الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | سعد بن عبدالله البريك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وعلى المترف أن ينظر في حوادث الزمان ونوائب الليالي والأيام، وليعلم أنه إن كان غنياً اليوم فقد يكون فقيراً غداً، فإن لم يردع نفسه في غناه واغتر بحاله فقد تزول دنياه فجأة ويتحول غناه فقراً وعزه ذلاً، وعندها تضيق به الأرض بما رحبت وتسوء عاقبته، فالعاقل يُعِدُّ نفسه لتقلب الأحوال وتبدل الأزمان،.. كما أنه عليه أن ينظر في مدى خسارته وغبنه لاشتغاله بالترف ومظاهره: من ذهاب أمواله سدى، وإفناء الوقت في غير ما ينفع عند الله مع أنه يدنو بصاحبه من الآخرة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا شبيه ولا مثيل ولا نظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد.. فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
معاشر المؤمنين: لقد أخذ الترف والتعلق بزينة الحياة الدنيا وشهوتها بألباب أفراد من الأمة واستحوذا على عقولهم إلى درجة أنهم أصبحوا ينظرون إلى تعاليم الإسلام وأحكامه على أنها تفسد عليهم متعتهم وبهجتهم بها فاتخذوا كتاب ربهم وسنة نبيهم وراءهم ظهرياً وتولوا وأعرضوا حتى وصل الأمر ببعضهم إلى ترك الطاعة بل ومبارزة الله تعالى بالمعاصي.
جاء في القاموس: التُّرْفَةُ: النعمة والطعام الطيب، والشيء الظريف تخص به صاحبك، والمترف كمُكرمَ: هو المتروك يصنع ما يشاء لا يُمنَع، والمُتَنَعَّمُ لا يمنع من تنعمه. (القاموس المحيط 1026).
والترف هو مجاوزة حد الاعتدال بنعمة أو الإكثار من النعم التي يحصل بها الترف (الترف للأستاذ/ ناصر بن عمار، ص 7).
والمترف هو من أبطرته النعمة وسعة العيش وألهته عن طاعة الله، فتراه حريصاً على زيادة أحواله وعوائده ساعٍ إلى بلوغ الغاية في حاجات الذات الحسية من مأكل ومشرب ومسكن ومركب.
وقد ورد ذكر الترف في ثمانية مواضع من كتاب الله كلها في مقام الذم له والتحذير منه؛ لأن الترف والتكذيب بآيات الله غالباً ما يقترنان، كما في قوله تعالى: (وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) [الزخرف: 23]، وكما في قوله عن سبب عذاب وشقاء أصحاب الشِّمال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ* وََكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة: 45: 47].
وورد عدد من الأحاديث النبوية تنهى عن الترف وتحذر من تعلُّق القلب به، ومن غلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وتحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين.
عن عمرو بن عوف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» (رواه مسلم 4/2274).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة» (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2/830).
إنَّ دعوة الإسلام إلى ذم الترف والتحذير منه لا تعني تحريم ما أحل الله من النعم والطيبات، وإنما المراد الاقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بها والركون إليها. عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس» (رواه البيهقي في الشعب وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/359).
وقال -صلى الله عليه وسلم- لوالد أبي الأحوص: «فإذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته» (رواه أبو داود وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع 1/284).
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي» (رواه مسلم 4/2087).
ولكن مِنَ المترفين مَنْ لم يراعِ هذا المفهوم السامي الذي أرشدت إليه الأحاديث النبوية لاستعمال نعم الله -تعالى- على خير وجه يحقق سعادة الدنيا والآخرة، فتجده غير مبالٍ بصحة جسده مفرِطاً في تناول الطعام والشراب وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب، فوقع فريسة السمنة وأمراض التخمة لإعراضه عن التوجيه النبوي الذي يستأصل مشاكل السمنة ويعالجها قبل ظهورها. عن مِقدام بن معدي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن بحسْب ابن آدم أُكُلات يُقِمْنَ صلبه فإن كان لا محالة: فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لِنَفَسِه» (رواه أحمد والنسائي وغيرهما وصححه الألباني في الإرواء 1938).
وتراه يتباهى بلبس الملابس الراقية والأقمشة الفاخرة متعالياً على غيره والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها» (رواه الترمذي وأحمد وسنده حسن).
