البحث

عبارات مقترحة:

الحليم

كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

العفو

كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...

وقفات مع نهاية العام الهجري

العربية

المؤلف الشيخ د عبدالرحمن السديس
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك -
عناصر الخطبة
  1. تأملات في انصِرام الأعوام وانقِضاء الليالي والأيام .
  2. عبرات من انتِهاء العام الهجري .
  3. وقفات للعبرة والعِظة .
  4. ضرورة اغتنام الأوقات فيما ينفعُ دُنيا وأُخرى .
  5. التذكيرَ بما يُعانيه إخواننا المسلمون في فلسطين والشام. .

اقتباس

في هذا الأوان الذي جدَحَت فيه يدُ الإملاق كأسَ الفراق، وأوشكَ العامُ على التمام والإغلاق، والتحدياتُ المُحدِقةُ بالأمة عديدة، والأحوالُ أزماتُها شديدة، والأيامُ في لُبِّها بالأماني مُبديةٌ مُعيدة، لا بُدَّ لأهل الحِجَى من وقفات، للعِبرة ومُراجعة الذات، والتفكُّر فيما هو آتٍ. وهذا ديدَنُ المُسلم الأريبِ اللوذَعيِّ، ومنهجُ اللَّقِن الأحوَذيِّ، حتى لا ينعكِس الأمل، أو يستنوِقَ الجمل، فيُبصِرُ كل إنسانٍ وَسمَ قِدحه، فتترقَّى همَّتُه، وتصفُو نفسُه، وتحسُنُ سيرتُه وسريرتُه.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، سبحانه وبحمده أيَّدَنا بمِنَحٍ لألاء، وأوردَنا موارِد الفضل والجُود والآلاء.

فالحمدُ لله حمدًا على الآلاءِ    

حمدًا كثيرًا جلَّ عن إحصاءِ

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعلَ لنا من تصرُّم الزمان عِبرًا عِظامًا، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ الناس قُدوةً وإمامًا، صلَّى الله وبارَك عليه، وعلى آله المُتألِّقين بدورًا وأعلامًا، وصحبِه البالغين من الهمَّة الشمَّاء مجدًا ترامَى، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقَبَ الملَوان وداما.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله -؛ فالتقوى خيرُ زادٍ في المعاش والمعاد، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].

وتقوَى الله للأوَّاهِ زادٌ

فنِعمَ الذُّخرُ في الأخرى مآبًا

فلازِم دربَها تظفَر بخيرٍ  

وحقِّق حُكمَها تُحرِز ثوابًا

أيها المسلمون:

في هذا الأوان الذي جدَحَت فيه يدُ الإملاق كأسَ الفراق، وأوشكَ العامُ على التمام والإغلاق، والتحدياتُ المُحدِقةُ بالأمة عديدة، والأحوالُ أزماتُها شديدة، والأيامُ في لُبِّها بالأماني مُبديةٌ مُعيدة، لا بُدَّ لأهل الحِجَى من وقفات، للعِبرة ومُراجعة الذات، والتفكُّر فيما هو آتٍ.

وهذا ديدَنُ المُسلم الأريبِ اللوذَعيِّ، ومنهجُ اللَّقِن الأحوَذيِّ، حتى لا ينعكِس الأمل، أو يستنوِقَ الجمل، فيُبصِرُ كل إنسانٍ وَسمَ قِدحه، فتترقَّى همَّتُه، وتصفُو نفسُه، وتحسُنُ سيرتُه وسريرتُه.

طُوبَى لعبدٍ بحبل الله مُعتصمُ

على صراطٍ سويٍّ ثابتٌ قدمُ

ما زالَ يستحقِرُ الدنيا بهمَّته 

حتى ترقَّت إلى الأخرى به هِمَمُ

معاشر المسلمين:

الوقفةُ الأولى: وقفةُ اعتبارٍ وعِظة، لما في مرور الأيام والليالي من عِبرةٍ وموعِظة، فكم من خُطواتٍ قُطِعت، وأوقاتٍ صُرِفت، والإحساسُ بمُضيِّها قليل، والتذكُّر والاعتبارُ بمُرورها ضئيل، مهما طالَت مُدَّتُها، وعظُمَت فترتُها، وربما دامَت بعد ذلك حسرتُها.

ولا يتبقَّى من الزمان إلا ذكرَى ما تبدَّى، وطيفُ ما تجلَّى، وها هو انقلبَ بما لنا وما علينا في مطاوِيه، وآخرُ استهلَّ شاهِدًا على مُضيِّ الدهر في تعادِيه. فاللهم إنا نسألُك أن تُبارِك للأمة فيما قدَّرتَ فيه.

