العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
ومن بين الصحب الكرام صحابي جليل أحبه الله، وأحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هو الإمام إذا عُد الأئمة، وهو البطل إذا عُدّ الأبطال، هو الشجاع المِقدام والبطل الهُمام، هو الشهيد الذي قُتِل غدرًا، ولو أراد قاتله قتله مواجهة ما استطاع، ولكن عادة الجبناء...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين: إن جيل الصحابة -رضوان الله عليهم- خير جيل ظهر على وجه الأرض، هم الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكي يعلمهم ويوجههم ويصوغهم، فتلقوا تلكم التربية النبوية الكريمة، حتى خلت نفوسُهم من حظ نفوسِهم.
ومن بين الصحب الكرام صحابي جليل أحبه الله، وأحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هو الإمام إذا عُد الأئمة، وهو البطل إذا عُدّ الأبطال، هو الشجاع المِقدام والبطل الهُمام، هو الشهيد الذي قُتِل غدرًا، ولو أراد قاتله قتله مواجهة ما استطاع، ولكن عادة الجبناء الطعن في الظهر.
إنه أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخوه بالمؤاخاة، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم.
ولد -رضي الله عنه-قبل البعثة بعشر سنين، وتربى في حجر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وفي بيته، أول من أسلم بعد خديجة وهو صغير. كان يلقب حيدرة، وكنّاه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أبا تراب. أحد العشرة المبشرين بالجنة، زوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته فاطمة الزهراء، وهو أبو السبطين الحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة. وهو من الخلفاء الراشدين المهديين.
عباد الله: لمّا هاجر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة أمر الإمام عليًّا أن يبيت على فراشه، وأجله ثلاثة أيام ليؤدي الأمانات التي كانت عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابها ثم يلحق به إلى المدينة، فهاجر من مكة إلى المدينة المنورة ماشيًا.
شهد -رضي الله عنه-المشاهد كلها مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلا غزوة تبوك حيث استخلفه -صلى الله عليه وسلم- في أهله وقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟" وأعطاه النبي اللواء يوم خيبر ففتحها، واقتلع باب الحصن.
فضائله جمّة لا تُحصى، كان -رضي الله عنه- وأرضاه غزير العلم، زاهدًا ورعًا شجاعًا، وقد ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: "لم ينقل لأحد من الصحابة من الفضائل ما نقل لعلي رضي الله عنه".
كان عالما بكتاب الله والفهم لمعانيه ومقاصده، فقد كان من أعلم الصحابة -رضي الله عنهم- بأسباب نزول القرآن ومعرفة تأويله؛ يشهد لهذا ما رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "ما أخذتُ من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب". فإذا كان هذا شأن ابن عباس -رضي الله عنه- وهو ترجمان القرآن؛ فكيف والحال كذلك بمن أخذ عنه؟!
ومن فضائله -رضي الله عنه- ما رواه الإمام مسلم في قوله -رضي الله عنه-: "والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمَة، إنه لعهد النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق".
ولقد كانت أخلاقه -رضي الله عنه- قبسًا من نور خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي عاش على مائدة مكارم النبوة، ولقد أجاد ضرار بن ضمرة الكناني في وصف تلك الأخلاق الباهرة، حيث قال: "كان -والله- بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان -والله- غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان -والله- كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: إلي تعرضت؟! إلي تشوفت؟! هيهات هيهات غُرّي غَيري، قد طلقتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق"؛ فوكفت دموع معاوية -رضي الله عنه- على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.
أيها المسلمون: اشتهر -رضي الله عنه- بالفروسية والشجاعة والإقدام، وكان اللواء بيد علي -رضي الله عنه- في أكثر المشاهد، في غزوة خيبر قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لأُعْطينّ الرايةَ غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه أو على يديه" فكان -رضي الله عنه- هو المُعْطَى وفُتِحَت على يديه.
وبارز عليٌّ -رضي الله عنه- شيبة بن ربيعة فقتله، وذلك يوم بدر. وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يُقسم قسمًا إن هذه الآية: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
ومع شجاعته هذه فهو القائل: "كُنا إذا احمرّ البأس، ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه"؛ فما أحد أشجع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بايع علي أبا بكر الصديق -رضي الله عنهما-، فكان أحد وزرائه ومستشاريه، يساهم في إدارة الدولة وتصريف الشؤون بصدق وإخلاص، وكذلك كان مع عمر، فقد كان له وزير صدق، حتى زوجه بنته أم كلثوم. وكثيرا ما كان عمر يستخلفه على المدينة إذا غاب عنها, وكان في عهد عمر من كبار رجال الدولة الذين تعقد عليهم الآمال، حتى جعله عمر من الستة الذين يختار منهم الخليفة من بعده, ويروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قوله: "لولا علي لهلك عمر".
