضاً: فإن الله -تعالى- قال: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ) فلم يقل: "فقل" إني قريب؛ فكأن قوله: "قل" هو عمليةٌ تطيل القرب منه سبحانه، ويريد الله أن يجعل القرب في الجواب عن السؤال بدون وساطة: (فَإِنِّي قَرِيبٌ)، فجعل الله الجواب منه لعباده مباشرة، فسبحان من فتح لعباده برحمته أبواب رحمته، ودعاهم إلى شوقهم إليه بحسن موعظته، وسبحان مَنْ يتقرب إلى من يتباعد منه، ويتحبّب بالنعم إلى من يتبغض بالمعاصي إليه؛ فأحبُّ عباده إليه أسألهُم لما لديه.

والله -عز وجل- "جابِرُ القلوبِ المنكسرةِ لأجلِه، فهو سبحانه وتعالى يتقرّبُ من القلوبِ الخاشعةِ له كما يتقربُ ممن يناجيهِ في الصلاةِ، وممَّن يعفِّرُ له وَجْهَهُ في الترابِ بالسجودِ، وكما يتقربُ من وفدِهِ وزوارِ بيتهِ الواقفينَ بين يديه، المتضرعينَ إليه في الوقوفِ بعرفةَ، ويدنُو ويباهِي بهم الملائكةَ، وكما يتقربُ من عبادِهِ الدائبينَ له، السائليَن له، المستغفريَن من ذنوبهِم بالأسحارِ، ويجيبُ دعاءَهم ويعطِيهم سؤالَهم، ولا جبَر لانكسارِ العبدِ أعظمُ من القربِ والإجابةِ" [الذل والانكسار، للعزيز الجبار (1/293) ضمن مجموع رسائل ابن رجب].

أيها المسلمون -أيها المفتقرون إلى الله-: ومع جلالة هذه العبادة العظيمة ومنزلتها عند الله، إلا إن بعض الناس يقع منه تقصير في إعطاء هذه العبادة حقها من العناية، والتحلي بآدبها التي نبّه عليها الشرعُ المطهر.

ومقامٌ كهذا تحسن فيه الإشارة المغنية عن طول العبارة، في جملة مسائل، منها:

المسألة الأولى: التقصير في التحقق بهذه العبادة، فبعض الناس لا يدعو إلا عند نزول المصيبة، أو حدوث نكبة، مع أن هذه الحال يشترك فيها المسلمُ والكافر، بينما يمتاز المؤمن بحرصه على الدعاء في شأنه كلّه؛ لأن الدعاء ليس مجرد طلبٍ لحاجة فحسب، بل هو متضمن للثناء والشكر.

والدعاءُ، متضمنٌ لإعلانِ بالتبرؤ من الحول والقوّة، والتعلق بمن بيده مقاليد السماوات والأرض.

وفي الدعاء، إظهار الافتقار للملك القهّار، وهي حالٌ يحبها الله -تعالى-، فإذا قارنها انكسارٌ وخضوع، وافتقارٌ وخشوع؛ فقلّ أن يُردّ صاحب هذا الدعاء، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء -كما قال بعض العلماء- [المصدر السابق (1/307)].

المسألة الثانية: تتعلق بحال الداعي إذا دعا، فإن بعضَ الناس -خصوصاً إذا اشتدت الكربة، أو عظمت المصيبة، أو استغلقت حلولها- يدعو الله وفي قلبه ضعف في اليقين بأن الله -تعالى- سيفرّجها، لا شكّاً في قدرة الله، ولكن تعظيماً لتلك المصيبة، واستبعاداً لحلها، وهذا حال لا يليق بالمؤمن أبداً، بل شأن المؤمن -إذا بذل الأسباب الشرعية والقدَرية، ولم يدْع بمحذور شرعي- الثقةُ المطلقة بالله -تعالى-، فمع الله -سبحانه- لا تجرّب ولا تحاول، بل ادع وأنت قوي الثقة به سبحانه، لا يقع في قلبك ذرة شك في أن الله -تعالى- قادر على تيسير أمرك، وتفريج كربتك، ألم تر ماذا قال موسى -عليه الصلاة والسلام- حين قال له قومه -وقد تراءى الجمعان-: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61 - 62].

قالها وهو حين أقبل على البحر لم يوح إليه بكلمة واحدة، لكنه كان يتعامل منْ يقول للشيء كنْ فيكون.

وبمثل هذه الثقة المطلقة تَنفتح الأبواب، وتفرّج الكروب، وتُقضى الحاجات، حتى قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولو توكل العبدُ على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه -وكان مأمورا بإزالته- لأزاله" [مدارج السالكين (1/ 103)].

وأحدّثكم -أيها الناس- عن قصة صديق لي، حدثني بقصته وقد أثقله الدَّين، بعد أن انتهى أو قارب من الانتهاء من بناء بيته، حدثني بها قبل سنة من الآن -وهو يوصيني ويذكرني بأهمية وأثر الدعاء- فقال: لم أكن أفتُر من دعاء الله وسؤاله أن ييسر قضاء ديني، فوالله ما مرّت أيام إلا وقد رأيت رؤيا شَعَر منها أن فيها فرجاً قريباً له، فما مرّت أيام إلا ويتصل بي أحدُ التجار، ويقول: أنت فلانٌ؟ فقلت: نعم، قال -بعد السؤال عن الأخبار وعرف أني أبني بيتاً- أعطني رقم حسابك، فأعطاه، فبعد أيام تم تحويل 100,000 لحسابه، فاتصل صاحبي على البنك، ليتثبت من الحوالة خشية أن يكون هناك خطأ في الحوالة، فإذا به صاحبه الذي اتصل به، فاتصل به صديقي ظناً منه أنه يريدها للفقراء والمساكين، قال: كلا! هي لك هدية، وأقسمتُ ألا تردّها، وبعد مدة أظنها سنة تقريباً، إذا برسالة من البنك تفيد بحوالة قدرها 100,0000 ريالٍ أخرى! فاتصلت بالبنك وإذا بصاحبي يتصل، وقلت له: قد قبلت منك الأولى فلم أعدتَ الكرة مرة؟ قال: خذها ولن أعيدها، وأقسمتُ ألا تردها، فقال صاحبي: وأقسمتُ عليك ألا تعود لمثلها.

وشاهِدُ المقال: أن صاحبي كان كثير السؤال لله في صلاته بتيسير الدَّين وقضائه، ووالله إن المائتي ألف التي حوّلها كانت كافيةً في سداد ديني، وقضاء حاجتي.

وخلاصة القول هنا: ألا نفكّر في كيفية الفرج -حينما ندعوا ربنا-، بل نجتهد في تحقيق التضرع، والانكسار، وأن يكون الداعي قوي الثقة بالله، مع فِعل ما أَمَرنا ربُّنا به من أسباب.

ومن المعاني المهمة في هذا المعنى: ما أشار إليه الفضيل بن عياض -رحمه الله- بقوله: "واللَّه لو يئستَ من الخلقِ، حتَّى لا تريدَ منهم شيئًا، لأعطاكَ مولاكَ كُلَّ ما تُريد" [جامع العلوم والحكم، ت ماهر الفحل (2/ 588)].

أي: انقطِع من التعلق بالخلائق، واصمد في حوائجك للخالق، وسترى العجب.

المسألة الثالثة: مما يجدُر التنبيه عليه في هذا المقام: الاستعجال، وترك الدعاء، بسبب تأخّر تحقيق المطلوب، وهذه من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه، وهذا النوع من الناس: "بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويَسقِيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستَجب لي" [صحيح البخاري ح(6340)، صحيح مسلم ح(2735)].

وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء" [صحيح مسلم ح(2735)].

ولو علِمَ العبدُ ما يخبئه اللهُ له من مِنَح وعطايا في كثرة الدعاء لتمنّى تأخّر الإجابة، فإن الله -تعالى- قد يؤخّر الإجابة:

- ليفتح على عبده باب التذلل لله العزيز، الذي هو غاية الأنس والسعادة.

- وقد يؤخر الإجابة عنه، ليزيد من أجر ثوابه بالدعاء.

- وقد يؤخر الله إجابته، ليزيد من رفعة درجته عنده، ويقرّبه منه، وفي الأثر: "إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه، قال: يا جبريل! لا تعجل بقضاء حاجة عبدي؛ فإني أحبُّ أن أسمع صوته" [المعجم الأوسط للطبراني ح(8442)، قال الهيثمي: "وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك" مجمع الزوائد(10/ 151)].

"وما دام العبد يُلِح في الدعاء، ويطمع في الإجابة غير قاطع الرجاء؛ فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتح له" [أسباب المغفرة، لابن رجب، ص: 2)].

ومن رحمة الله -تعالى- بعبده: أن العبدَ يدعوه بحاجة من الدنيا فيصرفها عنه، ويعوضه خيرًا منها -مما يخفيه الغيبُ عنه-: إما أن يصرف عنه بذلك سوءا، أو يدّخرها له في الآخرة، أو يغفر له بها ذنباً، ويرفع بها درجته، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها.

وبالجملة -يا عبدَ الله-: مهما شعرتَ أن ثمةَ أمواجًا عاتية تُبعِدُك عن شاطئ الآمال، أو تقذف بقلبك في شطئان الأحزان، فلن تجد كالدعاء مختصِراً لطول الطريق، وكالصبر سلاحًا في وجه العقبات!.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ...

الخطبة الثانية:

الحمد لله ...

أما بعد:

أسباب قبول الدعاء، يشير العلاّمة الرباني ابن القيّم -رحمه الله- بكلمات مختصرة إلى أسباب قبول الدعاء، فيقول: "وإذا جمع مع الدعاء: حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادفَ وقتاً من أوقات الإجابة الستة، وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر، حتى تقضى الصلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر.

وصادفَ خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذُلا له، وتضرعًا، ورقّة.

واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله، والثناء عليه، ثم ثنّى بالصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبةَ والاستغفار، ثم دخل على الله، وألح عليه في المسألة، وتملّقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة.

هكذا قال رحمه الله في تقديم الصدقة بين يدي الدعاء، ومأخذه: قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المجادلة: 12].

ومع كون الآية منسوخة، إلا أنه استدل بها رحمه الله بدلالة الأوْلى، أي: إذا كانت مناجاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقدّم المناجي بين يدي نجواه صدقة، فالله -تعالى- من باب أولى، وهو في هذا موافق لشيخه ابن تيمية، وهو قول مرجوح عند طائفة من المحققين، كشيخنا العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-، ووجْه ضعف هذا القول: أنه لم ينقل عن الصحابة تتبّع مثل هذا والحرص عليه -والله أعلم-.

فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرد أبدا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم" [الجواب الكافي، ص: 12)].

اللهم ارزقنا صدق التعلق بك، ولذيذ مناجاتك، وأنس القرب منك، ولا تحرمنا ذلك بمنّك وكرمك.