عامٌ أهابَ به الزمانُ فأقبَلا

يُزجِي المواكِبَ بالأهلَّة حُفَّلا

أسرَ الحوادِث فهي في أحنائِهِ

تأتي وتذهبُ في الممالِك جُوَّلا

وليكُن منكم بحُسبانٍ - يا رعاكم الله -: أن الزمنَ أنفاسٌ لا تعُود، فمن غفلَ عنه تصرَّمَت أوقاتُه، وعظُم فواتُه، واشتدَّت حسراتُه، فإذا علِم حقيقةَ ما ضاع، طلبَ الرُّجعَى فحِيلَ بينَه وبين الاستِرجاع.

وما المرءُ إلا راكبٌ ظهرَ عُمره

على سفرٍ يُفنِيه باليوم والشهرِ

يبيتُ ويُضحِي كل يومٍ وليلةٍ

بعيدًا عن الدنيا قريبًا من القبرِ

ومن لم يتَّعِظ بزوال الأيام، ولم يعتبِر بتصرُّم الأعوام، فما تفكَّر في مصيره ولا أناب، ولا اتَّصَف بمكارِم أُولِي الألباب، يقولُ الرحيمُ التواب: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190].

فما أحوجَ أمَّتنا في هذه السانِحة البينيَّة أن تنعطِفَ حِيالَ أنوار البصيرة، فتستدرِك فرَطَاتها، وتنعتِقَ من ورطَاتها، وتُفعَمَ روحُها بمعاني التفاؤُل السنيَّة، والرجاءات الربانيَّة، والعزائِم العليَّة، وصوارِم الهِمَم الفتيَّة، كي تفِيءَ إلى مراسِي الاهتِداء والقِمَم، وبدائِع الخِلال والقِيَم، على ضوء المورِد المَعين، والنبع الإلهيِّ المُبين: هديِ الوحيين الشريفين، مُستمسِكةً بالتوحيد والسنَّة بمنهَج سلَف الأمة.

تحقيقًا لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تركتُ فيكم أمرَين لن تضِلُّوا ما تمسَّكتُم بهما: كتابَ الله وسُنَّتي" (أخرجه مالك في "الموطأ").

أمة الإسلام:

والوقفةُ الثانية: وقفةٌ لإلهاب الهمَّة في نفوس الأمة، كي تعتلِيَ الذُّرَى والقمَّة، وإذكاء جُذَى الأمل والتفاؤُل في أطواء الشباب، كي يستنفِرَ قُدراته وملَكَاته، وكفاءاته وانتِماءاته. فكم اتَّخذَت الأمةُ في عامها المُتصرِّم من قرارٍ عظيم، وكم حقَّقَت من نصرٍ مُبين تسنَّمها "عاصفةُ الحزم" الميمونة، التي جسَّدَت الوحدةَ والتلاحُم بين أبناء الأمة رُعاةً ورعيَّة، وحقَّقت النُّصرةَ لجارٍ مضُوم، وشعبٍ مكلُوم، وصدَّت الظالِمين المُعتَدين.

وكم بذلَت بلادُ الحرمين الشريفين جرَّاء هذا القرار الشُّجاع والموقف النبيل من دماءٍ طاهرة، صعِدَت أرواحُها إلى بارِئها، لإعادة الأمل، فكان الأملُ بعد الحزم نورًا يُضيءُ البصائِرَ والأبصار، ويبعَثُ في النفوس البِشرَ والضياء، بعدما آتَت "عاصفةُ الحزم" ثِمارَها، وحقَّقَت أهدافَها، بفضل الله ومنَّته.

وإن على الإخوة في يمن الإيمان والعلم والحِكمة أن يتَّحِدوا للوقوف مع الولاية الشرعيَّة، وعدم الإصغاء لدُعاة الفتنة والضلالة.

وعزاؤُنا أن من قضَى من جُنودِنا البواسِل في الحدِّ الجنوبيِّ نحسبُهم عند الله من الشُّهداء، (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران: 169، 170].

معاشر المسلمين:

ومع تجديد الشُّكر للمُنعِم المُتفضِّل - سبحانه - على ما منَّ به على الحَجيج من إتمام مناسِكِهم، بكل تميُّز ونجاح، فلا يفُتُّ عزمَكم ما اعتوَرَه من فلَتَات الحوادِث بين مطاوِي الزمان.

