البحث

عبارات مقترحة:

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

غلاء الأسعار

العربية

المؤلف إبراهيم بن صالح العجلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المعاملات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. مخاطر ظاهرة غلاء الأسعــار .
  2. أسباب الغلاء .
  3. ما نزل بلاء إلا بذنب .
  4. الحث على الرأفة بالفقراء .
  5. نصائح ووصايا للتجار والمستهلكين .
  6. من صور حياة تجار سلفنا الصالح .
  7. الحث على الترشيد والاقتصاد والتحذير من الإسراف والتبذير .
  8. القناعة سرُّ السعادة وأساسها. .

اقتباس

لقد اجتاح بلدنا وغيره من بلدان العالم الإسلامي موجات من غلاء الأسعار وارتفاع المعيشة، وطال هذا الغلاء كثيراً من مستلزمات الحياة من المسكن والمركب والملبس والمأكل بل الدواء والعلاج، حتى أنهك هذا الغلاء جيوبَ كثيرٍ من ذوي الدخل المحدود ولم يَعُــد البعض قادراً على مواجهة صعوبات المعيشة إلا بطرق باب الاستقراض. أما حال الفقراء الذين أشقتهم الفاقة فقـد زادهم هذا الغلاء بؤساً إلى بؤسهم. ولنـــا - عباد الله- مع هـــذا الغلاء والضنــك المعيشي حقائق ووقفات، وحلــول وتأملات...

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ لِلَّهِ...

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:

ظَاهِرَةٌ فَشَتْ وَعَمَّتْ، وَانْتَشَرَتْ وَطَمَّتْ، وَلَمَسَ أَثَرَهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَأَحَسَّ بِآثَارِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، حَتَّى أَضْحَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ حَدِيثَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمُنْتَدَيَاتِ، وَخَلْفَ شَاشَاتِ الْإِعْلَامِ، وَفِي زَوَايَا الصُّحُفِ وَلَا يَزَالُ سُعَارُهَا يَزْدَادُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ...

ظَاهِرَةٌ ابْتَلَعَ طُوفَانُهَا طَبَقَةَ الْفُقَرَاءِ وَوَقَعَ فِي فَكِّهَا كَثِيرٌ مِنْ ذَوِي الدَّخْلِ الْمُتَوَسِّطِ، ظَاهِرَةٌ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْ عُقَلَاءُ الْبَلَدِ بِعِلَاجِهَا وَإِلَّا فَهِيَ مُنْذِرَةٌ بِنَفَقٍ مُظْلِمٍ مَنِ الْأَمْرَاضِ وَالْمُشْكِلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْبِطَالَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالْأَنَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا إِنَّهَا: ظَاهِرَةُ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ.

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

لَقَدِ اجْتَاحَ بَلَدَنَا وَغَيْرَهُ مِنْ بُلْدَانِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ مَوْجَاتٌ مِنْ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ وَارْتِفَاعِ الْمَعِيشَةِ، وَطَالَ هَذَا الْغَلَاءُ كَثِيرًا مِنْ مُسْتَلْزَمَاتِ الْحَيَاةِ مِنَ الْمَسْكَنِ وَالْمَرْكَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَأْكَلِ بَلِ الدَّوَاءِ وَالْعِلَاجِ، حَتَّى أَنْهَكَ هَذَا الْغَلَاءُ جُيُوبَ كَثِيرٍ مِنْ ذَوِي الدَّخْلِ الْمَحْدُودِ وَلَمْ يَعُدِ الْبَعْضُ قَادِرًا عَلَى مُوَاجَهَةِ صُعُوبَاتِ الْمَعِيشَةِ إِلَّا بِطَرْقِ بَابِ الِاسْتِقْرَاضِ.

أَمَّا حَالُ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أَشْقَتْهُمُ الْفَاقَةُ فَقَدْ زَادَهُمْ هَذَا الْغَلَاءُ بُؤْسًا إِلَى بُؤْسِهِمْ.

وَلَنَا -عِبَادَ اللَّهِ- مَعَ هَذَا الْغَلَاءِ وَالضَّنْكِ الْمَعِيشِيِّ حَقَائِقُ وَوَقَفَاتٌ، وَحُلُولٌ وَتَأَمُّلَاتٌ:

أَوَّلًا: هَذَا الْغَلَاءُ لَا شَكَّ أَنَّ لَهُ أَسْبَابًا مَادِّيَّةً مَحْسُوسَةً... مِنْ تَقَلُّبَاتِ أَسْعَارِ الْعُمُلَاتِ أَوْ حُصُولِ الْكَوَارِثِ فِي الْبُلْدَانِ الْمُصَدِّرَةِ لِلسِّلَعِ مَعَ بَقَاءِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُجَرَّدَ شُعُوبٍ مُسْتَهْلِكَةٍ لَا مُنْتِجَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْمَادِّيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ.

إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَقَاصَرَ نَظْرَتُهُمْ عِنْدَ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمَادِّيِّ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالَّتِي كَثِيرًا مَا يُشِيرُ إِلَيْهَا كِتَابُ رَبِّنَا وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

عِبَادَ اللَّهِ:

لَقَدْ تَكَاثَرَتْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ وَأَحَادِيثُ سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانَ، أَنَّ مَا يُصِيبُ الْعِبَادَ مِنَ الضَّنْكِ وَالْبَلَاءِ وَالْمَصَائِبِ وَالضَّرَّاءِ، إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَفَتْهُ أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْعِصْيَانِ.

هَذِهِ حَقِيقَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَقِرَّ فِي نُفُوسِنَا، وَنَجْعَلَهَا مُقَدِّمَةً عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ:

قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشُّورَى: 30].

وَصَدَقَ اللَّهُ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آلِ عِمْرَانَ: 165].

أَقْبَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمًا فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ؛ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" "رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ".

كَانَ شِعَارُ السَّلَفِ وَصَالِحِي الْأُمَّةِ عِنْدَ نُزُولِ النَّكَبَاتِ وَحُصُولِ الْحَوَادِثِ أَنَّهُ مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَزَاءُ الْمَعْصِيَةِ: "الْوَهَنُ فِي الْعِبَادَةِ وَالضِّيقِ فِي الْمَعِيشَةِ".

وَمِنْ سُنَنِ اللَّهِ -تَعَالَى- مُجَازَاةُ الْعِبَادِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِمْ، فَإِذَا أَسَاءَتِ الْأُمَّةُ نِعْمَةَ الْمَالِ وَعَصَتِ اللَّهَ بِهِ جَعَلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِ، وَمِنَ الْعُقُوبَةِ غَلَاءُ الْأَسْعَارِ.

فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ إِنْ رَامَتْ رَفْعَ الْغَلَاءِ عَنْ مُجْتَمَعَاتِهَا أَنْ تَتُوبَ إِلَى رَبِّهَا، وَتَسْتَغْفِرَ مِنْ خَطَايَاهَا فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ، وَعَلَى رَأْسِهَا الرِّبَا وَالرَّشْوَةُ -الَّتِي لَعَنَ اللَّهُ أَهْلَهَا- وَالْقِمَارُ، -وَمِنْ صُوَرِهِ التَّأْمِينُ-، وَالْغِشُّ وَالْكَذِبُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ السُّحْتِ فِي التَّكَسُّبِ.

الْوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ:

أَنَّ هَذَا الْغَلَاءَ هُوَ لَوْنٌ وَجُزْءٌ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُبْتَلَى بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا..." "أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ".

وَلَا شَكَّ -عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ هَذَا الْغَلَاءَ وَكُلَّ بَلَاءٍ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ امْتِحَانًا لِإِيمَانِ الْعِبَادِ وَاخْتِبَارَ صِدْقِ عُبُودِيَّتِهِمْ لِلَّهِ فِي الضَّرَّاءِ وَهَذِهِ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ مَعَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الْأَنْعَامِ: 42]، وَقَالَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الْأَعْرَافِ: 168].

فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزَمَاتِ يَتَبَيَّنُ إِيمَانُ الصَّادِقِينَ، وَيَتَسَاقَطُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْعَبْدُ شُكْرَهُ لِرَبِّهِ بِصَدَقَاتِهِ وَرَفْعِ الْفَاقَةِ عَنِ الْمُحْتَاجِينَ وَسَلَّ مِنْ نَفْسِهِ سَخَائِمَ شُحِّهَا، فَقَدْ نَجَحَ وَأَفْلَحَ، أَمَّا إِذَا جَزِعَ وَتَسَخَّطَ، وَسَخِطَ وَتَحَسَّسَ الْكَسْبَ الْحَرَامَ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ وَصَدَقَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آلِ عِمْرَانَ: 179].

الْوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ:

عِبَادَ اللَّهِ: وَأَكْثَرُ النَّاسِ تَضَرُّرًا وَتَحَسُّرًا مِنْ هَذَا الْغَلَاءِ هُمْ طَبَقَةُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، كَثُرَتْ هُمُومُهُمْ وَاشْتَدَّتْ غُمُومُهُمْ، وَازْدَادَتْ تَأَوُّهَاتُهُمْ وَأَشْجَانُهُمْ مَعَ كُلِّ غَلَاءٍ يَطُولُ سِلْعَةً أَسَاسِيَّةً هُنَا أَوْ هُنَاكَ وَلِسَانُ حَالِهِمْ:

فَقِيرٌ فِي الْمَجَاعَةِ لَا يَنَامُ

وَمِسْكِينٌ بِبُؤْسٍ مُسْتَهَامُ

وَمَبْخُوسُ الْمَعِيشَةِ فَهْوَ صَبٌّ

عَلَى عِلَّاتِهِ أَبَدًا يُلَامُ

وَيَفْتَرِشُ الثَّرَى وَالنَّاسُ نَامُوا

عَلَى رِيشِ الْأَسِرَّةِ قَدْ أَقَامُوا

وَمِنْ عَلَامَاتِ صَلَاحِ الْأُمَّةِ وَبَقَاءِ الْخَيْرِيَّةِ فِيهَا الرَّأْفَةُ بِأَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، وَامْتِثَالُ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمْ حِينَ قَالَ: "ابْغُونِي الضُّعَفَاءَ؛ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ"، أَيْ: بِبَرَكَةِ دُعَائِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ".

الْوَقْفَةُ الرَّابِعَةُ:

يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ... يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ!

بِهَذَا النِّدَاءِ رَفَعَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَوْتَهُ، فَاشْرَأَبَّتْ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ، وَأَحْدَقَتْ نَحْوَهُ الْأَبْصَارُ فَقَالَ: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى وَبَرَّ وَصَدَقَ" "رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ".

تَذَكَّرْ -يَا مَنْ حَبَاكَ اللَّهُ الْمَالَ- أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَنْتَظِرُكَ إِذَا عَامَلْتَ عِبَادَ اللَّهِ بِمَبْدَأِ الْمُسَامَحَةِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى" "رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ".

مَا عَرَفَ السَّمَاحَةَ وَاللَّهِ... مَنِ اسْتَغَلَّ طَنِينَ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ، فَرَفَعَ سِلْعَتَهُ مُجَارَاةً لِغَيْرِهِ بِلَا مُبَرِّرٍ، فَكَانَ بِجَشَعِهِ وَطَمَعِهِ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ الْهُمُومِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُحْتَاجِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: "مَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ".

تَذَكَّرْ أَخِي التَّاجِرَ الْمُسْلِمَ:

أَنَّ إِرْخَاصَ السِّلَعِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَوَضْعَ الْإِجْحَافِ بِهِمْ وَتَرْكَ اسْتِغْلَالِهِمْ... أَمَارَةٌ عَلَى رَحْمَةِ قَلْبِ صَاحِبِهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَوْعُودُونَ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- بِالْبَرَكَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَالسِّعَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَالتَّوْفِيقِ فِي حَيَاتِهِمْ.

لِتَكُنْ هَذِهِ الْمُغَالَاةُ -أَخِي التَّاجِرَ- مَحَطَّةً تُرِي رَبَّكَ فِيهَا مِنْ نَفْسِكَ خَيْرًا، وَتَشْتَرِي سِلْعَةَ اللَّهِ بِرَفْعِ الْمُعَانَاةِ عَنِ الْبَائِسِينَ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ يَعْظُمُ فَضْلُهَا وَيَكْثُرُ أَجْرُهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.

أَصَابَ النَّاسَ الْقَحْطُ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَدِمَتْ لِعُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَلْفُ رَاحِلَةٍ مِنَ الْبُرِّ وَالطَّعَامِ، فَغَدَا التُّجَّارُ عَلَيْهِ كُلُّهُمْ يُرِيدُ شِرَاءَهَا مِنْهُ، لَا لِلتَّكَسُّبِ وَلَا لِلِاحْتِكَارِ لِرَفْعِ الْأَسْعَارِ، وَإِنَّمَا لِيُوَسِّعُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ فَجَعَلَ التُّجَّارُ يُسَاوِمُونَ عُثْمَانَ عَلَى شِرَاءِ هَذِهِ السِّلْعَةِ حَتَّى أَرْبَحُوهُ بِالْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ، فَأَبَى وَأَنْفَقَهَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَرَبِحَ الْبَيْعُ يَا ذَا النُّورَيْنِ.

وَصُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ تُجَّارِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ؛ كَانَ مِنْ مَعَادِنِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، كَانَ لَهُ سِلَعٌ تُبَاعُ بِخَمْسَةٍ، وَسِلَعٌ تُبَاعُ بِعَشَرَةٍ، فَبَاعَ غُلَامُهُ فِي غَيْبَتِهِ شَيْئًا مِنْ سِلَعِ الْخَمْسَةِ بِعَشَرَةٍ، فَلَمَّا عَرَفَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ مَا فَعَلَ غُلَامُهُ اغْتَمَّ لِصَنِيعِهِ، وَطَفِقَ يَبْحَثُ عَنِ الْمُشْتَرِي طَوَالَ النَّهَارِ... حَتَّى وَجَدَهُ وَكَانَ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: "إِنَّ الْغُلَامَ قَدْ غَلِطَ فَبَاعَكَ مَا يُسَاوِي خَمْسَةً بِعَشَرَةٍ"، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: "يَا هَذَا قَدْ رَضِيتُ". فَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: "وَإِنْ رَضِيتَ فَإِنَّا لَا نَرْضَى لَكَ إِلَّا مَا نَرْضَاهُ لِأَنْفُسِنَا فَاخْتَرْ إِحْدَى ثَلَاثٍ:

- إِمَّا أَنْ تَسْتَعِيدَ مَالَكَ وَتُعِيدَ السِّلْعَةَ.

- وَإِمَّا أَنْ تُرَدَّ إِلَيْكَ خَمْسَةٌ.

- وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ سِلْعَةِ الْخَمْسِ سِلْعَةَ الْعَشْرِ".

فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَعْطِنِي خَمْسَةً، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْخَمْسَةَ وَانْصَرَفَ؛ فَسَأَلَ الْأَعْرَابِيُّ أَهْلَ السُّوقِ عَنْ هَذَا التَّاجِرِ الْأَمِينِ؟ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هَذَا الَّذِي نَسْتَسْقِي بِهِ فِي الْبَوَادِي إِذَا قَحِطْنَا.

الْوَقْفَةُ الْخَامِسَةُ:

وَمِنَ الْوَاجِبِ الْمَنُوطِ عَلَى مَنْ وَلَّاهُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَى لِحَلِّ هَذِهِ الْأَزْمَةِ وَيَتَدَارَكَ أَمْرَ مُعَانَاةِ النَّاسِ مَعَهَا، مَعَ مَنْعِ احْتِكَارِ السِّلَعِ فِي السُّوقِ أَوْ تَسْعِيرِ السِّلَعِ عِنْدَ الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ بِثَمَنٍ ثَابِتٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ، وَهَذَا التَّدَخُّلُ جَائِزٌ مِنَ النَّاحِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِذَا لَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِالتَّسْعِيرِ سُعِّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَإِذَا انْدَفَعَتْ حَاجَاتُهُمْ وَقَامَتْ مَصْلَحَتُهُمْ بِدُونِهِ لَمْ يُفْعَلْ". ا. ه.

وَوَاجِبٌ -عِبَادَ اللَّهِ- عَلَى أَهْلِ الْوِلَايَةِ فِي هَذَا الْبَلَدِ مُمَثَّلَةً فِي وِزَارَةِ التِّجَارَةِ وَقْفُ هَذَا الْجَشَعِ التِّجَارِيِّ وَالْإِرْهَابِ الِاقْتِصَادِيِّ، وَتَقْدِيمُ الْحُلُولِ النَّافِعَةِ، وَالِاقْتِرَاحَاتِ الْمَعْقُولَةِ لِمُوَاجَهَةِ هَذَا الْمَدِّ الْغَلَائِيِّ، وَرَفْعُ الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ عَنِ النَّاسِ.

أَمَّا سِيَاسَةُ الْبَدَائِلِ وَالْبَحْثُ عَنْهَا فَلَيْسَتْ حَلًّا جِذْرِيًّا لِلْأَزْمَةِ، فَهَذَا يَعْنِي أَنْ يَبْحَثَ النَّاسُ مَعَ كُلِّ لَائِحَةِ غَلَاءٍ عَنْ أَدْنَى مُسْتَوَيَاتِ الْمَعِيشَةِ... فَيَبْحَثُ الْفَرْدُ عَنْ أَقَلِّ أَنْوَاعِ الْمَوَادِّ الْغِذَائِيَّةِ وَأَقَلِّ الْإِيجَارَاتِ وَمُرَاجَعَةِ أَدْنَى الْمُؤَسَّسَاتِ الصِّحِّيَّةِ، وَالْبَحْثِ عَنْ أَرْخَصِ أَسْعَارِ الدَّوَاءِ.

