المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | أحمد بن مسفر المقرحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
التعامل مع الله منهج سلكه أولياء الله قديمًا وحديثًا، فهُدوا إلى الطيِّب من القول، وهُدُوا إلى صراط الحميد. عندما يتعامل المؤمن مع الله يجد لذةً للعبادة، وقوةً في الحق، وأنسًا بالطاعات، ووحشة من المنكرات، وقناعة وزهدًا في الدنيا، وحبًّا وإقبالاً على الآخرة. عندما يتعامل المؤمن مع الله تسمو أخلاقه، ويطيب تعامله، ويكثر حلمه، ويقل جهله، عندما يتعامل العبد مع الله يرى نفسه عاصيًا مهما كانت طاعته، ويرى نفسه مقصرًا مهما كانت عبادته، وخير شاهد لذلك حال الأتقياء في القرآن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: التعامل مع الله منهج سلكه أولياء الله قديمًا وحديثًا، فهُدوا إلى الطيِّب من القول، وهُدُوا إلى صراط الحميد.
عندما يتعامل المؤمن مع الله يجد لذةً للعبادة، وقوةً في الحق، وأنسًا بالطاعات، ووحشة من المنكرات، وقناعة وزهدًا في الدنيا، وحبًّا وإقبالاً على الآخرة.
عندما يتعامل المؤمن مع الله تسمو أخلاقه، ويطيب تعامله، ويكثر حلمه، ويقل جهله (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].
عندما يتعامل العبد مع الله يرى نفسه عاصيًا مهما كانت طاعته، ويرى نفسه مقصرًا مهما كانت عبادته، وخير شاهد لذلك حال الأتقياء في القرآن، قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 15- 18].
فتأملوا ما الذي جعلهم يستغفرون بالأسحار، وقد باتوا لله سُجّدًا وقيامًا إلا التعامل مع الله وخشيته.
عباد الله: عندما يتعامل العبد مع الله فإنه يكون جيد النوايا، طيب السجايا، وهذا ما حازه سلف الأمة تعاملوا مع الله، فنقل لنا عنهم أخبار تكاد أن تكون ضربًا من الخيال.
لولا أنها نُقلت عن طريق الأتقياء والثقات، فها هو أبو بكر -رضي الله عنه- تعامل مع الله، فأنفق ماله كله في سبيل الله، ومع ذلك يمسك بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردنا الموارد"، يخشى الموارد، ويخشى أن يُعَاقَب بين يدي الله بما يقوله لسانه وما وثق فيما أنفقه من ماله، وما قام به من خدمة دين الله وخدمة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وتعامل عمر مع الله، فكان يقول "إيهٍ يا ابن الخطاب! والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله"، ومع ذلك يقول في دعائه في عام الرمادة: "اللهم لا تُهلك أمة محمد بسبب ذنوب عمر"، يرى أنه حُجب القطر من السماء، وأن ما وقع لأهل الأرض إنما هو بسبب ذنوبه -رضي الله عنه-.
وتعامل عثمان مع الله فجهز جيش العسرة، ومع ذلك قرأ القرآن حتى تقطع في يده، فقال له أحد أقاربه: ارحم نفسك يا أمير المؤمنين من كثرة قراءة القرآن، قال: "والله لو سلمت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم".
وهذا علي -رضي الله عنه- يتعامل مع ربه سبحانه، فنام في فراش المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة وهو شابّ لا يزال في مقتبل العمر، فنام في فراش المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والرماح موجهة إليه، ومع ذلك طلّق الدنيا ثلاثًا، فقال: "يا دنيا يا دنية غُرّي غيري طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها" .
وحتى لا يقول قائل: هؤلاء صحابة، فكيف نصل إلى ما وصلوا إليه، فاسمعوا إلى هذا المتعامل مع الله، إنه عامر بن عبد الله التميمي -رحمه الله- رجل من التابعين استولى حب العبادة على قلبه حتى حرم نفسه من النوم الذي لم يعد يمنعه منها إلا غفوات سبّبت له همًّا وغمًّا وكربة، فها هو -رحمه الله- كان يعرض نفسه في بغداد على قوافل الحجيج أيهم يقبل به، فكانوا يتسابقون عليه، أيهم يظفر به، ولكنه كان يشترط عليهم شروطًا تمنعهم من القبول، فيشترط عليهم أن يكون هو مؤذنهم وخادمهم، وأن ينفق عليهم من ماله حتى ينفد، فكانوا يتحرجون من الشرطيين الأخريين؛ إذ كيف يُعقل أن يقبل العامة بعالمٍ يخدمهم، ويُعِدّ طعامهم.