وإن القلبَ ليعتصِرُه الحزنُ والأسَى على ما أصابَ بعضَ حُجَّاج بيت الله الحرام من حوادِث عرَضِيَّة لا تُنسينا الإيمان بقضاء الله وقدَره، في صفاء الأمر وكدَره. نسأل الله أن يتقبَّل موتاهم في الشهداء، وأن يشفِي مرضاهم.

ألا يا ربِّ أسعِدهم بعفوٍ

ومغفرةٍ يَطيبُ بها الثوابُ

إذا كتبَ الإلهُ مضَى الكتابُ

فلا بابٌ يُصدُّ ولا حجابُ

ولا حذرٌ من الإنسان يُجدِي

ولا جبلٌ يحُولُ ولا هِضابُ

ومع ذلك كلِّه، فإنه لا يحِقُّ لأي شخصٍ أو كِيان - كائنًا من كان - أن يجعلَ من هذه الأحداث العارِضة مجالاً للمُزايَدات، أو إلقاء اللَّوم وبثِّ الشائِعات، ضدَّ الجُهود الجبَّارة التي تبذُلُها بلادُ الحرمين في خدمة ضُيوف الرحمن.

وإن لبلاد الحرمين الشريفين يدًا حازِمة لا تتهاوَنُ مع المُتلاعِبين بأمنها وأمانها، ولا تُهدهِدُ من يُحاولون التغريرَ بعقول شبابِها، أو يُؤلِّبون عليها أفئِدةَ العباد في أصقاع البلاد.

كما أنه ليس من العدل والإنصاف أن تُصادَر كل الجهود والإنجازات لحادثةٍ أو واقِعة، تُبذلُ أقصَى الطاقات والإمكانات لتفادِيها ومثيلاتها في الأماكن المُقدَّسة طوال العام.

وجهود المملكة - حرسَها الله - لن تنسِفَها أقاويلُ المُبطِلين، الذين لا يُحسِنون إلا التشكيكَ والإرجاف، وهذه الحملةُ الإعلاميَّةُ المُمنهَجة القائمةُ على ترويجِ الأكاذِيب، واختِلاقُ الوقائِع، هي مُحاولةٌ يائِسة من فئةٍ بائِسة، للنَّيل من مكانتها.

والخدماتُ الجُلَّى المُقدَّمة في الحجِّ هي أكبرُ ردٍّ عمليٍّ على هؤلاء المُشكِّكين، وجهودُ رجال الأمن وعطاؤُهم النادِر في خدمة الحَجيج خيرُ شاهِد.

فالعملُ الكبيرُ الذي يقوم به رِجالُ أمننا، والعامِلون في خدمة الحَجيج بمُختلف قِطاعاتهم يندُرُ أن يوجد مثلُه في أنحاء العالَم. فهمُ الأشدَّاءُ الأقوياءُ على الأعداء، الرُّحماءُ الأوِدَّاءُ على المُسلمين والضُّعفاء، ولكن هذه سُنَّةُ الله في الكَون، فكلُّ ذي نعمةٍ محسُود.

وستظلُّ بلادُ الحرمين - بإذن الله - واحةَ أمنٍ واستِقرار ضدَّ مُخطَّطات العبَث بأمنها، وستبقَى قبلةَ الإسلام ومهوَى الأفئِدة، ومن رامَها بسُوءٍ هلَكَ دون مرامِه. لا مجالَ ولا حظَّ للنَّيل منها، أو المُساوَمة والمُزايَدة على جهودها ومكانتها، فلها - بحمد الله - الريادةُ والقيادةُ والسيادةُ على الحرمين الشريفين، بل في إحلال الأمن والسِّلم الدوليَّين.

وهذه الأحداثُ تُوجِبُ علينا وقفةً جماعيةً جادَّة للتصدِّي الحازِم للمسالِك الضالَّة المشبُوهة، التي تنامَت في الآوِنة الأخيرة، وتمثَّلَت في تفجير المساجِد، واغتيال المُصلِّين، وذوي الأرحام والأقارِب، في مشاهِد مُخزِية من فِئامٍ شوَّهوا صورةَ الإسلام بنقائِه وصفائِه وإنسانيَّته، وانحرَفُوا بأفعالهم عن سماحته واعتِداله ووسطيَّته.

