الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح المحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التربية والسلوك |
هذه نماذج في كتاب الله تعالى: نوح مع ولده: كيف حرص على هداية ولده، واستعمل الأساليب المختلفة للدلالة وللبيان وللإرشاد، لعل الله أن يهديه. وإبراهيم مع أبيه: كيف استخدم الأساليب المختلفة ليدل أباه على الهداية والإرشاد. ولقمان وابنه: كيف أوصاه ودلّه على الأخلاق الحميدة. إن الأسرة المسلمة يجب أن تتمثل هذه النماذج في تعاملها مع من حولها، فإذا كان الأب طالحاً فليحرص الأبناء على أن يدلوه على الهداية والخير، وإذا كان الابن طالحاً فليحرص الأب والإخوة على أن يدلوه على الخير وطريق الهدى..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أنزل القرآن رحمة للعالمين، وأصلى وأسلّم على البشير النذير؛ محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة في الله:
لقد أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته، أوصاهم بكتاب الله تبارك وتعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وسنتي". فالزموا كتاب الله يا عباد الله، والزموا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الإخوة في الله:
هل رأيتم في البيوت ولدا طالحاً وأباً صالحاً؟!. هل رأيتم في بعض البيوت أباً طالحاً وولدا صالحاً ؟!. هل رأيتم في بعض البيوت أباً صالحاً وولداً صالحاً؟!.
تلك نماذج أخبرنا عنها الله -تبارك وتعالى- في كتابه، ومن ثَمّ فسيكون حديثي معكم عن شيء من علاقتي الآباء والأبناء، والأبناء بالآباء في القرآن الكريم.
ونبدأ بالنموذج الأول؛ يقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر قصة نوح -عليه الصلاة والسلام- وقد دعا قومه، دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 36- 43].
أيها الإخوة:
إنّ نبي الله نوح -عليه الصلاة السلام- بذل جهداً عظيماً في دعوة قومه، بذل جهداً كبيراً في دلالة قومه إلى الهداية والى السعادة، ودعاهم كما دعا الرسل جميعاً، دعاهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله. وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وقد مكث نوح -عليه الصلاة والسلام- في قومه ما لم يمكثه رسول ممن أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عنهم، مكث فيهم كما أخبر الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً) [العنكبوت: 14].
وقد نوّع نوح -عليه الصلاة والسلام- دعوته في قومه، فدعاهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، بالأساليب المختلفة المتنوعة، ولكنهم أبوا، أبوا إلا الفرار والإعراض عن الله، وعن رسوله نوح عليه وعلى نبينا أفضل السلام.
أيها الإخوة:
كيف نشأت عبادة الأصنام عند قوم نوح؟!.
لقد ورد في ذلك حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعبادة الأصنام في قوم نوح نشأت أول ما نشأت من الصور، فإنّ آدم -عليه الصلاة والسلام- وذريته كانوا على الإيمان، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، وكانوا جميعاً على الإيمان، ثم لما أخذت عبادة الأصنام تبدأ فيهم من خلال عبادة الصور، فقد جاءهم إبليس وقال لهم: لو أنكم صوّرتم صور الصالحين من أصحابكم في أماكن العبادة لتتقوّوْا بهم على العبادة، فظنّوا أن هذا لا بأس به، فصوروهم فلما فعلوا جاءهم الشيطان بعد مضي أجيال، وقال لهم: "إن أصحابكم السابقين لم يصوروهم فقط ليتقوّوْا بهم، وإنما صوروهم لعبادتهم".
فمن هنا نشأت عبادة الأصنام، وأصبحوا يضعون هذه التماثيل أمامهم، يعبدونها من دون الله -تبارك وتعالى-: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح: 23]. وهذه أسماء رجال صالحين كانوا من قوم نوح، عُبدوا عن طريق الصور.
وإذا كان نوح -عليه الصلاة والسلام- قد بذل ذلك الجهد الكبير في دعوة قومه، فكيف سيكون جهده في دعوة أهل بيته؟!.