ثُمَّ أَيْضًا... مَا هُوَ الْمَوْقِفُ لَوِ ارْتَفَعَتْ هَذِهِ الْبَدَائِلُ؟ هَلْ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ يُطَالَبَ النَّاسُ بِالنُّزُولِ إِلَى مُسْتَوًى أَقَلَّ، وَالْعَجَبُ أَنْ تُطْرَحَ مِثْلُ هَذِهِ الْحُلُولِ، وَالْبَلَدُ -بِحَمْدِ اللَّهِ- يَعِيشُ فِي أَزْهَى فَتَرَاتِهِ الِاقْتِصَادِيَّةِ.

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

إِنَّ أَزْمَةَ الْغَلَاءِ قَدْ لَاحَتْ آثَارُهَا فِي الْأُفُقِ مُنْذُ أَمَدٍ، وَلَا نَدْرِي عَمَّا يُخْفِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ مِنَ ارْتِفَاعٍ فَاحِشٍ مُرْتَقَبٍ يَقْضِي عَلَى الْبَقِيَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمَسْتُورِينَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَتَنَادَى الْغَيُورُونَ لِحَلِّهَا، كُلٌّ بِمَا بَسَطَ اللَّهُ لَهُ؛ الْوَالِي بِسُلْطَانِهِ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَالتَّاجِرُ بِمَالِهِ، وَالْكَاتِبُ بِقَلَمِهِ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ غَيُورٍ نَاصِحٍ بِلِسَانِهِ.

عِبَادَ اللَّهِ: قَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ إِنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ سِوَى ذَلِكَ فَمِنْ نَفْسِي وَالشَّيْطَانِ.

وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى.

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ:

وَتَوْجِيهَاتٌ نَسْتَذْكِرُهَا فِي مَعْمَعَةِ هَذَا الْغَلَاءِ.

أَوَّلًا: الْحِرْصُ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْمَعِيشَةِ وَتَرْشِيدُ الِاسْتِهْلَاكِ:

لَقَدْ تَحَوَّلَتْ حَيَاةُ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى مَا يُشْبِهُ سَكْرَةَ الْإِسْرَافِ، فَلَا يَسْمَعُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كَمَالِيَّاتِ الْحَيَاةِ إِلَّا سَعَى لِتَحْصِيلِهِ وَلَوْ عَبْرَ الِاقْتِرَاضِ.

إِنَّ الْإِسْرَافَ -عِبَادَ اللَّهِ- مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي بَابِ الْإِنْفَاقِ، وَشِرَاءُ السِّلَعِ بِأَغْلَى مِنْ ثَمَنِهَا الْمُعْتَادِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِسْرَافِ.

يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الْأَعْرَافِ: 31].

وَيَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلْ وَاشْرَبْ وَالْبَسْ وَتَصَدَّقْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ" "رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ".

وَكَمْ حَدَّثَنَا التَّارِيخُ وَتُجَّارُ النَّاسِ عَنْ بُيُوتٍ عَامِرَةٍ أَسَّسَهَا آبَاءٌ مُقْتَدِرُونَ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى أَبْنَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِمْ طَابَعُ الْإِسْرَافِ، فَأَفْسَدُوا وَأَتْلَفُوا مَا تَرَكَهُ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ حَتَّى أُلْحِقَ أُولَئِكَ الْمُسْرِفُونَ بِطَبَقَاتِ الْمُعْدَمِينَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ.

ثَانِيًا: وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ تَرْشِيدِ الِاسْتِهْلَاكِ وَالِاقْتِصَادِ مُرَاعَاةُ الْأَوْلَوِيَّاتِ فِي الشِّرَاءِ فَيَشْتَرِي الْإِنْسَانُ مِنْ حَاجَاتِهِ الْأَهَمَّ فَالْمُهِمَّ.

إِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُشْتَرَيَاتِ النَّاسِ وَالَّتِي تَسْتَنْزِفُ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ هِيَ مِنَ الْأُمُورِ الزَّائِدَةِ وَفُضُولِ الْمَعِيشَةِ؛ طَعَامٌ زَائِدٌ، لِبَاسٌ زَائِدٌ، وَسِلَعٌ نِهَايَتُهَا سَلَّةُ النُّفَايَاتِ.