تبًّا لمن باعَ الديانةَ والهُدى

ومضَى بغدرٍ يستبيحُ المسجِدَا

تركُوا العدوَّ وراءَهم وتهافَتُوا 

يستهدِفُون الراكِعين السُّجَدَا

والعجبُ أنهم يفعَلون ذلك باسم الدين، وينشُرونه على مرأًى ومسمَعٍ من العالَمين. أيُّ ضلالٍ ملأَ عقولَهم، فاستحلُّوا الدمَ الحرام، وانتهَكوا الحُرُمات، واعتَدَوا على بيوت الله في الأرض.

غيرَ أن ذلك لا يُسوِّغُ أبدًا إلصاق تُهمة الإرهاب بالإسلام، مما يتطلَّبُ تحصينَ الشباب الأبِيِّ من الفِكرِ التكفيريِّ، وتنظيم "داعِش" الإرهابيِّ، وحنوِه من المناهِج الضالَّة، والمسالِك المُنحرِفة. وما يُقابِلُها من موجات التشكيك والإلحاد، وهزِّ الثوابِت والقِيَم، والنَّيل من المُحكَمات والمُسلَّمات.

ماذا يظنُّ المُعتدِي أيظنُّها

ستمُدُّ كفًّا بالزهورِ إذا رمَى

من أبرمَ الفتنَ العِظامَ مُكابِرًا

فلسوفَ يلقَى الموتَ فيما أضرَمَا

أمة الإيمان:

غيرَ أن هذه الأحداث المُلِمَّة، والفواجِع المُؤلِمة لا ينبغي أن تُنسِيَنا قضيَّتَنا الكُبرى قضيةَ فلسطين والأقصَى، وما يلُفُّها في هذه الآوِنة بالذات من مآسٍ مُتعدياتٍ وانتِهاكاتٍ، واستِطالةٍ سافِرة في الهَدمِ والحِصار والاقتِحامات والمُستوطنَات والاعتِداءات.

لذا وبراءةً للذمَّة، وإعذارًا للأمة: ننُاشِد قادَة المُسلمين، وأصحابَ القرار في العالَم التصدِّي بكل قوةٍ وحزمٍ، لوقف التهديداتِ الصهيونيَّة، والتنكيلات اللاإنسانيَّة، ضدَّ إخواننا في فلسطين وقُدسِنا السَّليب.

يا فلسطينُ قِفِي صامِدةً

في وجوهِ الغاصِبين الدُّخَّلا

هُم وربِّ الناسِ مهما بهرَجُوا

أجبَنُ الناس وأخزَى عملاً

ولا يُمكن أن ننسَى إخواننا في بلاد الشام، الذين طالَت مُعاناتُهم، ودخلَت عامَها الخامس دون تحرُّكٍ فاعلٍ لإنقاذِهم من آلة القتل والتدمير والتهجير، في أكبر كارِثةٍ إنسانيَّة يشهَدُها التأريخُ المُعاصِر، من أُناسٍ لا يرقُبون في مُؤمنٍ إلاًّ ولا ذمَّة، وأولئك هم المُعتَدون.

مما يتطلَّبُ من إخواننا في بلاد الشام الأبيَّة توحيدَ الكلمة، ورصَّ الصفوف والاعتِصام، وعدمَ التفرُّق والاختِلاف والانقِسام.

أقبلَ الباغِي ليلقَى حتفَه

فثِقِي بالله يا شامَ العُلا

واسألِي اللهَ تعالى نصرَه

لا يرُدُّ الله عبدًا سأَلا

مُتفائِلين مع كل ذلك بالنصر المُؤزَّر القريب، (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 45، 46].

باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله مُقدِّر الأزمان والآجال، مُبدِع الكون على غير مِثال، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ذو الكمال الذي يعجزُ عن وصفِه بليغُ البيان والمقال، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من عبَدَ ربَّه في الغِنى والإقلال، صلَّى الله عليه صلاةً تَترَى في الغُدوِّ والآصال، وعلى آله وصحبِه خيرِ صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله -؛ فإن تقواه - سبحانه - أوثقُ الوثائِق، وبها تُكشفُ وجوه الحقائِق.

أمة الإيمان:

وفي حوالِك الكُروب، ومعامِع الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب، تشرئِبُّ طُلَى أهل الإيمان إلى إشراقات التفاؤُل والنصر وبشائر الانبِلاج، وتتطلَّع إلى أَرَج الانفِراج.

