قَرْطاجَنّةُ
بالفتح ثم السكون، وطاء مهملة، وجيم، ونون مشددة، وقيل: إن اسم هذه المدينة قرطا وأضيف إليها جنّة لطيبها ونزهتها وحسنها: بلد قديم من نواحي إفريقية، قال بطليموس في كتاب الملحمة: طولها أربع وثلاثون درجة، وعرضها خمس وثلاثون درجة تحت إحدى عشرة درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، لها ثلاث درجات من الدلو، بيت حياتها خمس عشرة درجة من السنبلة، كانت مدينة عظيمة شامخة البناء أسوارها من الرّخام الأبيض وبها من العمد الرخام المتنوع الألوان ما لا يحصى ولا يحد، وقد بنى المسلمون من رخامها لما خربت عدة مدن، ولم يزل الخراب فيها منذ زمان عثمان بن عفان،
رضي الله عنه، وإلى هذه الغاية على حالها عمودان أحمران من الحجر الماتع في مجلس الملك أحدهما قائم والآخر قد وقع، دور كل عمود منهما ستة وثلاثون شبرا وطوله فوق الأربعين ذراعا، وهي على ساحل البحر، بينها وبين تونس اثنا عشر ميلا، وتونس عمرت من خراب قرطاجنّة وحجارتها وقد بقي من حجارتها ما يعمر به مدينة أخرى، ولم يكن بقربها عين جارية ولا قناة سارية فجلب عامرها إليها الماء من نواحي القيروان، وبينهما مسيرة ثلاثة أيام، في جبال منحازة بعضها من بعض وقد وصل بين تلك الجبال بعقود معقودة وعمد مبنية كالمنائر العالية وجعل مجرى الماء فوق ذلك المعقود والأزج المحكم المنحوت، وأهل تلك البلاد يسمونها الحنايا، وهي مئون كثيرة، ومن نظر إلى هذه المدينة عرف عظم شأن بانيها وسبّح وقدّس مبيد أهلها ومفنيها، وذكر أهل السير أن عبد الملك بن مروان ولّى حسان بن النعمان الأزدي إفريقية فلما قدمها نزل القيروان وقال: أي مدينة بإفريقية أشد؟ قيل له: ليس مثل قرطاجنّة فإنها دار الملك، فنازلها وقاتل أهلها قتالا شديدا ثم طلبوا الأمان فأعطاهم إياه ثم غدروا فرجع إليهم حتى ملكها وهدمها، فهو أول من أمر بهدمها وذلك في نحو سنة 70. و مدينة أخرى بالأندلس تعرف بقرطاجنة الحلفاء قريبة من ألش من أعمال تدمير، خربت أيضا لأن ماء البحر استولى على أكثرها فبقي منها طائفة وبها إلى الآن قوم، وكانت عملت على مثال قرطاجنة التي بإفريقية.قُرْطُبَةُ: بضم أوله، وسكون ثانيه، وضم الطاء المهملة أيضا، والباء الموحدة، كلمة فيما أحسب عجمية رومية ولها في العربية مجال يجوز أن يكون من القرطبة وهو العدو الشديد، قال بعضهم: إذا رآني قد أتيت قرطبا، وجال في جحاشه وطرطبا وقال الأصمعي: طعنه فقرطبه إذا صرعه، وقال ابن الصامت الجشمي: رقوني وقالوا: لا ترع يا ابن صامت، فظلت أناديهم بثدي مجدّد وما كنت مغترّا بأصحاب عامر مع القرطبا بلّت بقائمه يدي وقال: القرطبا السيف كأنه من قرطبه أي قطعه: وهي مدينة عظيمة بالأندلس وسط بلادها وكانت سريرا لملكها وقصبتها وبها كانت ملوك بني أمية ومعدن الفضلاء ومنبع النبلاء من ذلك الصقع، وبينها وبين البحر خمسة أيام، قال ابن حوقل التاجر الموصلي وكان طرق تلك البلاد في حدود سنة 350 فقال: وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة وليس لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال: إنها كأحد جانبي بغداد وإن لم تكن كذلك فهي قريبة منها، وهي حصينة بسور من حجارة ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة والرصافة مساكن أعالي البلد متصلة بأسافله من ربضها، وأبنيتها مشتبكة محيطة من شرقيّها وشماليها، وغربها وجنوبها فهو إلى واديها وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع، ومساكن