لقد أخبرنا الله -تعالى- عن امرأة نوح أنها كانت كافرة، قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم: 10]. ولما كانت امرأة نوح كافرة كان لها تأثيراً على أحد أبنائها، فبقي على الكفر، ولقد بذل نوح جهداً كبيراً في دعوة قومه، وفي دعوة أهل بيته، ولكن الله -تعالى- يقول: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56].
وقد كفر قوم نوح، وقالوا لنوح عليه السلام: (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ...) [هود: 27]؛ ومعنى قولهم: (بَادِيَ الرَّأْيِ) أي: إن هؤلاء الذين يسمونهم الأراذل هم الذين استجابوا لنوح -عليه الصلاة والسلام-، فقالوا عنهم: إنهم استجابوا لك بسرعة بغير رويّة، ولا فهم ولا تدبر.
وهذه بلا شك وصمة يصفون بها كل من استجاب لنداء الله -تبارك وتعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مادحا للصديق: "ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبى بكر، فإنه لم يتلعثم".
أيها الإخوة:
لقد كانت الأجيال تمضي ونوح عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام، وقد ورد في بعض الآثار أن الرجل من قوم نوح كان إذا أدركته الوفاة أوصى ابنه بأن لا يستجيب لنوح أوصى ابنه أن يعادي نوحاً، ويعادي الذين آمنوا، ولكن الله -تبارك وتعالى- وهو الذي ينصر رسله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51]. فقد استجاب -سبحانه وتعالى- لنداء نوح بعد أن مكث فيهم زمناً طويلاً يدعوهم إلى الإسلام، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلما يئس منهم دعا ربه -تبارك وتعالى- قائلاً كما اخبر -تبارك وتعالى- عنه: (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). ويقول -تبارك وتعالى- عن نوح: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر: 10].
وانتصر الله -تبارك وتعالى- لنوح، وكان في السفينة، وكان الغرق في قوم نوح، وفي أمم الأرض جميعاً، ولم ينجُ مع نوح عليه السلام إلا القلة القليلة، وقيل: كانوا اثني عشر رجلاً. وقيل: كانوا سبعين. وقيل: كانوا ثمانين. وهذا عدد قليل بالنسبة للألف سنة إلا خمسين عاماً، والتي دعا فيها نوح قومه، ولكن هذه العصبة المؤمنة نجاها الله -تبارك وتعالى- في السفينة مع نوح، وأغرق الله أهل الأرض جميعاً، فليعتبر المعتبرون.
أيها الإخوة المؤمنون:
ليعتبر المعتبرون في مصارع الطغاة ومصارع المكذبين:
أين ذهب الملا من قوم نوح؟!. أين ذهب الملا من قوم هود؟!. أين ذهب الملا من قوم صالح؟!. أين ذهب الملا من قريش؟!؛ أين ذهب أبو جهل، وأبو لهب؟!. وأين ذهب شيبة وعتبة ابني ربيعة؟!. وأين ذهب عقبة بن أبي معيط، والذين كانوا يعادون رسول الله وأصحابه؟!. أين ذهبوا؟!.
لقد بقي للمؤمنين الذكر الطيب، وبقيت للمؤمنين السمعة الطيبة؛ يذكرهم الناس فيقتدون بهم، ويذكرون أولئك فيدعون عليهم، وشتان بين هؤلاء وهؤلاء.
لتعتبروا أيها الإخوة في مصارع الطغاة في الزمن القديم، والحديث.
أيها الإخوة:
إن نوحاً -عليه السلام- بلّغ دعوة ربه، وحرص كثيراً على هداية ابنه، وكان -عليه السلام- في دعوته لابنه قد استمر يدعوه ويدعوه، حتى والمطر ينزل، حتى والأرض تنبع بالماء، والله -تبارك وتعالى- أمر نوحاً -عليه الصلاة والسلام- أن يحمل في السفينة أهله والذين معه، وأن يحمل في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين.
وبينما كانت الأمواج تتلاطم إذا بابن نوح قد ابتعد قليلاً، ولكن الأب الرحيم نوح ينادي ابنه: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ). لقد ناداه: يا بني اركب معنا، اركب معنا لتنجوا، ولكن الابن الضال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أبى ورفض، وقال: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء).
وأخبر الله -تعالى- عن نوح أنه قال لابنه: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ). وكانت النتيجة: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 43].