وَمِنْ أَسْبَابِ هَذَا الْهَوَسِ الشِّرَائِيِّ: مَا تَبُثُّهُ الشَّرِكَاتُ التِّجَارِيَّةُ مِنَ الْعُرُوضِ وَالدَّعَايَاتِ مِنْ صُوَرٍ لِمَا يَحْتَاجُهُ وَمَا لَا يَحْتَاجُهُ الْمُسْتَهْلِكُ.

لَقَدْ أَثْبَتَتِ الدِّرَاسَاتُ أَثَرَ هَذِهِ الْحَمَلَاتِ الدِّعَائِيَّةِ عَلَى زِيَادَةِ الشِّرَاءِ الْعَشْوَائِيِّ لَدَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ ذَكَرَتْ إِحْدَى الْإِحْصَاءَاتِ أَنَّ ثُلْثَ مَا يَتِمُّ وَضْعُهُ فِي عَرَبَةِ الْمُشْتَرَيَاتِ هُوَ مِنَ الْكَمَالِيَّاتِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا.

ثَالِثًا:

الْقَنَاعَةُ -عِبَادَ اللَّهِ- سِرُّ السَّعَادَةِ وَأَسَاسُهَا، وَإِذَا رُزِقَ الْقَلْبُ الْقَنَاعَةَ أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَاسْتَرَاحَ مِنْ مَدِّ الْعَيْنِ إِلَى مَا لَا يَنْفَعُ.

لَقَدْ فَسَّرَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَغَيْرُهُمُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النَّحْلِ: 97]، بِأَنَّهَا الْقَنَاعَةُ.

وَإِذَا نُزِعَتِ الْقَنَاعَةُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ فَلَا يُرْضِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ طَعَامٌ يُشْبِعُهُ، وَلَا لِبَاسٌ يُوَارِيهِ وَلَا مَرْكَبٌ يَحْمِلُهُ.

وَبَعْضُ النَّاسِ يَحْسَبُ السَّعَادَةَ أَنْ يَمْلِكَ مَا يَمْلِكُهُ أَهْلُ الثَّرَاءِ، فَتَرَاهُ يَسْعَى لِامْتِلَاكِ مَا مَلَكُوهُ، وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَعْلَى سَعَادَةً وَهَنَاءً بِالْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مَا لَا يَمْلِكُ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَصَوُّرٌ خَاطِئٌ وَخَلَلٌ فِي الْفَهْمِ، وَعِلَاجُ هَذَا الْفَهْمِ مَا أَرْشَدَ بِهِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ".

وَفِي هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: "مَنْ قَنِعَ طَابَ عَيْشُهُ، وَمَنْ طَمِعَ طَالَ طَيْشُهُ".

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

وَحِينَمَا يَرَى صَاحِبُ الْقَلْبِ الْحَيِّ غَلَاءَ الْأَسْعَارِ فِي مُجْتَمَعِهِ يَسْتَشْعِرُ حَالَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ابْتُلُوا بِفِقْدَانِ هَذِهِ النِّعَمِ مِنْ حَيَاتِهِمْ بِسَبَبِ الْفَيَضَانَاتِ الْمُدَمِّرَةِ أَوِ الْحُرُوبِ الطَّاحِنَةِ أَوِ الْحِصَارَاتِ الظَّالِمَةِ مِنْ دَهَاقِنَةِ الْكُفْرِ وَعُمَلَائِهِمْ.

فَيَتَأَلَّمُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِآلَامِهِمْ، وَيَغْتَمُّ لِمُعَانَاتِهِمْ، وَبُؤْسِ عَيْشِهِمْ فَلَا تَبْخَلْ -أَخِي الْكَرِيمَ- عَنْ مَدِّ جُسُورِ الْمُسَاعَدَةِ لِإِخْوَانِكَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَوْ تَعَسَّرَ... فَبِدَعْوَةٍ صَادِقَةٍ لَهُمْ أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ غُمَّتَهُمْ وَيَكْشِفَ كُرْبَتَهُمْ، وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ سَحَائِبَ نِعْمَتِهِ وَبَرْدَ رَحْمَتِهِ.

نَسْأَلُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنَّا الْغَلَاءَ وَالْوَبَاءَ، وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالْمِحَنَ وَسُوءَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

عِبَادَ اللَّهِ: صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ....