العربية
المؤلف | إبراهيم سلقيني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أهل السنة والجماعة |
إن الطريق الذي كنا نسير فيه، والذي اخترناه في العصور الأخيرة لبناء كياننا واسترداد مركزنا في العالم، وفي كسب القوة، ولإنقاذ فلسطين؛ كان طريقًا مغلقًا عقيمًا منحرفًا يخيّب الآمال، أوصلنا إلى الفُرقة والتناطح والصراعات التي أنتجت ضعفًا وذلاً وخذلانًا واستسلامًا للعدو.
الخطبة الأولى:
الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه الإنسان وحيثما استقر، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وخلفائه الراشدين المرشدين الهادين المهدين من بعده سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى باقي الصحابة والقرابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: نقرأ كثيرًا ونسمع كثيرًا قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
أيها الإخوة الأحبة: إن من يتأمل في واقع هذه الأمة يتأمل في موقف بعض حكامها يحار في تعليل هذا الواقع، خصوصًا إذا استعرضنا موقعنا الجغرافي، واستعرضنا أيضًا الطاقات البشرية والمادية والمعنوية التي تملكها هذه الأمة.
لقد كان العرب الأمة المختارة لحمل رسالة الله الخالدة، رسالة الإسلام ونشرها في الآفاق وحراستها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد ربط الله مصير العرب بمصير الإسلام وببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد أشعل قلوبهم في سبيل نشر تعاليم هذا الهدي الإلهي الرباني ودعوة إلى هذه الرسالة، ولإنقاذها من براثن التخبط والفوضى والجاهلية، وقد كانت لأخلاقهم ومواهبهم التي خُصُّوا بها من بين الأمم والتي غذّاها ورعاها الإسلام ووجّهها التوجيه الصحيح فضل كبير في انتصاراتهم على أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم عشرات المرات وفي تحطيم الإمبراطورتين العظيمتين الفرس والروم.
نعم من هذه الخصائص التي خُصّوا بها الإيمان الراسخ بالله -تعالى-، والاعتصام بحبله المتين والوفاء للإسلام والاستماتة في سبيله، ومنها الإيثار والمروءة والكرامة والعزة والانسلاخ عن كل الأنانيات والمصالح الشخصية والفردية، ومنها الزهد والتقشف في الحياة والصبر وقوة الاحتمال، ومنها الاعتماد على العمل والإعداد والتضحية والجهاد أكثر من الكلام وأكثر من الأكاذيب.
والكارثة اليوم فادحة وعظيمة تقصم الظهر وتذيب المهجة، وتحير العقل، وتحطم الأعصاب، وكل ما يقال في ذلك قليل وقاصر، ولكن هذه الأمة ظلت تحتمل النكبات وتمر بها الكوارث، وكانت أول هذه الكوارث تدفق الجيوش الصليبية والحكومات الأوروبية بخيلها ورجلها على جزء صغير من المملكة الإسلامية، وضرب المسلمين عن قوس واحدة، واستيلائهم على القدس والمسجد الأقصى وكثيرًا من المدن العربية وتحديهم للإسلام وتهديدهم بمركزه ومركز نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ثاني هذه النكبات الساحقة: زحف التتار الوحوش على العالم الإسلامي، وتحكيمهم له فكانوا يسرحون على جثث أشلائه، وقد كان العالم الإسلامي مقبرة واسعة تهيمن عليها الموت، ويسود عليها الصمت الرهيب، وقد قطع المتفائلون الرجاء في نهضتهم بعد هذه المحنة.
وثالثها: المؤامرة اليهودية للقضاء على الخلافة الإسلامية وتقسيم الأمة الواحدة أممًا والدولة الواحدة دولاً بالتعاون مع القوى الباغية.
نعم كانت هذه الكوارث حقيقة بأن تقضي على أمة من أعظم الأمم، ولكن الأمة الإسلامية وفي مقدمتها الأمة العربية خرجت من تحت الركام ومن تحت الأنقاض حية قوية نشيطة نفضت عنها غبار الموت وتراب القبر الذي تخيله أعداء هذه الأمة.
واستأنفت السير في إيمان جديد وثقة وعزيمة، والتاريخ -أيها الأحبة- مستعد لأن يعيد نفسه نعم مستعدًّا لإعادة نفسه إذا طلب منه ذلك، واختير له السبيل القويم والصراط المستقيم والإعداد الصحيح.
إن هذه الكوارث الثلاثة التي وقعت في عصور مختلفة، وانتفاضة الأمة الإسلامية والعربية بعدها ليلتقيان على نقطة واحدة، وهي وجود قيادة مؤمنة راسخة العقيدة قوية الإيمان بوعد الله -عز وجل- ونصره وبصلاح الإسلام لأرقى حضارة وأرفع مدنية وبالقوة وبالخصائص الكامنة فيه شديدة التمسك بتعاليمه وآدابه وأخلاقه مجردة عن كل أنانية وعصبية، وكان على رأس الانتفاضة الأولى صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله وأنصاره.