وبعد الغرق تتحرك العاطفة في الأب، ويقول هذا الأب مخاطباً ربه -تبارك وتعالى-: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) [هود: 44- 47].
وهنا يظن البعض أن معنى قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ). أنّه ليس من ذريته، وأنه ولد زنى، لقوله -تعالى- عن امرأة نوح ولوط: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) [التحريم: 8].
وهذا فهم خاطئ تماماً، بل إن امرأة نوح لم تخن نوحاً في عرضها، ولم تخن امرأة نبيّ نبيّاً قط، وإنما خانته في أنها كانت تتآمر مع قومه الكفار ضد نوح والذين آمنوا معه، وقيل إنها كانت تكشف أسرار نوح، وقيل أنه إذا دخل رجل في الإيمان ذهبت امرأة نوح إلى قومه، وقالت لهم: إن فلاناً دخل في الإسلام فيأتون إليه فيسومونه سوء العذاب.
أمّا أنها كانت تخونه في عرضها فلا، وهذا كان بالفعل ابناً له، لكن الله قال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ). أي إن ابنك هذا ليس من اهلك الذين أخبرتك ووعدتك أنهم الناجون، لأن الله قال: (وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ). ونوحٌ دعا ربه -تبارك وتعالى- أن يكون ابنه من الناجين، لكن ابنه كان من الذين سبقت عليهم الضلالة.
أيها الإخوة المؤمنون:
لو كان أحد يستطيع أن يهدي أحداً لاستطاع نوح أن يهدي ولده، ولاستطاع إبراهيم أن يهدي أباه كما سيأتي بعد قليل، ولكن الهداية بيد الله -تبارك تعالى-.
أيها الإخوة المؤمنون:
إنّ نوحاً لما رأى أنّ ولده هذا مات على الكفر والشرك، ومات على الضلالة وغير الهدى، ولما رأى أن ولده هذا مات وخرج من هذه الدنيا وهو على الشرك بالله تعالى، كانت له ولمن بعده عبرة.
أيها الإخوة في الله:
إنّ هذه القصة تعطينا دلالة مهمة جداً يجب أن نقف عندها:
هل رابطة النسب تفيد؟!. هل رابطة القرابة تفيد؟!. هل رابطة القومية أو رابطة الأرض تفيد؟!. ورابطة اللغة، أو غيرها من الروابط: هل تفيد أحداً؟!
لو كانت تفيد لأفادت هؤلاء، لكن لما اختلفت العقيدة، ولما تباينت، تباينت هذه الروابط جميعاً، وأصبح الذي يؤلف ويجمع بين الناس إنما هو كلمة لا إله إلا الله، هي التي تجمع بينهم.
أما الروابط الأخرى من اللغة والدم والنسب أو الوطن، أو غير ذلك فإنها روابط مؤقتة، وليست بشيء عند الله أبداً، والله -تبارك وتعالى- يقول في كتابه العزيز: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...) [التوبة: 22].
ويقول -تبارك وتعالى-: (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ...) [الممتحنة: 3]، ويقول -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ...) [التوبة: 23].
وهكذا نرى أيها الإخوة المؤمنون في قصة نوح -عليه الصلاة والسلام- وابنه حرص الأب حرصاً شديداً على هداية ابنه، ولكنه لما تبين له أنّه على الضلال تبرأ منه، واعتبر أنه ليس من أهله، وأنّه يمثّل عملاً غير صالح كما أخبر الله -تعالى- في كتابه العزيز.
ونقف عند نموذج آخر، أخبرنا الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز عن هذا النموذج في قصة إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ). ويقول -تبارك وتعالى- مبيناً كيف دعا إبراهيم -عليه السلام- أباه، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) [مريم: 41- 45].
وقصة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- طويلة جداً ومعروفة، وقد كسّر الأصنام، ولما علم بذلك قومه جمعوا الناس، وكان في ذلك منهج لإبراهيم -عليه السلام- أن يتحداهم بكسر الأصنام حتى يؤدي بهم هذا الأمر أن يجمعوا الناس أمام الملا، ولما جمعوا الناس ليحاسبوا إبراهيم -عليه السلام-: (قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبراهيم * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ). وهكذا فُضِحوا.