والبعض يسبل الإزار تحت الكعبين تكبراً وبطراً، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جرَّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه» (رواه أبو داود وإسناده صحيح).
والبعض الآخر ينوِّع من استعمال الملابس حسب أوقات اليوم فللصباح ملابس وللمساء أخرى، حتى كثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة وتكدست، وأكثر ما يكون هذا الترف لدى النساء.
ومن سماتهم: التبذير والإسراف وإنفاق الأموال الطائلة في بناء المنازل والدور، والتباهي في إعدادها وتصاميمها البديعة في الشكل الخارجي والداخلي، مع الحرص على تعدد مواقعها فبعضها للشتاء والآخر للصيف، وبعضها للسكن وبعضها للنزهة، ومع الحرص على سعتها وكثرة غرفها ووجود ملحقات لها ووفرة وسائل الترفيه فيها، وحسب ابن آدم من كل هذا الشيء القليل. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "مرَّ بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أطيِّن حائطاً لي أنا وأمي فقال: «ما هذا يا عبد الله؟» فقلت: يا رسول الله شيء أصلحه، فقال: «الأمر أسرع من ذلك» (رواه أبو داود وصححه الوادعي -رحمه الله- في الصحيح المسند 1 / 535).
ومنهم من يبالغ في العناية بنعومة جسده وطراوته وترهُّل الأطراف ويستكثر من الكماليات ووسائل العناية بالنفس، والإفراط في التدهن والتطيُّب وترجيل الشعر. عن عبد الله ابن مغفل -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الترجل إلا غبّاً" (رواه أبو داود وحسنه العلامة الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة). قال السندي معنى غِبَّاً: أي أن يسرح شعره يوماً ويترك يوماً، والمراد كراهة المداومة على ذلك.
وعن عبد الله بن بريدة: أنَّ رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رحل إلى فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له أي يسقيها مديداً من الماء، فقال: إني لم آتك زائراً، وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجوت أن يكون عندك منه علم، فرآه شعثاً، فقال له: ما لي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟ فقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، ورآه حافياً فقال: مالي أراك حافياً؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا أن نحتفي أحياناً. (أخرجه أحمد وأبو داوود وصححه الألباني في الصحيحة 2/4).
قال في النهاية: الإرفاه هو كثرة التدهن والتنعم، وقيل التوسع في المشرب والمطعم، أراد -صلى الله عليه وسلم- ترك التنعم والدعة ولين العيش؛ لأنه من زي العجم وأرباب الدنيا.
ومِنَ المترفين مَنْ يسرف في اقتناء الفرش الوثيرة والأواني الفاخرة والمتاع الراقي، أو يكثر من ذلك كثرة تقصر معها أيام العمر وتأبى أن تتسع للعبد لكي ينتفع بها ويستخدمها. لقد كان من هدي النبوة التقلل من ذلك قدر الإمكان فقد روى البخاري والنسائي عن عمرو بن الحارث -رضي الله عنه- أنه قال: "ما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا سلاحه وبغلته وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة". وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أُدْم" أي من جلد حشوه من ليف (رواه البخاري).
ومنهم مَنْ لا يقوم بحاجاته الذاتية والاجتماعية التي يمكنه القيام بها، ويلجأ بدلاً من ذلك إلى استقدام الخدم رجالاً ونساء من غير حاجة إليهم، وإنما رغبة في ترفيه النفس وحب التفاخر والتباهي والظهور بمظهر المتميز أمام الآخرين.
وغالبهم يكثر من استخدام وسائل الترويح عن النفس من مزاح وألعاب ونزهة وزيارات كثيرة تخرج بالترويح عن الحكمة التي شرع لأجلها، حتى تصبح في حياة كثير من الناس هي الأصل والطاعة والعبادة هو الفرع فلا يحرص على طاعة ولا يجتهد في قربة، ويتوانى عن القيام بما يقِّربه إلى الآخرة من صلاة النفل وصيام التطوع وكثرة الذكر ويضيع ساعات العمر وأيامه في أمور إن لم تكن من السيئات فلن تكون من الحسنات بحال. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محذراً من ذلك: «ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة (رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع 2/997)، ومما استحسن من كلام الحجاج قوله على المنبر: "إن امرأً ذهب من عمره ساعة في غير ما خُلِق له، لخليقٌ أن تتطاول عليه حسراته" (أورده الماوردي في نصيحة الملوك 17).
