العربية
المؤلف | صالح المغامسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - الطهارة |
إن ما مضى من حديث كان عن طهارة الجوارح اقتداء بسنته وهديه وطريقته -صلوات الله وسلامه عليه- لكن المبلغ الشرعي للأمة -عليه الصلاة والسلام- كما أمركم تعني بطهارة الجوارح أمر الأمة بأن تعنى بطهارة القلوب "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"، وفي زماننا هذا -عياذا بالله- كثرت الآراء الضالة والتي أحيانا ينسبها فاعلها والقائمون بها إلى الإسلام، والإسلام منها براء....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاطر الأرض والسماوات، أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأودع الكتاب الذي كتبه عنده أن رحمته تغلب غضبه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله؛ ختم الله به النبوة، وأتم الله به الرسالات، فصلى الله وسلم عليه ما تلاحمت الغيوم وما تلألأت النجوم، اللهم وعلى آله وأصحابه ومن اكتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1- 2].
أيها المؤمنون: أخرج الشيخان في صححيهما من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: بينما كنت ذات ليلة في مسير مع النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقال لي: "أمعك ماء"؟ قلت: نعم. فنزل عن راحلته فمشى حتى غاب في سواد الليل، ثم جاء، فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه، وكانت عليه جبة من صوف، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة، فغسل ذراعيه، ومسح برأسه، قال المغيرة: ثم أهويت لأنزع خفيه صلوات الله وسلامه عليه فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، ثم مسح عليهما، أي: على خُفّيه صلوات الله وسلامه عليه.
أيها المؤمنون: دين الله -عز وجل- يسر وربنا يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، ويقول تعالى (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
وإن من أعظم ما ينبغي على الفقهاء والمتصدرين للفتوى في الأمة إدراك ذاك والعلم أن هذا الدين دين رحمة ودين يسر ، قال شوقي -رحمه الله-:
الدينُ يسرٌ والخلافةُ بيعةٌ | والأمرُ شورى والحقوقُ قضاءُ |
والنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الخبر الصحيح ماضٍ في سفره، وفي جواره صاحبي جليل وهو المغيرة بن شعبة، والمغيرة أحد من شهدوا بيعة الرضوان، وهو ثقفي، وثقيف قبيلة معروفة كانت تسكن الطائف منها كما غيرها من القبائل الصالحون ودون ذلك، فمنها المختار بن أبي عبيد الكذاب، ومنها الحجاج بن يوسف الذي أسرف في سفك الدماء، ومنها هذا الصحابي الجليل كان رجلاً عُرف بدهائه حتى ضُرب به المثل، وقد أُوتي حظّا عظيمًا في الدهاء والمكيدة.
وقد روي أنه كان قبل إسلامه في رفقة من قوم من بني الحارث بن كعب، فأتوا على المقوقس عظيم مصر من مصر في الإسكندرية، فسألهم كلكم من بني مالك؟ قالوا: نعم، إلا هذا الرجل يشيرون إلى المغيرة، فأكرمهم وأعطاهم الهدايا، ولم يعطِ المغيرة شيئًا يُذكر، فظن المغيرة -وكان ذلك في الجاهلية- أن هؤلاء القوم الذين كانوا معه في السفر سيواسونه؛ لقلة مال يده، لكنهم اشتروا الهدايا لأهليهم ولم يواسوا المغيرة بشيء.
فلما مضى معهم أظهر لهم أن صداعًا في رأسه، وأخرجوا خمرهم ليسكروا، فقال: إن أكفيكم السقيا، فأخذ يسقيهم حتى ناموا ثم قتلهم جميعا، ثم مضى بما أُعطوا من هدايا، ويروى -والعلم عند الله- أنه قدم بها إلى المدينة فلما أسلم كان أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- رجلاً عليمًا بأخبار العرب، ولذلك كان في الجاهلية -رضوان الله تعالى عليه- قبل الإسلام يأتي الناس بيت أبي بكر للعلم بالأنساب وأخذ التاريخ عنه، ولكرمه -رضوان الله تعالى عنه- والسؤدد إنما يكون بأحد هذين الأمرين أو بهما جميعا كما كان الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-.