وموسى -عليه السلام- لما دعا قوم فرعون -عليه السلام-: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى). كي يشاهد الناس ما يحدث ويطلعوا عليه.
والغلام الذي قص علينا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قصته لما عجز الملك عن قتله، فقال للملك: "إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟! قال تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام. ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام. ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام...".
وهذا منهجٌ وأسلوبٌ للدعاة إلى الله -سبحانه وتعالى-.
لقد كان إبراهيم -عليه السلام- حريصاً شديد الحرص على دعوة قومه، فقد بدأ دعوته بدعوة أبيه، وكان اسم أبيه (آزر) وقيل أنه كان يصنع الأصنام ويبيعها للناس.
وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- دعا أباه بألطف عبارة، منادياً له قائلا: (يَا أَبَتِ...)، (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً).
أسلوب رقيقٌ لطيفٌ من إبراهيم لأبيه، ثم يأتي ويقول له: إنني ابنك، وأنا اصغر منك، ولكني (قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ). إنني رسول من الله -تبارك وتعالى-، إنني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك الصراط المستقيم، ويحاول، ويحاول ويقول لأبيه (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ). فإن هذه الأصنام عبادتها عبادةٌ للشيطان، و (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً)، وبهذه الأساليب الرقيقة، وبهذه الأساليب العلمية المقنعة يدعو إبراهيم أباه، يدعوه إلى الإسلام.
ولكن كيف كان الجواب؟! كيف كان جواب الأب لإبراهيم؟!.
لقد كان جواباً قاسياً: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبراهيم) أي: أتارك أنت عبادتها؟! (لَئِن لَّمْ تَنتَهِ) عن سب أصنامي وأوثاني التي أعبدها ويعبدها الناس من دون الله (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة أو بالسباب أو بالشتم (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) يقول لابنه: اهجرني زمناً طويلاً، ولا تتعرض إلي، وقال ابن جرير الطبري: "اهجرني سالماً قبل أن تصبك عقوبتي"، وهكذا كان جواب الأب لابنه الذي دعاه بالأسلوب الرفيع الطيب، فهل غضب إبراهيم من قول أبيه؟!
لقد جاء جواب إبراهيم لأبيه من غير غضب، فلم يفقد صوابه، ولم يفقد أدبه مع أبيه، وإنّما قال له: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً). وهذه طريقة المؤمنين: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً). (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
إبراهيم -عليه السلام- يقول مجيباً لأبيه: (سَلَامٌ عَلَيْكَ) أي: أمّا انأ فلا أنال منك مكروهاً ولا أذىً، و (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) أي: كان بي لطيفاً ورحيماً، وقيل: أي عودني إن يجيب دعوتي. وسال إبراهيم ربه أن يغفر لأبيه، واستمر بعد ذلك مدة طويلة حتى بعد فراق قومه، وفراقه الشام ومجيئه إلى مكة وبنائه للبيت الحرام، فان الله -تبارك وتعالى- أخبر عن إبراهيم أنه دعا بعد بناءه البيت، قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [إبراهيم: 35- 36]. ثم يقول الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك أنه دعا فقال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ). فإلى هذا الوقت وهو يدعو، يدعو الله ليغفر لأبيه، وأن يدله على الهداية، وأن يجعله من عباده المؤمنين، وهذا يدل على عِظَم شفقة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وحرصه على هداية أبيه.
ولقد كان هذا منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهج أصحابه من بعده، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرص على هداية أقرب المقربين إليه، فدعا أعمامه، ودعا أقاربه، دعاهم إلى الهداية، وحرص على هداية عمه أبي طالب حتى قبيل وفاته، لكن كما قال الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56].
والصحابة -رضي الله عنهم- كان الواحد منهم حينما يدخل الإسلام يذهب إلى أهل بيته، ويدعوهم إلى الإسلام؛ يدعو أباه ويدعو ابنه، ويدعو زوجه، يريد لهم الهداية، يدعوهم إلى النجاة يوم القيامة، وأبو هريرة الصحابي الجليل، المكثر من الحديث، رضي الله عنه وأرضاه، راوي الحديث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأكثر الصحابة حديثاً، اسلم سنة سبعين للهجرة، ولازم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولازم أصحابه ملازمة الظل لظله، حتى دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحفظ، فكان يحفظ ولا ينسى، أبو هريرة الذي دعا أمه للهداية.