العامة بربضها، وأهلها متموّلون متخصصون وأكثر ركوبهم البغلات من خورهم وجبنهم أجنادهم وعامتهم، ويبلغ ثمن البغلة عندهم خمسمائة دينار، وأما المائة والمائتان فكثير لحسن شكلها وألوانها وقدودها وعلوها وصحة قوائمها، قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: كانت صفتها هكذا إلى حدود سنة 440 فإنه انقضت مدة الأمويين وابن أبي عامر وظهر المتغلبون بالأندلس وقويت شوكة بني عبّاد وغيرهم واستولى كلّ أمير على ناحية وخلت قرطبة من سلطان يرجع إلى أمره وصار كل من قويت يده عمرت مدينته، وخربت قرطبة بالجور عليها فعمّرت إشبيلية ببني عباد عمارة صارت بها سرير ملك الأندلس، فهي إلى الآن على ذلك من العمارة، وخربت قرطبة وصارت كإحدى المدن المتوسطة، وقد رثوها فأكثروا فيها، وممن تشوّق إليها القاضي محمد بن أبي عيسى بن يحيى الليثي قاضي الجماعة بقرطبة فقال فيها: ويل امّ ذكراي من ورق مغرّدة على قضيب بذات الجزع ميّاس رددن شجوا شجا قلبي الخلّي فقل في شجو ذي غربة ناء عن الناس ذكّرنه الزمن الماضي بقرطبة بين الأحبّة في لهو وإيناس هجن الصبابة لولا همّة شرفت فصيّرت قلبه كالجندل القاسي وينسب إليها جماعة وافرة من أهل العلم، منهم: أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي، قرأ عليه كثير من شيوخنا، وكان أديبا فاضلا مقرئا عارفا بالنحو واللغة، سمع كثيرا من كتب الأدب وورد الموصل فأقام بها يفيد أهلها ويقرؤون عليه فنون العلم إلى أن مات بها في سنة 567، وممن ينسب إليها أحمد بن محمد بن عبد البر أبو عبد الملك منموالي بني أمية، سمع محمد بن أحمد بن الزرّاد وابن لبابة وأسلم بن عبد العزيز وغيرهم، وله كتاب مؤلف في الفقهاء بقرطبة، ومات في السجن لليلتين بقيتا من رمضان سنة 338، قال ابن الفرضي: وأحمد بن محمد بن موسى بن بشير بن حناذ بن لقيط الرازي الكناني من أنفسهم من أهل قرطبة يكنّى أبا بكر، وفد أبوه على الإمام محمد وكان أبوه من أهل اللسانة والخطابة، وولد أحمد بالأندلس، وسمع من أحمد ابن خالد وقاسم بن أصبغ وغيرهما، وكان كثير الرواية حافظا للأخبار وله مؤلفات كثيرة في أخبار الأندلس وتواريخ دول الملوك منها، توفي لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة 344، ومولده في عاشر ذي الحجة سنة 274، قاله ابن الفرضي، وحبّاب ابن عبادة الفرضي أبو غالب القرطبي له تآليف في الفرائض، وحسن بن الوليد بن نصر أبو بكر يعرف بابن الوليد، وكان فقيها عالما بالمسائل نحويّا، خرج إلى الشرق في سنة 362، وخالد بن سعد القرطبي أحد أئمة الأندلس، كان المستنصر يقول: إذا فاخرنا أهل المشرق بيحيى بن مروان أتيناهم بخالد بن سعد، وصنف كتابا في رجال الأندلس، ومات فجأة سنة 352، عن ابن الفرضي، وقد نيف على الستين، وخلف بن القاسم بن سهل بن محمد بن يونس بن الأسود أبو القاسم المعروف بابن الدّبّاغ الأزدي القرطبي، ذكره الحافظ في تاريخ دمشق، وقد سمع بدمشق أبا الميمون بن راشد وأبا القاسم بن أبي العقب، وبمكة أبا بكر أحمد بن محمد بن سهل بن رزق الله المعروف ببكير الحداد وأبا بكر بن أبي الموت، وبمصر عبد الله بن محمد المفسر الدمشقي والحسن بن رشيق، روى عنه أبو عمر يوسف بن محمد بن عبد البر الحافظ وأبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الفرضي وأبو عمرو الداني، كان حافظا للحديث عالما بطرقه، ألّف كتبا حسانا في الزهد، ومولده سنة 325 ومات سنة 393 في ربيع الآخر.