ولما استخلف عثمان بايعه فيمن بايع من جمهور الصحابة، والتزم نصحه ومؤازرته، وكان موقفه منه حين ثارت الفتنة موقف الناصح والمدافع عنه. ولما أطبق الثوار على قصر الخليفة الشهيد أرسل ولديه الحسن والحسين بسيفيهما، حتى نفذ قضاء الله.
بويع بالخلافة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- وكانت أيامه فيها فتن ومعارك دامية، ومع هذه الفتن التي أحاطت بخلافته فقد كان -رضي الله عنه- شديدا في الحق، مقيما للعدل، خاشعا لله، مجتهدا في نصح الأمة، يولي الأخيار، ويحاسب المقصرين، زاهدا في الدنيا، بعيدا عن الترف، وكما كانت حياته جهادا فقد كان موته استشهادا -رضي الله عنه-، حيث طعنه الشقي عبد الرحمن بن ملجم الخارجي وهو يصلي الفجر في مسجد الكوفة، فكان استشهاده في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المؤمنون: إن الباحث المنصف المحقق في كتب ومراجع الطوائف الإسلامية يجد أن عليًا -رضي الله عنه- كان مع سابقيه من الخلفاء الراشدين على الأخلاق التي رباهم عليها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يحبهم ويبجِلهم، ويسمي أبناءه بأسمائهم، ويعترف بفضلهم على رؤوس الأشهاد، وكان لهم ردءًا يصدقهم بما يقولون، ويصْدُقُهم بما يقول، ويبذل لهم رأيه ومشورته الناصحة، ويقف معهم صفًا واحدًا أمام الملمات والمواقف العصيبة.
ولقد فُجِع الإمام عليٌ بموت رجل الإسلام الكبير أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأرضاه، فوقف يرثيه متوجعًا، وقال: "رحمك الله يا أبا بكر، كنت -والله- أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأشدَهم يقينًا، صدّقتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، كنت والله للإسلام حصنًا، وللكافرين ناكبًا، لم تَهِن حُجَتُك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك".
بل إن عمر الخليفة العظيم -رضي الله عنه- لما قتل وغسل وكفن وسجي بثوبه نظر إليه علي -رضي الله عنه- وقال: "ما أحد أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى".
ولما قُتل عثمانُ وجاء الخبرُ عليًا قال: "تبًّا لهم آخر الدهر". ودخل على عثمانَ فوقع عليه، وجعل يبكي حتى ظنّ منْ هناك أنه سيلحقُ به. وتبرأ إلى الله من دمِه في مواقفَ ومناسبات كثيرة، وعندما بلغه أن القتلة قد ندموا على فعلتهم تلا قوله -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
أيها المسلمون: كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذا ذكاءٍ لمّاح، وعبقرية فذة، وبديهةٍ حاضرة، ينظرُ في وجه المرءِ فيقرأ فيه مخبوء نفسه، ويسمع الكلام فيشم منه رائحة صدقِه أو كذبِه، ويأتيه السائل المتعنت، فلا يجد من علي إلا الحجة الدامغة والجواب الشافي.
جاءه رجلٌ فقال له: ما بال خلافة أبي بكر وعمر كانت صافية وخلافتك أنت وعثمان متكدرة؟! فقال: "إنّ أبا بكر وعمر كنتُ أنا وعثمان من أعوانهما، وكنت أنت وأمثالك من أعواني وأعوان عثمان". وجاءه رجلٌ من يهود فقال له: ما أتى عليكم بعد نبيكم إلا نيّفٌ وعشرون سنة حتى ضرب بعضكم بعضًا بالسيف، فقال -رضي الله عنه-: "فأنتم ما جفّت أقدامُكم من البحر حتى قلتُم: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة".
وكان علي -رضي الله عنه- من أكثر الناس إنصافًا لخصومه؛ فقد رأى عليٌّ -رضي الله عنه- طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- في واد مُلقى أي: مقتولًا، فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال: عزيزٌ عليّ -أبا محمدٍ- بأن أراك مجدلًا في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عجري وبجري، يعني: سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي. وكان يقول: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله -عز وجل- فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).
عباد الله: ولما سُئل عن أهل النهروان من الخوارج: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرُّوا، قيل: أمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، فقيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخواننا بَغَوا علينا، فقاتلناهم ببغيهم علينا.
فسلام الله عليك يا أبا الحسن، يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيًا، ورضي الله عنك وأرضاك، وطاب ذكرك حيًا وميتًا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...