وتصوروا أيها الإخوة، أبو هريرة الذي حفظ آلاف الأحاديث، وحدّث بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تصوروا: كيف تكون دعوته لامه؟!.
ولقد دعاها، لكنها أبت أن تدخل معه في الإسلام، وأبو هريرة يحاول معها ليلاً ونهاراً، ولكنها رفضت أن تدخل في الإسلام، ولما يئس هذا الصحابي الجليل وهو يعلم أن الهداية بإذن الله، وهو يعلم أن الهداية بيد الله، ولو كانت بيد أحد لهدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمه أبا طالب، يعلم ذلك، ولكنه لا ييأس، ولما بلغ به الأمر منتهاه، ودعا أمه في إحدى الأيام، ولكنها رفضت رفضاً قاطعاً أن تدخل في الإسلام، فأصابه حزن عميق، فأتى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو بكي، فقال: "يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم اهد أم أبي هريرة ".
فرجع أبو هريرة آمناً بهذا الدعاء، آمنا أن يستجيب الله لرسوله، ذهب ليحاول مع أمه يوماً أو يومين أو شهراً، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين، لعلها تبلغها هذه الدعوة المباركة، وذهب إلى أمه، ولما أراد أن يدخل إلى بيته وجد الباب مغلقاً، ففتح الباب فلما فتح الباب سمع خضخضة الماء، فقالت له أمه: دونك، انتظر قليلاً. فلما انتظر قليلاً، وإذا به يرى أمه قد اغتسلت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فاستجاب الله لدعائه، استجاب الله دعاءه، فرضي الله عن الصحابة أجمعين، وألحقنا بهم، آمين يا رب العالمين، وهدى الله أولادنا وآباءنا وإخواننا وزوجاتنا وأمهاتنا، وكل من لنا صلة به يا رب العالمين.
أيها الإخوة المؤمنون:
إن إبراهيم دعا أباه فلم يستجب، واستغفر لأبيه، ودعا ربه فلم يستجب له، ومات الأب على الشرك، يقول الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) [النحل: 113- 114]. أي: تبرأ منه لما رأى أنه على الشرك، ولما رأى أنه عدو لله تعالى.
وإبراهيم -عليه السلام- كان أمّة، وكان قدوة لهذه الأمة، واختصه -سبحانه وتعالى- من دون الأنبياء (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 121- 123].
ولما أمر الله -تبارك وتعالى- باتباع إبراهيم، ودلّ أنه قدوة، بيّن هذه المسالة، فقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ...) [الممتحنة: 4]. أي اقتدوا بإبراهيم فيما سبق، إلا قوله: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ). فلا تستغفروا للمشركين، لأنهم رضوا أن يكونوا مشركين، ولأنهم رضوا أن يكونوا بعيدين عن عبادة الله الواحد الأحد الحكيم.
وهكذا أيها الإخوة يكون أسلوب إبراهيم رقةً وعطفاً وحناناً، ودعاءاً من القلب، كي يهدي الله أباه، فلما أبى تبرأ إبراهيم منه.
وستكون لإبراهيم -عليه السلام- قصة في يوم القيامة أخبرنا عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء، وفي كتاب التفسير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصيني؟! فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟! فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟! فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار".
يريد إبراهيم أن ينظر تحت رجليه، فإذا هو بزيخ؛ يرى أباه قد مُسخ زيخاً، والزيخ هو ذَكَرُ الضّباع. فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في نار جهنم.
هكذا يحرص إبراهيم على هداية أبيه حتى يوم القيامة، حتى يوم القيامة أيها الإخوة.
أيها الإخوة:
علينا أن نتدبر ونتعظ من هذه القصة، كيف حرص إبراهيم -عليه السلام- على هداية أبيه؟! وقد يوجد منا من يكون أبوه ضالاً، أو منحرفاً، فما هو دور الابن هنا؟! ما دور الابن مع أبيه؟!