[معجم البلدان]
قرطاجنة:
هذا الاسم في ثلاثة مواضع، أحدها بالأندلس (1) عند جبل طارق، وهى مدينة للأول غير مسكونة وبها آثار كثيرة وتُعْرف بقرطاجنة الجزيرة وبمرساها نهر يريق في البحر يعرف بوادي الرمل. والثانية قرطاجنة الخلفاء (2) بالأندلس أيضاً من كورة تدمير وهي فرضة مدينة مرسية، وهي مدينة قديمة أولية بها ميناء ترسي فيه المراكب الكبار والصغار، وهي كثيرة الخصب والرخاء المتتابع، ولها إقليم يسمى الفندون (3) وقليلاً ما يوجد مثله في طيب الأرض وعذوبة الماء، ويحكى أن السنبل يُحْصَد فيه عن مطرة واحدة، وإليه المنتهى في الجودة. ومن مدينة قرطاجنة إلى مرسية في البر أربعون ميلاً. وبقرطاجنة هذه هزم عبد العزيز بن موسى بن نصير تدمير ابن غندرس (4) الذي سميت به تدمير هزمه وأصحابه ووضع المسلمون فيهم السيف يقتلونهم كيف شاءوا حتى نجا تدمير في شرذمة من فلال أصحابه إلى حصن أوريوله وكان مجرباً بصيراً داهية، فلما رأى قلة أصحابه أمر النساء فنشرت شعورهن وأمسكن القصب بأيديهن ووقفن على سور المدينة في من بقي من الرجال، وقصد بنفسه كهيئة الرسول واستأمن فأمّن، وانعقد له الصلح ولأهل بلده، وافتتحت تدمير صلحاً، فلما نفذ أمره عرَّفهم بنفسه وأدخلهم المدينة، فلم يروا بها إلا نفراً يسيراً من الرجال فندم المسلمون على ما كان منهم، وكان ما انعقد من صلح لتدمير مع عبد العزيز على إتاوة يؤديها وجزية عن يد يعطيها، وذلك على سبع مدائن منها: أوريوله ولقنت وألش وغيرها، وتاريخ فتحها رجب من سنة أربع وتسعين. ومن الغرائب (5) ما حكي أن ديراً بقرطاجنة الخلفاء كان على مقربة منه قبر لامرأة شهيدة ولها قدر عندهم وعلى القبر قبة في أعلاها كوة لا يعلو تلك القبة طائر، فإن علاها اجتذبته قوة من تلك الكوة فيسقط في القبة، وقد أخبر رجل بهذه القصة وهو يتصيد بقرطاجنة فأنكر ذلك واعتمد وضع جوارح صيده على القبة فتساقطت داخلها، وكان بتلك القبة مشهد عظيم في يوم من العام يجتمع إليها الداني والقاصي من نصارى تلك النواحي وذلك في الرابع والعشرين من اغشت، فلما كانت سنة أربع عشرة وأربعمائة قصد جماعة من نصارى بلاد افرنجة في مركب حربي إلى تلك القبة فاستخرجوا منها الشهيدة واحتملوها، فلما وصلوا بها إلى جزيرة صقلية بذل لهم نصاراها مالاً عريضاً ليتركوا المرأة عندهم فيقبروها في كنائسهم، فأبوا عليهم ووصلوا بها إلى بلادهم. والثالثة: قرطاجنة إفريقية وهي أجلّها وأشهرها، حتى قال المسعودي لما ذكر البيوت المعظمة عند أوائل الروم، قال (6) : كان بيت معظم قبل ظهور دين النصرانية ببلاد المغرب بقرطاجنة، وهي تونس وراء بلاد القيروان وهي من أرض الإفرنجة، وبني على اسم الزهرة بأنواع الرخام. وبين قرطاجنة (7) وتونس عشرة أميال أو نحوها ومرساهما واحد وقرطاجنة من المدن المشهورة وفيها من الآثار وعجائب البنيان ما ليس في بلد شرقاً ولا غرباً ولو دخلها إنسان ومشى فيها عمره يتأمل آثارها لرأى كل يوم فيها أعجوبة لم يرها قبل ذلك. وهي الآن خراب لأن المسلمين لما غزوها في صدر الإسلام هرب أهلها (8) من باب يقال له باب النساء، فمنهم من فرَّ إلى الأندلس، ومنهم من فرَّ إلى جزيرة صقلية، ويقال إن حسّان بن النعمان لما غزاها في سلطان عبد الملك أو غيره خربها وكسر قناتها. وإنما الباقي (9) منها الآن قلعة تسمى المعلقة، كان يسكنها قوم من العرب يعرفون ببني زياد، لما طلع عبد المؤمن بن علي إلى إفريقية قبض على أميرهم محمد بن زياد وضرب عنقه، وكانت في وقت عمارتها من غرائب البلاد وفيها من عجائب البناء وظهور القدرة في ذلك ما لم يبلغه أحد. ويقال (10) إن ملكها كان ملكاً جبّاراً عظيم الشأن، وكان ملك أكثر الأرض وكان يسمى أنبيل (11) فدخل بلاد الروم وقتل ملوكها وأخذ بلادهم، وبعث إلى قرطاجنة من خواتيم الملوك الذين قتلهم ثلاثة أمداد، ويقال إنه نازل مدينة رومة الكبرى التي هي دار مملكة الروم، فلما حاصرها وضيق على ملكها (12) وأفسد أنظارها أرسل ملك رومة قائداً من قواده، فحشد من كان ببلاده من الروم والجيوش، وأمره بالوصول إلى بلاد إفريقية والنزول على قرطاجنة وخرابها، وكان اسم هذا القائد شيبيون (13)، فخربوا بلاد إفريقية، ونزلوا بلاد قرطاجنة فلم يكن فيها من يقاوم، فأرسلوا إلى ملكهم أنبيل يعلمونه بما حلّ ببلادهم من أهل رومة، ويسألونه الإسراع لإغاثتهم، فعجب من ذلك ملك قرطاجنة وقال: أردت قطع الرومانيين من الدنيا، وأظن إله السماء أراد غير ذلك، ثم رجعِ إلى بلاده فزعاً، فزحف إليه شيبيون قائد صاحب رومة فهزمه مراراً عدة حتى قتله واستأصل عسكره، ودخل قرطاجنة فهدمها، وأحرقها وخرب المسلمون عند فتح إفريقية بقيتها. وكان بها (14) قصر من أغرب ما يكون من البناء، مفرط العظم والعلو، أقباء معقودة بعضها فوق بعض طبقات كثيرة، وهو مطل على البحر، وهو حصن عظيم يسميه الناس الطياطر، وهو بناء في استدارة عرض خمسين قوساً قائم في الهواء، سعة كل قوس منها تزيد عن ثلاثين شبراً، وبين كل قوس وأختها سارية سعتها أربعة أشبار ونصف، ويقوم على كل قوس من هذه الأقواس خمسة أقواس، قوس في حلق قوس، صنعة واحدة، وبناؤها من حجر الكذان، وقد صور في البحر الداير على الأقواس أنواع الصور وضروب من التماثيل العجيبة الثابتة في الصخر من صفات الناس والسباع والحيوانات والمراكب قد أتقن ذلك بأبدع صنعة، وسائر البناء الأعلى أملس لا شيء عليه، فيقال إنَ هذا البناء كان ملعباً ومجتمعاً في فصل ما من السنة. ومن غريب (15) مباني قرطاجنة الدواميس التي عددها أربعة وعشرون في سطر واحد، طول كل داموس منها مائة وثلاثون خطوة في عرض ست وعشرين، في أعلاها أقباء، بين كل داموسين منها خوخات يصل منها الماء إلى جميعها بهندسة وحكمة، وكان الماء الواصل من عين جوقار التي بقرب القيروان إلى قرطاجنة يفرغ في هذه الدواميس على عدة قناطير لا تحصى على وزن معتدل على قسي مبنية بالصخر فما كان منها في نشز الأرض كان قصيراً وما كان في بطون الأرض وأخاديدها كان طويلاً في نهاية العلو، وهذه القناة من أغرب مباني الأرض، وانقطع الماء من هذه الدواميس لكسر القناة وخراب قرطاجنة، ومن حينئذ لم يزل الهدم فيها واستخراج الرخام الكثير منها إلى الآن، وأخبر من رأى ألواح رخام استخرجت منها طولها أربعون شبراً في عرض أربعة أشبار، والحفر في خراباتها دائم لا ينقطع وإخراج الرخام منها كذلك. قالوا: ويوجد بها من أعمدة الرخام ما يكون دوره أربعين شبراً ويحيط بقرطاجنة أوطية من سهول بها مزارع وغلات. وبقرطاجنة (16) دار الطياطر وهو كله (17) أقباء معقودة على سواري رخام وعليها مثلها نحو أربع مرات قد أحاطت بالدار، والدار دائرة، من أغرب ما يكون من البناء، وبها أبواب كثيرة قد صوَر على كل باب منها صورة نوع من الحيوان، وقد صور في الحيطان صور جميع الصناع بأيديهم آلاتهم، وفي هذه الدار من الرخام ما لو أجمع أهل إفريقية على نقله ما قدروا عليه لكثرته، وكان فيها قصران يعرفان بالأختين ليس فيهما حجر سوى الرخام ورخام الواحد لا يشبه رخام الثاني، ويوجد فيها لوح رخام طوله ثلاثون شبراً وعرضه خمسة عشر شبراً، ويقال إنه وجد فيها غارب (18) بيت من لوح واحد والناس ينقلون من رخام هذين القصرين لحسنه على قدم الزمان، وما فرغ إلى الآن، وبهذين القصرين ماء مجلوب يأتي من ناحية الجوف لا يعرف من أين منبعه، وكان عليه نواعر وسواق تسقي بساتينهم، وكان بها قصر عظيم يطل على البحر يسمى قومش (19) وهو من أعجب ما فيها لأنه مبني على سواري رخام مفرطة الكبر والعظم، يجلس على رأس السارية منها اثنا عشر رجلاً بينهم سفرة طعام أو شراب، وهي مشطبة كالملح بياضاً والمها صفاء، يكون دور السارية منها نحو الثلاثين شبراً في علو مفرط، وعليها سوار أخر معترضة، وقد بني القصر عليها أقباء معقودة بعضها فوق بعض بأغرب صناعة وأعظم بناء، فكان هذا القصر حصناً عظيماً، وإنما هدم عن عهد قريب لأنه تحصن فيه قوم من القطاع فكانوا يقطعون بتلك الجهات ويلجأون إليه، فخرج إليهم أهل تونس فقتلوهم وهدموا القصر، وبقربه موضع فيه أقباء ودهاليز تحت الأرض يهاب الدخول فيها، وفيها جثث الموتى على حالها، فإذا مْسَّت تلاشت لقدمها. وداخل (20) المدينة ميناء تدخله المراكب بشرعها وفيها مواجل كثيرة للماء، وبعضها يسمى بالجرير، وآخر فيها يعرف بمواجل الشياطين بسبب أن من يقرب منها يسمع لها دوياً والناس يتنافسون في الدخول فيها، فمن جسر على دخولها ليلاً علم أنه جريء القلب ثبت الجنان، وهي منظر عظيم هائل، من تكلم فيها بكلمة سمع فيها دوي عظيم يحكي تلك الكلمة، وذلك لإحكام سطوحها، وهي ثمانية عشر صهريجاً مقترن بعضها ببعض في ارتفاعها نحو مائتي ذراع في عرض كبير، والأظهر أنها كانت مخازن لماء عين الزغوانية المجلوب إليها على رأس الحنايا العادية التي لا نظير لها في الدنيا فهي من عجائب الدنيا، وكان هذا الماء يأتي إليها على مسافة خمسة أيام من عين جوقار (21)، وهو ماء كثير يقوم بخمسة أرحاء أو أكثر، وعرض القناة نحو ثمانية أشبار، وارتفاعها نحو القامة ونصف أعني موضع جري الماء وهذه الحنايا تغيب مرة تحت الأرض في المواضع المرتفعة فإذا جازت على المواضع المنخفضة تكون على قناطر فوقها قناطر حتى تسامي السحاب علواً، فهي من أغرب بنيان في الأرض وفي وسط المدينة صهريج كبير حوله نحو ألف وسبعمائة حنية سوى ما تهدم منها كان يقع فيها الماء المجلوب في هذه القناة ويخرج من هذا الصهريج إلى بعض تلك المواجل، وفي بعض أرجل تلك القناطر كتابة في حجر قيل إن ترجمتها: هذا من عمل أهل سمرقند وقيل إن ذلك الماء جلب في أربعين سنة، ولو قيل في أربعمائة سنة لكان أعجب. قالوا (22) : ولما افتتح موسى بن نصير جزيرة الأندلس قال لهم: دلوني على أَسنَ شيخ عندكم، فأتي بشيخ قد رفعت حاجباه عن عينيه بعصابة من الكبر، فقال له موسى: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من إفريقية، من مدينة قرطاجنة، فقال له: فما الذي صيرك هاهنا، وكيف كان خبر قرطاجنة. فقال له: إن قرطاجنة بناها قوم من بقية العاديين (23) فسكنوها ما شاء الله ثم خربت ألف سنة فبناها ارمين الملك ابن لاوذ بن نمرود الجبار وجلب إليها الماء بالقناطر على الأودية، وشق الجبال حتى أوصله إلى قرطاجنة، فسكنها قومي ما شاء الله أن يسكنوها إلى أن حفر إنسان في أسس تلك القناطر، فوجد حجراً عليه كتابة فيها: إن هذه المدينة ستخرب إذا ظهر فيها الملح، قال: فبينا نحن في ندي قومنا جلوساً إذا ملح على حجر قد عقد عليه، قال: فتأملنا فإذا ذلك في جميع المدينة، فعند ذلك رحلنا إلى هنا. وعن عبد الرحمن (24) بن زياد بن أنعم قال: كنت أمشي مع عمّي بقرطاجنة نتأمل آثارها ونعتبر عجائبها، فإذا بقبر عليه مكتوب بالحِمْيرية: أنا عبد الله رسول رسول الله صالح، بعثني إلى أهل هذه القرية أدعوهم إلى الله تعالى فقتلوني ظلماً فحسيبهم الله وهو نعم الوكيل، فهذا لا شك كان سبب خراب قرطاجنة (25). وذكر أورشيوش في كتابه: بنيت قرطاجنة قبل بنيان مدينة رومة باثنتين وسبعين سنة ولم تزل ذات هرج ومرج مذ كانت، إما لمحاربة الأباعد أهلها أو لمحاربة أهلها بعضهم بعضاً وكانوا في القديم إذا انتابهم الجوع والوبأ داووا ذلك بهرق دماء الناس، فكانوا يذبحون أمام آلهتهم وعلى مذبح أوثانهم الصبيان والأطفال الذين