والمقصود أن أبا بكر سأله عن القوم الذين معه فأخبره بالخبر، فيروى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قبِل منه الإسلام ولم يقبل منه ما سرق من أولئك القوم، وقال: "إن الغدر لا خير فيه"، والمراد أن هذا الصحابي الجليل هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الماء ثم غاب في سواد الليل ليقضي حاجته، ثم عاد فتوضأ، والأصل أن المتوضئ يغسل رجليه هذا الذي يعرفه المغيرة -رضي الله عنه وأرضاه- فلما مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأسه علم المغيرة أن النبي عليه السلام سيغسل رجليه فانخفض ومال بنفسه إلى خفّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينزعهما صنيع الخادم للمخدوم، وأكرم بالخادم، لكن أكرم أيما كرم بالرسول -صلوات الله وسلامه عليه-، والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- بسلامة قلوبهم وزكاة أنفسهم ولفطنة يحملونها يعلمون أيّ شرف عظيم هو خدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهوى بنفسه -رضي الله عنه- وأرضاه لينزع خفّه، لكن الصادق المصدوق -صلوات الله عليه- قال له: "دعهما" أي اترك الخفين على حالهما، ثم قال له معلما مبينا "فإني أدخلتهما طاهرتين" أي: لبستهما على طاهرة، لبستهما بعد وضوء، ثم إنه -صلوات الله وسلامه عليه- مسح على الجلد.
أخذ العلماء جمهور الأمة من هذا الحديث أن المسح على الخفين رخصة لا ينبغي للمؤمن أن يتردد فيه، قال الإمام احمد -رحمه الله-: "ليس في نفسي من المسح على الخفين شيء، أحفظ أكثر أربعين حديثًا عن الصحابة في جواز المسح على الخفين".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "حدثني سبعون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على خفيه".
ويشترط العلماء بناء على هذا الحديث أن المسح إنما يجوز إذا كان الإنسان قد لبس خفين أو جوربين، وما يسميه العرب اليوم بالشراب إذا لُبس على طهارة، أي لُبس على وضوء، وكل حائل بينك وبين عضو من الوضوء، يجوز المسح عليه، وقد دل المسح عند النبي -صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة: على الخفين وعلى العمامة وعلى الجبيرة.
فأما المسح على العمامة فإنها إن كانت محنكة أي: أن الإنسان يضعها تحت حنكه تصبح مجموعة على الرأس، ويقوم مقامها اليوم الكثير مما يلبسه الناس مما يتقون به شدة البرد، لا العمامة المعروفة التي نلبسها في غدونا ورواحنا صيفا وشتاء، فهذه لم تكن معقودة على الرأس، فالظاهر أنه لا يجوز المسح عليها.
والجبيرة التي يتقى بها الكسور وأشباهها مما يوضع على الذراع وعلى القدم أو على الوجه يتقى به ضرر مما يمليه الأطباء، كل ذلك يجوز المسح عليه على التفصيل التام.
أما الخفان والجوربان وما يقوم مقامهما، فإن الإنسان يمسح على ظاهرهما فقط يضع اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى في آنٍ واحد، ويفرّج بين أصابعه ويمسح على ظاهر الجورب.
وأما العمامة وما يقوم مقامها فيمسح على أكثرها، وأما الجبيرة وما يقول مقامها فإنه يمسح عليها كلها، العمامة على أكثرها، والجبيرة عليها كلها، والجوربان وما يقوم مقامهما يمسح على ظاهرهما دون أسفلهما.
قال علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-: "لو كان الدين بالرأي لكان المسح على أسفل القدمين أولى من المسح على ظاهرهما، لكنني –قول علي- رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسح على ظاهر الخفين".
