المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - الحياة الآخرة |
الإكثار من ذكر الموت يحثّ الإنسان على التوبة والإنابة، والإقلاع عن المعصية والإساءة، وترك التسويف والتأخير، ومنها ما ذكَره النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث حيث قال: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات؛ فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسّعه، ولا ذكره في سَعَةٍ إلا ضيّقَها"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كتب على الخليقة الفناء، أحمده -سبحانه- على السراء والضراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العظمة والكبرياء.
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الكرماء النجباء، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستغفروه، وعظموه -سبحانه- ومجدوه، واشكروه على نعمة الإسلام وأطيعوه، واسألوه الهداية إلى الطريق المستقيم، والثبات عليه إلى يوم الدين.
يا عبد الله:
إنْ كنْتَ نلتَ من الحياة وطيبها | معْ حُسن وجهك عفّةً وشبابا |
فاحذَرْ لنفسك أن ترى متمنِّياً | يوم القيامة أن تكون تراباً |
عباد الله: إن النفس لَتكره الموت، كما قالت عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، قالت: "يا رسول الله، كلنا نكره الموت!"، فطبيعة الناس وما جبلت عليه كراهية الموت وذكره، من أجل هذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُكثروا من ذكر الموت، فقال: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات".
وإنما قال ذلك حتى لا يغلب طبع النفس وخلقها صاحبها، فينسى الموت والدار الآخرة، ويطمئن ويركن إلى الدار الفانية التي قال الله فيها: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]، وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظرْ بم يرجع".
فالدنيا أهون على الله من الجدي الأسكّ الميت، كما في الحديث الصحيح عن جابر -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مر بالسوق والناس كنفيه، فمر بجدي أسكّ ميت، ومعنى أسك: صغير الأذن، فتناوله بأُذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال "أتحبون أنه لكم؟"، قالوا: والله لو كان حيا لكان عيباً فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "والله! لَلدنيا أهون على الله من هذا عليكم".
فهذه الدنيا بجبالها وأرضها ومياهها وسهولها وقصورها وثرواتها لا تعدل عند الله شيئاً، فمآلها إلى الفناء والزوال، فهي كما قال عنها على بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حلالها حساب، وحرامها عقاب".
ذُكر عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه كان يتمثل بهذين البيتين:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له | من الله في دار الحياة نصيبُ |
فإن تعجب الدنيا أناساً فإنها | متاعٌ قليلٌ والزوالُ قريبُ |
فطوبي لعبدٍ آثر آخرته على دنياه! وتعسا لعبد آثر دنياه على آخرته! ولهذا؛ من تذكر الموت والبلى استعد لما أمامه، وزهد فيما بين يديه.
فالله -عز وجل- قال في كتابه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، فالموت لا بد لكل نفس منه عاجلاً أو آجلا، لن يمنعه أو يؤخره كثرة مال وأولاد، ولا رفعة نسب، وعزة جاه وحسب، ولن يحجزه كثرة أتباع وأصحاب، ولا حصون وحرس وأرباب، فالموت آتٍ آتٍ، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء:78].
ومن هاب أسباب المنايا يَنَلْنَهُ | ولو رام أسباب السماء بِسُلَّمِ |
لن ينفع من الموت هروب ولا فرار، ولن يجدي فيه بكاء وحزن، فمتى حان أجله واقترب وعده، فإنه سينزل بك يا بن آدم، ويأخذك من بين أهلك وأصحابك وخدمك وحشمك، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].
هذا الموت غفل عنه أكثرنا اليوم؛ لكثرة الأسباب التي تجعلنا نغفل عنه، فتن شتى ومتنوعة، فتنة أموال وفتنة أولاد، وفتنة نساء كاسيات عاريات، وفتنة ألعاب شتى غزت البلاد والمجتمعات، فكان من جراء ذلك التقصير في أداء الطاعات والقيام بالواجبات، والوقوع في كثير من المعاصي والسيئات، والانخداع بفتن الشبه والشهوات، حتى أصبح الموت في طي النسيان!.