كما أنَّ قلة العبادة والتكاسل عن الطاعة هي السمة الغالبة على معظمهم إلا من رحم الله منهم وقليل ما هم؛ وذلك لأن قلب ابن آدم إذا ملئ بشيء حتى فاض استحال ملؤه بغيره، وكل إناء بالذي فيه ينضح، فالمترف قد ملأ قلبه أو كاد بحب الدنيا وتحصيل متعها وشهواتها، فإذا لم تجد الطاعة مكاناً لما في قلبه فإنها ترحل عنه، قال أبو حازم -رحمه الله-: "يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة" (ذم الدنيا لابن أبي الدنيا 135). فإذا كان هذا حال اليسير من الدنيا فكيف بحال الكثير منها؟
ولم يقف حالهم عند ذلك بل إن الكثير منهم خرج عن الجادة وولغ في المعصية وانغمس في الرذيلة، لإكثاره من الملذات والشهوات المباحة أولاً، ثم توسع فيها حتى خرج عن دائرة المباح إلى دائرة المشتبه فيه، ومع الزمن وقع في المحرمات قليلاً قليلاً حتى وصل إلى مرحلة الفسق والمجاهرة بالمعصية، نسأل الله السلامة والعافية.
ومنهم من وقع في عبودية الهوى والشهوات وردَّ الحق وكذَّب به، وقد أبان الله -تعالى- في كتابه أن الترف سبب ذلك فقال: (واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116]، وقال عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) [سبأ: 34].
ومن حال المترفين: قسوة القلب وغلظة الحس وثقل البدن مما يؤدي إلى نسيان العلم وزوال الفطنة والحرمان من متعة التطلع إلى ما وراء اللذة الآنية بالإضافة إلى حرمان النفس من لذة الاهتمامات الكبرى اللائقة بالدور العظيم للمسلم في حياته مع انشغال القلب عن التبصر بما يدور حوله واستلهام العبرة والعظة من ذلك، كل هذا نتيجة غرقه في لجة اللذائذ والشهوات، قال الشوكاني -رحمه الله- عند قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) قال: "وخصص المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر" (فتح القدير 4/773).
ومن سيما هؤلاء: العجز والكسل والتواني عن أداء الأعمال النافعة بحيث ينجز الواحد منهم عمل اليوم في أسبوع، وعمل الأسبوع في شهر، ولقبح هاتين الخصلتين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ منهما بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» (رواه مسلم 4/2079].
ولوقوعهم هؤلاء في الترف أسباب منها:
1- نسيان الموت والغفلة عن الدار الآخرة وقلة خشية الله -تعالى-، وعدم محاسبة النفس وطول الأمل، قال -تعالى- محذراً من ذلك: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]، وقال -صلى الله عليه وسلم- موصياً ابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» (رواه البخاري، الفتح 11/237).
قال ابن عبد البر في جامع العلوم والحكم: "وذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة، ولا تشاغل لديه بملذاتها وملهياتها، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه، والمسافر لا هَمَّ له في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر، وإنما يكتفي بتحصيل زاد السفر له ولراحلته لا غير" (جامع العلوم والحكم 2/378 - 381).
2- ومن الأسباب: تغليب متطلبات الجسد من مأكل ومشرب وملبس ومركب ومسكن ووسائل ترويح وتلبيتها والتكاسل عن العمل للباقية والتزود للآخرة، وقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الموازنة بين عمل الدنيا وعمل الآخرة وعدم الانشغال بالأمور الدنيوية على العبادة وعدم الانقطاع لعمل الآخرة وإهمال ما فيه مصلحة للعبد في دنياه.
روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- حين علم بمغالاته في العبادة: «ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟»، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: «فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً وإن لعينك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً وإن لزورك عليك حقاً».
وروى البخاري أيضاً أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا عن عبادته فلما أُخبِروا فكأنهم تقالُّوها وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (الفتح 5063).
3- آخرون وقعوا في الترف بزعم أنه لا بد أن يكون الإنسان ابن بيئته وأن يظهر بالمظهر اللائق به مطعماً ومشرباً ومركباً ومسكناً وخدماً فيقع قي تقليد المترفين ممن لا خلاق لهم مباهاةً وتفاخراً وحباً في مساواتهم في أحوالهم ومعاشهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (متفق عليه واللفظ لمسلم).
وقد ندب الله المؤمنين إلى التنافس في أمور الآخرة والمسارعة إلى مغفرته ورضوانه وجنته فقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148]، وقال سبحانه: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً مُنْسِياً أو غنى مُطْغِياً أو مرضاً مُفسداً أو هرماً مُفنِداً أو موتاً مجْهِزاً أو الدجال فشرُّ غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر» (رواه الترمذي وهو حديث حسن).
4- ومن الأسباب: ضعف التربية الإيمانية والتوجيه الجاد من قبل بعض الأهل والمربين في التحذير من فتنة الحياة الدنيا وزخرفها، والتقاعس عن تربية النشء على الطاعة والجَلَدَ والخشونة يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]. وقال عمر رضي الله عنه: "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم" (ذكره ابن القيم في كتاب الفروسية).
5- ومن أسباب الترف: تعلق النفس بالشهوات، فقد حبب الله -تعالى- للبشر زينة الحياة الدنيا وزخرفها، فقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14].
ولا بأس بالحب الفطري والضروري لاستمرار الحياة البشرية، ولكن المترفون يقدمون حب تلك الأشياء على محبوبات الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويتشاغلون بها ويركنون إليها حتى يصبحوا أرقاء لها، وقد حذر -تعالى- في كتابه عباده من تقديم حبهم لشهواتهم وملذاتهم على حبه سبحانه وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- والعمل لدينه، فقال عز وجل: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
7- كما أن للدعوات المضللة والإغراءات المتكررة التي مارسها اليهود والنصارى لإيقاع المسلمين في الشهوات أثر كبير في انجراف الكثير منهم في تيار الترف، فقد سعى هؤلاء إلى إلهاء الأمة بالشهوات وانغماسها بالملذات واللهو والعبث حتى لا تفيق ولا تنتبه لما يخططون لها لطمس عقيدتها وإذلال كرامتها (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء: 89]؛ فأغرقوا أسواق المسلمين بوسائل الترف وفنون الملذات، وزينوا ذلك في نفوسهم وبثوا الدعايات المختلفة وأقنعوا الكثيرين بأنها دليل من أدلة الحضارة وعنوان من عناوين التقدم والتميز والرقي في المجتمع.
ولقد أفصح اليهود قبحهم الله عن نواياهم الخبيثة من هذا الفعل: جاء في البروتوكول السادس من بروتوكولات بني صهيون: "سنشجع حب الترف المطلق" وجاء في البروتوكول الثالث عشر: "سنلهيها - أي الجماهير المسلمة - أيضاً بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزجيات للفراغ والمجامع العامة وهلم جرا" (الخطر اليهودي للتونسي 126: 151 بتصرف كبير). وصدق الله القائل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة: 82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
إن في هدي السلف وكيفية تعاملهم مع متع الحياة وملذاتها، للأخذ منهم والسير على منوالهم، علاجاً ناجعاً وبلسماً شافياً لهذه الآفة فمن هديهم:
أولاً: تربية النفس على عدم تحقيق كل ما تشتهيه رغم القدرة على تحقيق مطلوبها؛ قال رجل لابن عمر -رضي الله عنهما-: ألا أجيئك بجوارش، قال: وأي شيء هو؟ قال: شيء يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثر مما يشبعون (رواه الإمام أحمد في الزهد 189).
وفي رواية: ولكن عهدت أقواماً يجوعون مرة ويشبعون مرة. وسئل الحسن عن الرجل يبتاع الطعام ويبتاع اللحم، هل عليه في ذلك؟ فقال: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "كفى سرفاً ألا تشتهي شيئاً إلا أكلته" (أورده ابن أبي الدنيا في كتاب إصلاح المال 106).
ثانياً: النظر إلى ملذات الحياة الدنيا وشهواتها على أساس أنها وسيلة زائلة تقرب إلى الدار الآخرة لا على أنها غاية في ذاتها وهدف يطمح إلى تحقيقه والتشبث به، قال عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- في آخر خطبة له: إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، لا تبطركم الفانية، ولا تشغلكم عن الباقية، آثِروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله عز وجل (ذكره ابن أبي الدنيا في ذم المال 77).