وكان على رأس الانتفاضة الثانية علماء ربانيون وحُكّام صالحون أسلم على أيديهم التتار أفرادًا وجماعات، وتحولوا هم أنفسهم تحولوا حماة للإسلام وحماة للوائه، ويلتقي هؤلاء القادة على أنهم كلهم يدعون بدعوة الإسلام، ويقاتلون تحت لواء محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان نصر الله وكان تأييده الخارق للعادة مصداقًا لقوله تعالى: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173]، جند الله لا جند أمريكا ولا إسرائيل.
واليوم جدير بنا معشر العرب ومعشر المسلمين أن نستأنف السير من جديد فنعترف -بالشجاعة التي عُرف بها العرب في التاريخ- أن الطريق الذي كنا نسير فيه والذي اخترناه في العصور الأخيرة لبناء كياننا واسترداد مركزنا في العالم وفي كسب القوة ولإنقاذ فلسطين كان طريقًا مغلقًا عقيمًا منحرفًا يخيّب الآمال، أوصلنا إلى الفُرقة والتناطح والصراعات، أنتجت ضعفًا وذلاً وخذلانًا واستسلامًا للعدو.
أيها الإخوة: أنتجت طريقًا متعسرًا سنين طويلة لم يقترن بنصر الله وتأييده في حين لا عزة ولا كرامة ولا ظَفَر ولا انتصار إلا بنصر الله وبتأييد الله، نعترف بشجاعة أن الله ربط مصيرنا نحن العرب نحن المسلمين ربطه بالإسلام، نعم ربط مصيرنا بالإسلام وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبتأييد رسالته ودينه مصداقًا لقوله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157]، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44].
ولنعلم علم اليقين وبالتجربة أن طريق التفرق والاستسلام للعدو في حقيقته (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) [النور: 39].
ونعترف بشجاعة بأن الثرثرة وكثرة الكلام والدعاوى الكاذبة لا تفيد شيئًا، وأن التفريط في الاستعداد، وعدم مقابلة الحديد بالحديد، وأن الأطماع والأنانية والغفلة في ميدان الحرب جريمة لا تُغتفر في عالم الأسباب؛ لأن الله -عز وجل- لا يحابي، وقد جعل الله لكل شيء سببًا.
ونعترف أن العرب في حاجة إلى إيمان جديد بالرسالة الخالدة رسالة الإسلام، وبدون هذه الرسالة لن يكون نصر ولن تكون عزة، ولن توجد كرامة، ولا حب وإخلاص يملأ القلوب، وإنه لا تعز العرب ولا الأتراك ولا الهنود لا يعزون إلا بإيمان بهذه الرسالة والعمل بها والتخلق بأخلاقها.
ونعترف أن المسلمين عامة، والعرب خاصة، لا تفيدهم ولا تخدمهم قوة أجنبية لمصالح سياسية للأعداء والأجانب تنقلب مع الرياح وتخضع للمنافع والأرباح.
فلنتوكل على الله أولاً، ثم لنعتمد على إعدادنا وسواعدنا وطاقتنا الكبيرة، وإيماننا وأخلاقنا وصفاتنا وعلى اكتمال إعدادنا ماديًّا وسلاحًا ومعنويًّا (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60] من قوة: تنكير أيّ عموم أنواع القوة (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60].
نعم يجب أن نلجأ إلى الله تبارك وتعالى أفرادًا وأممًا، حكامًا ومحكومين، نتضرع إليه ونتوب توبة نصوحًا، ونبرأ إليه من كل حول وقول ونؤمن بأنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، ولا نكون كالذين قال الله فيهم: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 43]، ولا كالذين قال الله فيهم: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76].
بل نكون كالذين قال الله فيهم: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118].
وللتوبة المخلصة الصادقة تأثير غريب في تغيير المصير وقلب الأوضاع، وقد حكى القرآن عنه عليه السلام قوله: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) [هود:52].
وحكى قول -نوح عليه الصلاة والسلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 10- 13].
ولنصلح حياتنا وسيرتنا مع الله ومع عباده في تعاملنا وعلاقتنا، وفيما أعطانا الله -تبارك وتعالى- ومكننا فيه ومتعنا به، ولنترك معاداة الله ومحاربة رسوله ومعارضة شريعته.
فلذلك تأثير سحري في الفوز وفي السعادة وفي العز والنصر والكرامة والنجاة من الأعداء القادمين الماكرين، وقد قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا)[الجن: 16]، وقال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]، وهكذا نرى أن الآيات القرآنية كأنها تنزل اليوم على واقعنا..
وأختم خطبتي بما بدأت فيه بقوله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي"، فلن تضلوا ولن تهلكوا ما تمسكتم بهما، ولا زلتم منصورين على عدوكم ما دمتم متمسكين بكتاب الله وسنتي، فإذا خرجتم عن ذلك سلط الله عليكم من عدوكم من يخيفكم، ثم لا ينزع خوفه من قلوبكم حتى تعودوا إلى سنتي..
أقول قولي هذا وأستغفر الله..