فمع أن أمَّتنا لا تزالُ رهينةَ المآسِي والنَّكَبات، والشَّتات والمُلِمَّات، فلا بُدَّ من الادِّراع بالتفاؤُل والاستِبشار والأمل، فالأملُ يُخفِّف عناءَ العمل، ويذهبُ باليأس والقُنوط والملَل، وبعد حُلكة الليل الشديد تُشرِقُ شمسُ يومٍ جديد.

إذا الأمسُ لم يعُد فإن لنا

غودًا نُضيءُ به الدنيا ونملؤُها حمدا

وتُلبِسُنا في الليل آفاقُه سنًا

وتنشُرُنا في الفجر أنسامُه ندَى

بالتفاؤُل والأمل تتدفَّق روحُ العزيمة، وتتألَّقُ نسَمَاتُ النبُوغ، وتتأنَّقُ بواعِثُ الثقة والتحدِّي.

وهذه القوةُ الأخَّاذة، والكُوَّة النورانيَّة هي من أزاهير الشريعة الربانيَّة، والسيرة المُحمديَّة لرسول الهُدى - صلى الله عليه وسلم -، وإن حياتَه الكريمة - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - لأُنموذجٌ عمليٌّ للتدرُّع بالتفاؤُل والأمل والاستِبشار، في أحلَك الأزمَات، والنوازِل والمُلِمَّات.

وهجرتُه - صلى الله عليه وسلم - حدثٌ لو تعلَمون عظيم، فيه من الدروس والفوائِد، والعِبَر والفرائِد ما لا تحوِيه أجلاد، ولا يُوفِّيه جلَدٌ ولا اجتِهاد. فرغم خروجِه - عليه الصلاة والسلام - من أحبّذ البلاد إليه، إلا أنه كان مُتفائِلاً مُستبشِرًا. ولقد كان حدَثُ الهجرة أمرًا فارِقًا في تأريخ البشرية جمعاء.

ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وتفاءَلوا بالخير، واستفتِحوا عامَكم بتوبةٍ نَصُوح من الزلاَّت والسيئات، وداوِموا على الأعمال الصالِحات، وأكثِروا من القُرُبات والطاعات، وسجِّلوا في صحائِف عامِكم الجديد ما يسُرُّكم في دُنياكم وأُخراكم.

ثم صلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على البشير النذير، والسراجُ المُنير، كما أمرَكم بذلك اللطيفُ الخبير، فقال - سبحانه -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

منَّا الصلاةُ على النبي وآلِهِ

والصحبِ من كانوا المصابيحَ الغُرَر

صلُّوا عليه فمن يُصلِّي مرةً

يلقَى بها عشرًا كما صحَّ الخبَر

اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.

وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائر بلاد المسلمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم أدِم الأمنَ والاستِقرار في ديارِنا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين.

اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوَى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائبَيه وأعوانَه إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.

اللهم وفِّق قادةَ المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.

اللهم ادفَع عنَّا الغلا والوبَا، والرِّبا والزِّنا، والزلازِل والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن، عن بلدِنا هذا وعن سائر بلادِ المُسلمين يا رب العالمين.

اللهم انصُر إخواننا المُجاهِدين في سبيلِك والمُستضعَفين في دينهم في كل مكان، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم عجِّل بنصرهم يا قويُّ يا عزيز، اللهم إنا نسألُك أن تلطُف بهم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.

اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصَى من براثّن المُعتَدين يا رب العالمين، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.

اللهم كُن لإخواننا في بلاد الشام، اللهم فرِّج عنهم يا حي يا قيوم، عاجلاً غير آجِل يا ذا الجلال والإكرام، وفي العراق، وأصلِح أحوال إخواننا في اليمن، واجمَعهم على كتابِك وسُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - يا سميع الدعاء.

اللهم كُن لإخواننا في بُورما، وفي كل مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّقنا لما تحبُ وترضى، اللهم وفِّقنا للتزوُّد من الصالِحات يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اجعَل مُرورَ الأعوام حُجَّةً لنا لا علينا، وزادًا لنا للتزوُّد من الأعمال الصالِحة قبل الممات يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق رِجالَ أمننا، اللهم وفِّق رِجالَ أمننا، اللهم اقبَل شُهداءَهم، وعافِ جرحاهم، وشافِ مرضاهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم كُن لجنودنا المُرابِطين على ثُغورنا وحُدودنا، اللهم اربِط على قلوبِهم، وثبِّت أقدامَهم، اللهم سدِّد رأيَهم ورميَهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذابَ النار يا عزيزُ يا غفار.

ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ولجميع المُسلمين والمُسلِمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله رب العالمين.