ثالثاً: التوسط في الإنفاق على النفس والأهل؛ قال عبدالملك بن مروان لعمر ابن عبد العزيز: كيف وما يغنيك؟ قال: الحسنة بين السيئتين، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]. وقال الحسن: إن من علامة المؤمن: أن لا يقصر به بيته، ولا يبخل ولا يبذر، ولا يسرف ولا يقتر. وعن سفيان قال: "كانوا يكرهون الشهرتين: الثياب الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس فيها أبصارهم، والثياب الرديئة التي يُحتقر فيها ويُستَذَل دينه" (ذكره ابن أبي الدنيا في إصلاح المال 100).
رابعاً: الإنفاق في وجوه البر والخير، عن علي -رضي الله عنه- قال: ما أنفقت على نفسك وأهلك من غير سرف ولا تقتير فلك، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان. (ذكره الماوردي في كنز العمال 6 / 509).
وأورد الذهبي في السير عن الزهري قال: تصدق ابن عوف -رضي الله عنه- على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشطر ماله، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة (سير أعلام النبلاء 2 / 81)، وعن الحسن قال: "باع طلحة -رضي الله عنه- أرضاً له بسبعمائة ألف، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرقاً من مخافة المال حتى أصبح ففرقه" (ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء 1 / 89)، وعن مغيث بن سمي قال: "كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه منه شيء" (أورده أبو نعيم في الحلية).
خامساً: السعي في طلب الرزق سعياً لا يؤدي إلى التفريط في الطاعات قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك" (رواه البخاري - الفتح 1 / 223).
وعن ثابت البناني قال: "ذكر أنس سبعين رجلاً من الأنصار كانوا إذا جَنَّهم الليل أودوا إلى معلم لهم بالمدينة يبيتون يدرسون القرآن، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوة أصاب من الحطب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سعة أصاب الشاة فأصلحها فكانت تصبح معلقة بحُجَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء" (1 / 123)، وقال علامة الشام القاسمي -رحمه الله-: "وكان السلف يبتدرون عند الأذان ويُخلُون الأسواق لأهل الذمة والصبيان" (موعظة المؤمنين 1 / 125).
سادساً: الإكثار من محاسبة النفس عند سعة الرزق وانبساطه، وخشيتهم من أن يكون ذلك استدراجاً، قال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: "قُتل حمزة فلم نجد ما نكفنه فيه وهو خير مني، وقتل مصعب بن عمير وهو خير مني فلم نجد ما نكفّنه، وقد أصبنا منها ما قد أصبنا، ثم قال: إني لأخشى أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في الدنيا" (حلية الأولياء 1 / 100).
وعاد خباباً -رضي الله عنه- نفرٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "أبشر يا أبا عبد الله إخوانك تقدم عليهم غداً، قال: فبكى وقال: أما إنه ليس بي جزع ولكنكم ذكرتموني أقواماً وسميتم لي إخواناً، وإن أولئك قد مضوا بأجورهم كلهم، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم" (الحلية 1 / 145).
وينبغي على كل مسلم أن يعلم: أن الترف والتنعم والرفاهية مما لا يليق بأهل الآخرة، بل اللائق بهم العمل بدين الله والدعوة إليه والذود عنه؛ فما عند الله خير وأبقى، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17]، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه؛ قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (رواه البخاري - الفتح 6 / 366).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "قال لي شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة"، ثم قال ابن القيم: "فالعارف يترك كثيراً من المباح إبقاءً على صيانته ولاسيما إذا كان ذلك المباح برزخاً بين الحلال والحرام" (مدارج السالكين 2 / 28)، وقال -رحمه الله- في الفوائد: "من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته" (الفوائد 146).
وعلى المترف أن ينظر في حوادث الزمان ونوائب الليالي والأيام، وليعلم أنه إن كان غنياً اليوم فقد يكون فقيراً غداً، فإن لم يردع نفسه في غناه واغتر بحاله فقد تزول دنياه فجأة ويتحول غناه فقراً وعزه ذلاً، وعندها تضيق به الأرض بما رحبت وتسوء عاقبته، فالعاقل يُعِدُّ نفسه لتقلب الأحوال وتبدل الأزمان، ولله در القائل: "إذا تم أمر بدا نقصه توقع زوالاً إذا قيل تم".
كما أنه عليه أن ينظر في مدى خسارته وغبنه لاشتغاله بالترف ومظاهره: من ذهاب أمواله سدى، وإفناء الوقت في غير ما ينفع عند الله مع أنه يدنو بصاحبه من الآخرة، وضعف محبته لربه؛ لأن اشتغاله بملذات الدنيا وشهواتها يؤدي به إلى حبها حباً يصده عن الطاعة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة" (الفوائد 127).
وليدرك أن توفر وسائل الترف ومغريات الحياة بين يديه ليس من أسباب تحصيل السعادة، فكم من مترف منعم معرض عن دينه واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم- بلغ الغاية في الاستمتاع بزهرة الحياة ومتعها ولكنه كثير الخوف والهموم، شارد البال، حياته ضنك وأيامه بؤس وشقاء وقد يصل الأمر به إلى الانتحار، ولهذا يقول تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124]، وكم من فقير دنياه مقترة عليه، يعيش في سعادة وانشراح صدر وحياة طيبة بسبب صلاحه وتقواه واستقامته قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، قال الحسن -رحمه الله-: "أهينوا الدنيا، فوالله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها" (رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا 138 139).
ولست أرى السعادة جمع مال | ولكن التقي هو السعيد |
لا بد للعبد من إشغال نفسه بما ينفعه في آخرته، وترتيب الأولويات بحيث يقدم الأنفع على النافع والنافع على ما ليس فيه نفع، ومن يوفق لفعل ذلك فإنه سيتعالى بإذن الله عن التعلق بالدنيا وزينتها؛ قال سليمان الداراني: "لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة"، وقال مالك بن دينار: "بقدر ما تخزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك" (ذكرهما ابن أبي الدنيا - ذم الدنيا 66).
إن في التأمل في تبعات الترف في الآخرة، واستشعار الوقوف بين يدي الله -تعالى-، والأسئلة التي ستوجه إلى العبد في ذلك الموقف عن النعيم الذي يتقلب بين جنباته في هذه الدنيا من أكبر الدوافع على ترك الترفه والتنعم، ولهذا ذكّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بذلك فقال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع 2 / 221).
ولقد كان هذا التأمل من أكبر الأسباب التي دفعت بعض السلف إلى التقلل من الدنيا وملذاتها؛ قال طاووس -رحمه الله-: "حلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة" (حلية الأولياء 4 / 12)، وكان الأسود يقول: "من كانت الدنيا أكبر همه، طال غداً في القيامة غمه" (ذم الدنيا 132).
وعلى العاقل إدامة النظر في حال أهل الترف قديماً وحديثاً، والتأمل في أوضاعهم وما يعانيه غالبهم من غفلة، وقلة طاعة، وقسوة قلب، وكثرة هم، وتشتت فكر، بالإضافة إلى الفجيعة من تقلب الأحوال والخوف من انصرام ما هم عليه من نعيم وملذات، وهذا كفيل بردعه عن التعلق بالملذات، ورحم الله سفيان الثوري حين قال: "إذا أردت أن تعرف قدر الدنيا فانظر عند من هي" (ذم الدنيا: 145).
كما أن القليل من نعيم الدنيا يكفي لعبورها والوصول إلى الآخرة، قال -صلى الله عليه وسلم- حين دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال له: "يا نبي الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا!"، فقال: «مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها» (رواه أحمد وصححه الألباني - المسند 1 / 301).
وكان خالد بن صفوان يقول: "بتُّ أفكر فكسبت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، ثم نظرت فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان وطمران" (أورده ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا 148).
وإن نظر المترف في أحوال إخوانه المسلمين والتأمل في ما يعانون من فقر وجهل ومرض وما يتعرضون له من حروب يجعله يدرك أن الأنفع له تقديم ما يفيض عن حاجته إلى إخوانه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه».
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اهد ضالنا، اللهم من ضل وتنكب الصراط اللهم رده إلى الحق رداً جميلاً.
اللهم عليك بمن تسلط وآذى ونال من مقام نبينا -صلى الله عليه وسلم-، اللهم سلط عليهم جنودك التي لا يعلمها إلا أنت يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم ابسط لنا في عافية أبداننا وصلاح أعمالنا وسعة أرزاقنا وحسن أخلاقنا واستر على ذرياتنا واحفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك، اللهم أحسن خاتمتنا في خير عمل يرضيك عنا ربنا لا تقبض أرواحنا على خزي ولا غفلة ولا فاحشة ولا معصية ولا تمتنا بحق مسلم في عرض أو دم أو مال، نسألك اللهم عيشة هنية وميتةً سوية ومرداً إليك غير مخزٍ ولا فاضح.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وارض اللهم عن البقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.