قد يرحم مثلهم ويحن عليهم العدو، وكانوا يرون هرق دمائهم قرباناً، قال: والعجب أن المعروف أن الشياطين إنما تخدع الناس فيما يشاكل شهواتهم ويوافق أهواءهم، فأما أن تزين لهم مداواة الوبأ بقتل الناس وهرق دماء الأطفال حتى يصير فعلهم أضر من الوبأ الذي يشتكونه فإن ذلك غريب من انقياد الناس للشياطين، وقالوا: إن آلهة أهل قرطاجنة في ذلك الزمان سخطت عليهم من سبب ذلك القربان، وكانوا إذ ذاك قد حاربوا بصقلية حروبَاً كثيرة فتكوا فيها ثم حاربوا سردانية فنكبوا، فإذ ذاك ردّوا عودهم على قائدهم الذي كان صاحب حربهم واسمه امروه، فنفوه ومن كان معه من أهل عسكره، فلما طلب أولئك المنفيون إليهم أن يردوهم من النفي فلم يفعلوا أقبلوا لمحاربتهم ومحاربة مدينتهم. (1) بروفنسال: 151، والترجمة: 180. (2) بروفنسال: 151، والترجمة: 181 (Cartagena) والأصوب أن يقال فيها قرطاجنة الحلفاء - بالحاء المهملة - والفقرة الأولى عن الإدريسي (د) : 194. (3) ص ع: الهندور. (4) غندريس عند العذري: 4 الذي تحدث عن هذه الأحداث نفسها، وكذلك ابن عذري 2: 11. (5) انظر العذري: 6. (6) مروج الذهب 4: 57. (7) الاستبصار: 121. (8) إن نسبة تخريب قرطاجنة إلى الفتوحات الإسلامية فيه نظر كثير، وما بعد تخريب الرومان لها ما يجعل أي تخريب مستأنف ذا قيمة، فقد امحت حضارة قرطاجنة وطويت صفحتها سنة 146 ق. م. (9) الإدريس (د) : 112. (10) عاد إلى النقل عن الاستبصار. (11) (Hannibal) و ((يقال)) على التشكيك خلاف ما أورده البكري: 42 وما بعدها، حيث قال: وكان سبب خراب قرطاجنة أن انبيل.. ثم تحدث بوقائع التاريخ الدقيق. (12) لا يستعمل البكري هذه اللفظة، لأن روما حينئذ لم يكن فيها ملوك. (13) هو Scipio Africanus. (14) بتصرف قليل عن الاستبصار: 122، وقارن بالبكري: 43، والنص أقرب إلى الإدريسي: 112. (15) متابع للإدريسي. (16) الاستبصار: 122. (17) ويادة ضرورية للتوضيح. (18) الاستبصار: في غريبها. (19) ع ص: ترمش، والتصحيح عن البكري: 44 وفيه النص. (20) متابع للاستبصار: 123. (21) البكري: جقار؛ الاستبصار: جفان. (22) متابع للاستبصار: 124، وقارن بالبكري: 42. (23) البكري: العديين. (24) متابع للاستبصار والبكري: 45. (25) إلى هنا ينتهي نص الاستبصار.
[الروض المعطار في خبر الأقطار]
قرطاجنة
بالفتح، ثم السكون، وطاء مهملة، وجيم، ونون مشددة؛ وقيل اسمها قرطا، وأضيف إليها جنّة [لطيبها وحسنها] : بلد قديم من نواحى إفريقية، وهى عظيمة شامخة البناء، أسوارها من الرخام الأبيض، وبها من العمد المتنوع الألوان مالا يحصى، وهى على ساحل البحر، بينها وبين تونس اثنا عشر ميلا، وتونس عمرت من خرابها. وبالأندلس الأخرى قرطاجنّة الخلفاء استولى البحر على أكثرها.
[مراصد الاطلاع على اسماء الامكنة والبقاع]