وذات مرة حج مع قافلة خرجت من بغداد التي ترزح تحت حكم الرافضة، وتحت قهر الرافضة، أسأل الله أن يخلصها وأهلها منهم، فكان يسبقهم إلى المكان الذي يدركهم فيه المبيت فلا يصلون إلا وقد أعد لهم طعامهم، وكل ما يحتاجون إليه، ثم يراقبهم فإذا ناموا أخذ بغلته، ثم ذهب بعيدًا عنهم، ثم يربطها ويبيت يصلي حتى إذا أقبل الفجر عاد قبل أن يقوم أحد من القافلة، فيوقظهم للصلاة، ويؤذن للصلاة، موهمًا إياهم أنه بات نائما بينهم.
وكان أحد أفراد القافلة يشاهده كل ليلة، فعزم على متابعته لمعرفة خبره وفي مرحلة من المراحل انسل عامر بن عبد الله التميمي -رحمه الله-، انسل ببغلته بعد أن نامت القافلة، فلحقه ذلك المتابع له على مر الليالي السابقة فدخل به في غابة مخيفة، ثم توغل فيها حتى استقر في وسطها، ثم ربط بغلته، وأطال لها الرباط، وقام يصلي وصاحبه يتابع ما يجري، فلما تعالى الليل نام المراقب ثم استيقظ، فإذا به يصلي ثم استيقظ، فإذا به يصلي، ثم نام ثم استيقظ فإذا به يدعو بدعاء غريب فقال: "اللهم إني سألتك ثلاثًا فأعطيتني اثنتين وحرمتني واحدة، اللهم فأعطني ما حرمتني".
فلما أقبلت صلاة الفجر أنهى صلاته -رحمه الله-، ثم أخذ بغلته وانطلق نحو القافلة ووجد صاحبه الذي يراقبه فقال: لا إله إلا الله منذ متى وأنت هنا يا ابن أخي؟ فقال: والله منذ أن ربطت البغلة، فقال: لا حول ولا قوة إلا الله، استر ما رأيته يا ابن أخي.
فبالله عليكم ما الذي رآه هذا المراقب غير القيام والقرآن، والقنوات والدعاء والخشوع، والخضوع لله الواحد الأحد، ومع ذلك يقول له استر ما رأيته يا ابن أخي! إنه التعامل مع الله والإخلاص لله.
فقال لا والله لا أسكت عما رأيت إلا أن تعلمني بالثلاث التي أعطاك الله منها اثنتين وحرمك الثالثة، وبعد طول استجداء أخبره فقال يا ابن أخي سألت الله أن ينزع خوف غيره من قلبي، فوالله إني أمر بالوحوش فأراها ترجف مني، ولا أجد لها خوفًا، وأدخل على الولاة فأراهم يخوفنني ولا أخافهم، وسألته أن ينزع حب النساء من قلبي فإذا مرت بي امرأة فوالله لا تحرك في ساكنًا، وسألته أن يمنعني من النوم -وهذه التي لم يعطيه إياها- وسألته أن يمنعني من النوم حتى لا أنشغل بغير القيام فلم يستجب لي.
أشك أن البعض أصبح يتأمل هذه أشياء مباحة، فلماذا يسأل الله -جل وعلا- أن يمنعه؟
إنها الهمم والتقوى والطاعة وحب الله -جل وعلا-، إذا استولى على القلب انسلخت ملذات الدنيا وشهواته منها، لا يظن ظانّ أن أولئك الرجال ليست لهم شهوات وليست لهم نزوات، وليست لهم رغبات، والله إنهم ليفوقوننا قوة في كل شيء، ولكنهم فاقونا فيما هو أعظم من ذلك، وهو الارتباط بالله -جل وعلا- وتقديم مرضاته على مرضاة غيره فكانت هذه النتائج.
عاد عامر بن عبد الله التميمي بعد ذلك إلى قافلته، وعلى هذه الحال أمضى رحلته، بل حياته -رحمه الله-، فما الذي جعل عامر بن عبد الله التميمي يفعل هذا وما الذي جعله يطيق هذه المهمة الصعبة التي رسمها لنفسه؟
إنه التعامل مع الله والإخلاص لله وحب الله -جل وعلا- وحب ما يحبه الله -جل وعلا- والرغبة في الدار الآخرة (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله إمام المتقين وقدوة المهتدين وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: فاجعلوا تعاملكم مع الله لا مع الخلق، فإنكم لو أحسنتم مع الخلق ألف مرة، ثم أسأتم مرة واحدة لنسي الخلق تلك الألف مرة، وعاملوكم بتلك السيئة، ولو أسأتم مع الخالق ألف سيئة، ثم أحسنتم حسنة واحدة لمحى تلك الألف السيئة وعاملكم بتلك الحسنة، وصدق الله (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82].
صلوا وسلموا على ما أمركم بالصلاة عليه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أجمعين، وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.