هل يتبرأ من أبيه من أول مرة أو يحرص كل الحرص مع الاحترام والتقدير والأدب الشديد مع أبيه، يحرص كل الحرص على هدايته ودلالته؟! ينوّع الأساليب، يبحث عن الوسائل المختلفة، يدعوه إلى الله بالأساليب المختلفة.
وإن كان لا يستطيع فليوصِ من يدعو أباه، ويدعو الله في جوف الليل أن يهدي أباه وهكذا، وإذا رأى من أبيه ما يغضب الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إن قصة إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه تعطينا درساً في علاقة الابن مع والده؛ محبة وإشفاقاً واحتراماً وحرصاً على هدايته، وحرصاً على أن يكون معه يوم القيامة في الجنة، حرصا على أن يكون هو وإياه على سرر متقابلة عند الله –تعالى-، وهذا هو المنهج الصحيح في الدعوة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون:
ونمر بعد ذلك إلى النموذج الثالث، حين تكون الأسرة مؤمنة، حين يكون الأب مؤمناً، والولد مؤمناً فبماذا يوصي بعضهم بعضاً؟! بماذا يوصي بعضهم بعضاً أيها الإخوة؟!
(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12].
ولقمان -رحمه الله- اختلفوا في نبوته، والصحيح أنّه كان عبداً صالحاً، وروي أنّه كان في أول حياته يرعى الغنم، وكان مولى أحد الناس، ولكنه لما تخلق بالأخلاق رفع الله منزلته إلى منزلة عالية، فصار يبلغ الحكمة للناس، وقد روى ابن جرير عن عمر بن قيس قال: "كان لقمان -عليه السلام- عبداً أسود غليظ الشفتين، فكان جالساً في مجلس مع أناس، فجاءه رجل وهو يحدثهم، فقال له: ألست أنت الذي ترعى الغنم في مكان كذا وكذا؟! قال لقمان: نعم. قال فما بلغ بك ما عرفت قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني".
وفي رواية أنه قال "قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيك وترك ما لا يعنيك". وفي رواية قال: "إن الذي أوصلني إلى ما ترى: غضي بصري، وكفّ لساني، وعفّتي طعمتي، وحفظي فرجي، وقولي بصدق، ووفائي بعهدي، وتكرمتي لضيفي، وحفظي لجاري، وتركي ما لا يعني. فذلك الذي صيرني إلى ما ترى".
فبماذا أوصى لقمان ابنه؟!.
لقد أوصى لقمان الصالح ابنه بعدة وصايا، ينبغي أن نقف عندها قليلاً، وأول وصية أوصى بها لقمان لابنه أن يحذر من الشرك بالله -تبارك وتعالى-، فقال: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]. لقد دعاه إلى التوحيد وحذره من الشرك، والشرك لا شك أنه ظلم عظيم، ولذلك لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82] قال الصحابة رضي الله عليهم: "وأينا لم يظلم نفسه يا رسول الله؟!". وخافوا، فانزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآية وهي قول لقمان (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
الوصية الثانية: أنه أمره ببر الوالدين، فقال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]. فأوصى لقمان ابنه بالإحسان للوالدين، وحتى لو كانا مشركيْن فالابن مأمور بالبر بهما وبصلتهما.
والله -تعالى- يقول: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان: 15]. وانتبهوا أن الله -تبارك وتعالى- ما قال: وإن جاهداك على أن تشرك بي فاشتمهما وسبهما وحاربهما، وإنما قال فقط: (فَلَا تُطِعْهُمَا). وقال: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً).
فالإنسان مأمور بالإحسان إلى والديه ولو كانا على شرك، لكن إذا أمراه بالشرك فـ: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
ويلاحظ أن الله -تبارك وتعالى- دائما يوصي الابن بالبر بوالديه، ولم يرد نص فيه وصية الأب على ولده أو الأم على ولدها، لأن عناية الأب والأم بولدها أمر فطري، فهما يحرصان كل الحرص عليه، ولكن الابن هو الذي قد يعق والديه، ولذا أوصى الله بالإحسان إلى الوالدين، وقارن ذلك بعبادته وحده لا شريك له: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء: 23].
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر الكبائر عدَّ منها عقوق الوالدين، فالابن مأمور أن يحسن إلى والديه، وان لا يعقهما، وان يصاحبهما إذا كانا مشركين، أن يصاحبهما في الدنيا معروفاً.
ثم تأتي الوصية الثالثة من وصايا لقمان لابنه، يقول لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16].
لقد أوصاه بمراقبة الله -تبارك وتعالى-، وأن الله مطلع عليك، وإن أي عمل تعمله جلّ أو بخس، كثر أو قل، فالله -تعالى- يحصيه ويعلمه، وقد كتب كل ذلك في كتاب (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا). فأوصاه أن يراقب الله في أفعاله، وفي أقواله، وفي تصرفاته، وقد روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما أورد الإمام احمد في مسنده أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله كائناً ما كان".
فيا أيها العبد، راقب ربك ولا تشرك به، واعلم أن الله مطلع على كل خطوة من خطواتك، وكل روحة من روحاتك، وكل فعل من أفعالك، وكل تصرّف من تصرفاتك.
واعلم أن الله -تبارك وتعالى- مطلع عليك فراقبه واعمل صالحاً، وابتعد عن السيئات لأنّ الله -تبارك وتعالى- يقول: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: 7- 8].
أما الوصية الرابعة فهي أن أوصاه بالصلاة وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17].
لقد أمره بالصلاة، والصلاة هي عمود الإسلام، وأمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمره على أن يصبر على ذلك؛ لأن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلا بد أن يناله أذى الناس، ومن ثَمَّ فهو مأمور بالصبر على أذاه.
أما الوصية التي بعدها، فهي وصية فيها آداب وأخلاق حميدة، يقول الله -تبارك وتعالى- (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) [لقمان: 18]. أي: لا تمشِ في الأرض بطراً لما لك من مال أو جاه، معجباً بنفسك، لأنّ هذه صفة مذمومة، أي: امش متواضعاً بالسكينة، لا مشية البطر والتكبر.
ثم أوصاه: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19] واخفض من صوتك، واغضض من صوتك في أدبك مع الناس، وأدبك مع ربك، وأدبك مع المؤمنين، ولا ترفعه، لأن أبشع الأصوات وأنكرها هي صوت الحمير لان لها أصوات.
وهكذا أيها الإخوة المؤمنون تكون وصايا لقمان لابنه -رحمهما الله تعالى-، وفيها بيان لأهم الأمور، فيها بيان لمسالة الشرك بالله وفيها بيان للبر بالوالدين وفيها بيان أمر الصلاة، وفيها بيان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك، فهذه الأخلاق الحميدة ينبغي أن يتخلق بها الإنسان.
أيها الإخوة في الله:
هذه نماذج في كتاب الله تعالى: نوح مع ولده: كيف حرص على هداية ولده، واستعمل الأساليب المختلفة للدلالة وللبيان وللإرشاد، لعل الله أن يهديه. وإبراهيم مع أبيه: كيف استخدم الأساليب المختلفة ليدل أباه على الهداية والإرشاد. ولقمان وابنه: كيف أوصاه ودلّه على الأخلاق الحميدة.
أيها الإخوة في الله:
إن الأسرة المسلمة يجب أن تتمثل هذه النماذج في تعاملها مع من حولها، فإذا كان الأب طالحاً فليحرص الأبناء على أن يدلوه على الهداية والخير، وإذا كان الابن طالحاً فليحرص الأب والإخوة على أن يدلوه على الخير وطريق الهدى. وإذا كانت الأسرة قد وفقها الله إلى الهداية وأصبحت أسرة مسلمة فعليها أن تتآخى وأن يعظ بعضها بعضاً، وان يدل بعضها بعضاً على الأخلاق، وعلى الصلاة، وأن يوصي بعضهم بعضاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يوصي بعضهم بعضاً بحسن الخلق.
فهذه نماذج في كتاب الله -تبارك وتعالى- للأسرة المسلمة، ونسال الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا ممن آمن به واقتدى برسله، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم إنا نسألك أن تهدي آباءنا وأمهاتنا وأولادنا وإخواننا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن تجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وأن تجعلنا ممن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والله أعلى وأعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.