فهذا صنيعه -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذه رخصة من الله -عز وجل- لعباده، والله -عز وجل- يحب أن تُؤتى رُخصه كما يحب أن تُؤتى فرائضه، تبارك اسمه وجل ثنائه.
وهذا كله يدل على يسر الشريعة وعلى عناية المؤمن بصلاته وحسن الاستعداد لها قال -عليه الصلاة والسلام-: "الطهور شطر الإيمان".
جعلني الله وإياكم ممن يستمتع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه غنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى والصلاة وعلى عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فإن ما مضى من حديث كان عن طهارة الجوارح اقتداء بسنته وهديه وطريقته -صلوات الله وسلامه عليه- لكن المبلغ الشرعي للأمة -عليه الصلاة والسلام- كما أمركم تعني بطهارة الجوارح أمر الأمة بأن تعنى بطهارة القلوب "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
وفي زماننا هذا -عياذا بالله- كثرت الآراء الضالة والتي أحيانا ينسبها فاعلها والقائمون بها إلى الإسلام، والإسلام منها براء.
الله -عز وجل- حرم دماء المسلمين وقد جاء في الحديث الصحيح "لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان بن فلان".
والإنسان إذا كان يأتي الناس على وجه يستأمنوه فيه؛ فهذا -والعياذ بالله- أعظم ضررا وأشد فسادا في الأرض، ولهذا عرف عند الفقهاء بما يعرف بقتل الغيلة؛ لأن الإنسان يقتل أحدا على وجه الاستئمان له كمن يستدرج طفلا أو يقتل زوجته وهي تأمنه، أو الزوجة تقتل زوجها على فراشها وهو يؤمنها، أو ما أشبه ذلك مما لا يكون فيه نزاع وعداوة مسبقة، فكل ذلك جاء الشرع بأن القصاص لا بد منه في أصح قولي العلماء، وأنه لا يحق حتى للإمام الأعظم أن يطلب من أولياء المقتول أن يتنازلوا عن الدية، لا يملك أحد الحق في منع القصاص.
وفي زماننا هذا كثر التفجير والتدمير والتكفير للناس، وأخذ كثير ممن يتبنى أمثال هذه التفجيرات المذمومة يأتي جماعات مهولة فيفجروا الدول دون روية، ويسفك الدماء ويزرع الخوف في الناس ويذهب الأمن عنهم، ولا ريب أن هذا محال أن يأتي دين الله القويم وصراطه المستقيم بمثل هذا البهتان.
وما يشاهد هنا وهناك في كثير من بلاد المسلمين كما يحصل في اليمن ومصر وغيرهما من دول المسلمين -عياذا بالله- ممن يسفكون الدماء سواء قالوا: إن ذلك باسم الإسلام أو باسم غيره، كل ذلك ليس من الدين بشيء، ذلك -عياذا بالله- ترويع للآمنين وسفك لدماء المسلمين، وفيه كذلك أن المسلمين يشغلوا بأنفسهم ويصبح الأمر مجرد فراق وعداوات ويتفرق الجمع، ويتشتت وحدة أهل الإسلام، فيطمع فيهم العدو.
بل إنه لا ريب أن العدو -وإن لم يظهر ذلك- يفرح فرحا عظيما بما آلت إليه الأحوال في دول المسلمين، كيف تفرقوا أحزابا شيعا وفرقا كل حزب بما لديهم فرحون، يقتل بعضهم بعضا، ويسفك بعضهم دماء بعض، وكلهم يزعم أن الحق معه ولواء السنة عنده، وكل ذلك باطل شرعا -عياذا بالله- لا يمكن لمؤمن قرأ القرآن ويعرف السنة وعلم من تغليظ الدماء وحرمة دماء المسلمين والنهي عن شق عصا الطاعة وغير ذلك من أوامره -صلوات الله وسلامه عليه- وقبل ذلك ما جاء في الكتاب المبين من الدعوة إلى كف الأذى قال ربنا (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103].
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرفع هذه الغمة عن بلاد المسلمين..
اللهم ارفع هذه الغمة عن بلاد الإسلام.