المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | عبدالله بن صالح القصير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن من أعظم بيان القرآن وهدايته للتي هي أقوم وموعظته وبشارته - ما ذكر الله تعالى فيه من أوصاف المؤمنين وسجايا المحسنين في معرض الثناء عليهم، والتنويه بفضلهم، وبيان علو درجتهم وشرف منزلتهم، والتي شهد الله تعالى لهم بموجبها بالصلاح، ووعدهم عليها بالفلاح وقطع بأنهم هم الفائزون الذين فازوا بالأجر العظيم والثواب الكريم والنعيم المقيم ..
الحمد لله الذي يهدي من استهداه، ويجيب من دعاه، ويجير من استجاره ولاذ بحماه، ويضل من أعرض عن ذكره واتبع هواه، أحمده سبحانه لا معبود بحق سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكريم العليم الحكيم الرؤوف الحليم البر الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، العبد الشكور والرسول المنصور، المثنى عليه من ربه العزيز الغفور بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) [آل عمران:17].
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتلوا كتابه وتدبروه، وتفكروا فيه واعملوا بما فيه، وتخلقوا به، واهتدوا به، وادعوا إليه تكونوا من المؤمنين المتقين المحسنين المقربين فإنه (نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16]. وهو بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، وتبيان لكل شيء، ودليل على كل خير، ونذير من كل شر، كما قال ربنا سبحانه في محكم بيانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الإسراء:9-10].
أيها المسلمون: إن من أعظم بيان القرآن وهدايته للتي هي أقوم وموعظته وبشارته - ما ذكر الله تعالى فيه من أوصاف المؤمنين وسجايا المحسنين في معرض الثناء عليهم، والتنويه بفضلهم، وبيان علو درجتهم وشرف منزلتهم، والتي شهد الله تعالى لهم بموجبها بالصلاح، ووعدهم عليها بالفلاح وقطع بأنهم هم الفائزون الذين فازوا بالأجر العظيم والثواب الكريم والنعيم المقيم، واقرؤوا إن شئتم، قال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:2-5]. وقوله سبحانه: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177].
فوصفهم -سبحانه- بالتقوى التي حقيقتها اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهي السبب الأكبر لحصول الهداية والانتفاع العظيم بالآيات الشرعية والكونية، والوسيلة العظمى لتنفيس الكرب وحصول الفرج، وتيسير الأمر، وسعة الرزق، ومغفرة الذنب، وتكفير الخطيئة، والزحزحة عن النار، والفوز بالجنة، وسكنى المنازل العالية فيها عند مليك مقتدر.
ووصفهم سبحانه بالإيمان بالغيب، وهو التصديق التام بكل ما أخبرت به الرسل، ويدخل في ذلك جميع ما أخبر الله تعالى به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال البرزخ والدار الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، فأهل الإيمان يصدقون بذلك كله تصديقاً تامًّا عن علم ويقين يقتضي العمل الصالح بالقلب واللسان والجوارح والحواس.
أيها المؤمنون: ومن أوصاف أهل الإيمان التي أشاد الله تعالى بها في القرآن: إقامة الصلاة ظاهراً بإتمام أركانها، وواجباتها، وشروطها، وأركانها، وسننها، وأدائها في المساجد مع جماعة المسلمين، وباطناً بالخشوع لله تعالى فيها، وحضور القلب، وتدبره لذكرها وأحوالها، والمحافظة عليها في سائر الأحوال، كما أشار عزّ وجلّ إلى ذلك بقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2].
ثم أردف سبحانه بذكر أوصافهم الجميلة وأعمالهم الجليلة، التي هي في الحقيقة من آثار الإيمان والخشوع في الصلاة والمحافظة عليها، حتى قال سبحانه: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:9-10].
وفي ذلك من التذكير والتبشير، وحث أولي الهمم العالية والعزائم الماضية على التشمير والجد في السير، ما لا يخفى على أولي الأحلام والنهي، كما قال سبحانه في آيات أخرى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38].
أيها المؤمنون: ومن الأوصاف الكريمة والخصال العظيمة التي سمى الله أهلها بالمحسنين، وأخبر أنهم من أحباب رب العالمين -ما أشار إليه سبحانه بقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].
أي ينفقون ابتغاء وجه الله وطمعاً في ثوابه في عسرهم ويسرهم، فإن أيسروا أكثروا من النفقة الواجبة والمستحبة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئاً ولو قل. ويكظمون ما في قلوبهم من الغيظ على من يؤذيهم من الناس، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم بمثل فعله، ولا يقتصرون على ذلك فحسب، بل يعفون عنهم، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماح عن المسيء طمعاً في عفو الله، ولعلمهم أن من عفا وأصلح فأجره على الله، ولذلك وصفهم الله بالإحسان، وبشرهم بالمحبة وغيرها من ثواب المحسنين؛ لأنهم أحسنوا في عبادة الخالق؛ إذ أخلصوا له العمل، وتابوا إليه من الخطأ والزلل، وعظموا شعائر دينه وحرماته، وسعوا جهدهم ليل نهار في تحصيل مرضاته، وأحسنوا في معاملة الخلق ببذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذى، فقاموا بحق الله وحق عباده مؤتَمِّين في ذلك بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله وخاتم أنبياءه ورسله إلى عباده، فصاروا لله مستسلمين مخلصين، وبعبادته محسنين، فيا بشراهم يوم يبعثون (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112].
أيها المؤمنون: ومن جليل أوصاف المتقين -الذين قطع الله لهم بالفوز بالمغفرة يوم العرض، وجنات عرضها السماوات والأرض- أنهم يعتذرون إلى ربهم من جناياتهم وذنوبهم، فإذا صدر منهم أعمال سيئة كبيرة أو ما دون ذلك بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم الجبار القهار، وما توعد به العاصين من الخزي والنار، فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وحزنهم منها وندمهم عليها (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:135-136].
فوقاهم الله شر الذنوب، وأمنهم من الكروب، وأحلهم جنات فيها من النعيم المقيم، والبهجة والحبور، والبهاء والخير والسرور، والقصور والمنازل العالية، والأشجار المثمرة البهية، والأنهار الجارية في تلك المساكن الطيبة مما لا يُحيط به إلا الله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.