نرى الناس يموتون ويتركون هذه الدنيا كلها، نصلي على الأموات وندعو لهم بالمغفرة والتجاوز عن السيئات، ونقبر الموتى وندفنهم في المقابر فنرى القبور التي هي مساكن الأموات، ومع ذلك وكأن الموت لغيرنا لا لنا، يا سبحان الله العظيم! رحماك يا الله مِن هذه القسوة التي أصابت قلوبنا، ومن هذه الغفلة التي خيمت على عقولنا!.
هل نحن أفضل من سيد الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل نحن أحسن حالاً وأفضل عبادة من صحابة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل نحن أحسن حالاً وأفضل عبادة من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين وتابعيهم؟ كلا! بل إن حالنا سيئة... ضعف في العقيدة والإيمان، تقصير في العبادة وطاعة الرحمن، سوء في المعاملة والأخلاق.
ومن هنا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر من ذكر الموت، ويأمر أصحابه بذلك، فهانت عليهم الدنيا، وعظمت في نفوسهم الآخرة، فعملوا لدار الحياة؛ وأما نحن فبالعكس من ذلك، غفلنا عن الموت، ولم يوص بعضنا بعضاً بذكره والإكثار منه، فهانت علينا الآخرة، وعظمت في نفوسنا الدنيا، فصارت حالنا كما نرى! نسأل الله أن يهدينا ويعفو عنا.
عباد الله: إن ذكر الموت والإكثار من ذكره متأكد في هذا الزمان العصيب، وعلى هذه الحال الرديئة، ولو تعلمون -عباد الله- ما في ذكر الموت والإكثار من ذكره من المنافع والمصالح لما تركتم ذلك.
وسأذكر لكم بعضاً منها:
أولا: في تذكر الموت والإكثار من ذكره، طاعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك وأوصي به أمته، وفي ذلك أجر عظيم، وثواب كريم.
ومنها: الإكثار من ذكر الموت يحثّ الإنسان على التوبة والإنابة، والإقلاع عن المعصية والإساءة، وترك التسويف والتأخير، ومنها ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث حيث قال: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات؛ فإنه ما ذكَره أحد في ضيق إلا وسّعه، ولا ذكره في سَعَةٍ إلا ضيّقَها"، وفي رواية: "فإنه ما ذكر في كثير إلا قلّله، ولا قليل إلا كثّره".
فذكر الموت يرزق الإنسان القناعة والرضا، ويحميه -بإذن الله- من شر الحرص والطمع، نقل عن أحد السلف أنه قال: "من أكثر من ذكر الموت، أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القوت، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل عن العبادة"، وهذا هو الواقع تماماً فيمن نسي ذكر الموت ولم يجعله على باله، يسوف في التوبة حتى تتراكم عليه الذنوب؛ فيخشى عليه أن يعاقب بالطبع على القلب، والعياذ بالله!.
وتراه لا يرضى بما قسمه الله له من الرزق، فهو في تسخط وتضجر، وتجده يتكاسل عن العبادة ويسارع إلى المعصية.
ومن منافع ذكر الموت أن الإنسان لا يحسد أخاً له على نعمة أنعم الله بها عليه دونه، ولا يفرح فرحاً شديداً برزق ناله، ولذا قال أبو داود -رحمه الله-: "من أكثر ذكر الموت قل حسده وقل فرحه".
هذه -عباد الله- بعض المنافع والمصالح من ذكر الموت والإكثار منه، فلنتق الله عباد الله، ونأخذ بوصية رسول الله، ولنمتثل أمره -عليه الصلاة والسلام-، ولنكثر من ذكر الموت ونستعد له بالإيمان والعمل الصالح.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية:
... عباد الله: ليتذكر كل واحد منا لحظة الفراق لهذه الدنيا، حيث لا ينفع في هذه اللحظة راق يرقي، ولا طبيب يعالج، ولا قوي يدافع.
لقد حضرت ساعة الوداع، اسمعوا -عباد الله- هذه الآيات التي تذكر هذه اللحظة العصيبة من حياة الإنسان، قال -جل ذكره-: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة:26-30].
وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:83-87].
لا إله إلا الله! ما أشدها من حالة وأفظعها من ساعة! أفلا نتذكر هذه اللحظة وهذه الساعة؟! لعلنا إلى ربنا نتوب ونؤوب، وبطاعته نقوم.