بلاد الحبشة
هي أرض واسعة شمالها الخليج البربري، وجنوبها البر، وشرقها الزنج، وغربها البجة. الحر بها شديد جداً، وسواد لونهم لشدة الاحتراق، وأكثر أهلها نصارى يعاقبة، والمسلمون بها قليل. وهم من أكثر الناس عدداً وأطولهم أرضاً، لكن بلادهم قليلة وأكثر أرضهم صحارى لعدم الماء وقلة الأمطار، وطعامهم الحنطة والدخن، وعندهم الموز والعنب والرمان، ولباسهم الجلود والقطن. ومن الحيوانات العجيبة عندهم: الفيل والزرافة. ومركوبهم البقر، يركبونها بالسرج واللجام مقام الخيل، وعندهم من الفيلة الوحشية كثير وهم يصطادونها. فأما الزرافة فإنها تتولد عندهم من الناقة الحبشية والضبعان وبقر الوحش، يقال لها بالفارسية اشتركاوبلنك رأسها كرأس الإبل، وقرنها كقرن البقر، وأسنانها كأسنانه، وجلدها كجلد النمر، وقوائمها كقوائم البعير، وأظلافها كأظلاف البقر، وذنبها كذنب الظباء، ورقبتها طويلة جداً، ويداها طويلتان ورجلاها قصيرتان. وحكى طيماث الحكيم أنه بجانب الجنوب، قرب خط الاستواء في الصيف، تجتمع حيوانات مختلفة الأنواع على مصانع الماء من شدة العطش والحر، فيسفد نوع غير نوعه فتولد حيوانات غريبة مثل الزرافة، فإنها من الناقة الحبشية والبقرة الوحشية والضبعان، وذلك أن الضبعان يسفد الناقة الحبشية فتأتي بولد عجيب من الضبعان والناقة، فإن كان ذلك الولد ذكراً ويسفد البقرة الوحشية أتت بالزرافة. ولهم ملك مطاع يقال له أبرهة بن الصباح. ولما مات ذو يزن، وهو آخر الأدواء من ملوك اليمن، استولى الحبشة على اليمن، وكان عليها أبرهة من قبل النجاشي، فلما دنا موسم الحج رأى الناس يجهزون للحج، فسأل عن ذلك، فقالوا: هؤلاء يحجون بيت الله بمكة. قال: فما هو؟ قالوا: بيت من حجارة.قال: لأبنين لكم بيتاً خيراً منه! فبنى بيتاً من الرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة ورصعه بالجواهر، وجعل أبوابه من صفائح من ذهب، وجعل للبيت سدنة ودنه بالمندلي، وأمر الناس بحجه وسماه القليس، وكتب إلى النجاشي: إني بنيت لك كنيسة ما لأحد من الملوك مثلها! أريد أصرف إليه حج العرب. فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة، انتهز الفرصة حتى وجدها خالية، فقعد فيها ولطخها بالنجاسة. فلما عرف ابرهة ذلك اغتاظ وآلى أن يمشي إلى مكة، ويخرب الكعبة غيظاً على العرب. فجمع عساكره من الحبشة ومعه اثنا عشر فيلاً، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالتأهب والغارة، فأصابوا مائتي إبل لعبد المطلب، جد رسول الله،
ﷺ. وبعث أبرهة رسولاً إلى مكة يقول: إني ما جئت لقتالكم إلا أن تقاتلوني! وإنما جئت لخراب هذا البيت والانصراف عنكم! فقال عبد المطلب، وهو رئيس مكة إذ ذاك: ما لنا قوة قتالك وللبيت رب يحفظه، هو بيت الله ومبنى خليله! فذهب عبد المطلب إليه، فقيل له: إنه صاحب عير مكة وسيد قريش، فأدخله، وكان عبد المطلب رجلاً وسيماً جسيماً، فلما رآه أكرمه فقال له الترجمان: الملك يقول ما حاجتك؟ فقال: حاجتي مائتا بعير أصابها. فقال ابرهة للترجمان: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، وقد زهدت فيك لأني جئت لهدم بيت هو دينك ودين آبائك! جئت ما تكلمت فيه وتكلمت في الإبل! فقال عبد المطلب: أنا رب هذه العير، وللبيت رب سيمنعه! فرد إليه إبله، فعاد عبد المطلب وأخبر القوم بالحال، فهربوا وتفرقوا في شعاب الجبال خوفاً فأتى عبد المطلب الكعبة وأخذ بحلقة الباب وقال: جرّوا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك! عمدوا حماك بجهلهم كيداً وما رقبوا حلالك لاهمّ إنّ المرء يم. .. نع حلّه فامنع حلالكلا يغلبنّ صليبهم. .. ومحالهم أبداً محالك إن كنت تاركهم وكع بتنا فأمرٌ ما بدا لك! وترك عبد المطلب الحلقة وتوجه مع قومه في بعض الوجوه، فالحبش قاموا بفيلهم قاصدين مكة، فبعث الله من جانب البحر طيراً أبابيل مثل الخطاف، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره على شكل الحمص. فلما غشين القوم أرسلنها عليهم فلم تصب أحداً إلا هلك، فذلك قوله تعالى: وارسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. ومنها النجاشي الذي كان في عهد رسول الله،
ﷺ، واسمه أصحمة، كان ولياً من أولياء الله يبعث إلى رسول الله الهدايا، والنبي،
ﷺ، يقبلها. وفي يوم مات أخبر جبرائيل، عليه السلام، رسول الله بذلك مع بعد المسافة، وكان ذلك معجزة لرسول الله،
ﷺ، في يوم موته، صلى عليه الصلاة مع أصحابه وهو ببلاد الحبشة.
[آثار البلاد وأخبار العباد]
الحبشة
يَتَكَرَّرُ فِي السِّيرَةِ اسْمُ الْحَبَشَةِ وَمَلِكِ الْحَبَشَةِ وَالْأَحْبَاشِ. وَالْحَبَشَةُ: اسْمٌ لِلْأَمَةِ أُطْلِقَ عَلَى أَرْضِهِمْ، وَتُسَمَّى دَوْلَتُهُمْ أَثْيُوبْيَا، وَهِيَ تَضُمُّ أَرَاضِيَ إسْلَامِيَّةً إلَى جَانِبِ أَرْضِهِمْ. وَأَرْضُ الْحَبَشَةِ: هَضْبَةٌ مُرْتَفِعَةٌ غَرْبَ الْيَمَنِ بَيْنَهُمَا الْبَحْرُ، وَعَاصِمَتُهَا أَدِيسْ أَبَابَا، وَلَهُمْ صِلَاتٌ قَدِيمَةٌ مَعَ الْعَرَبِ، وَلِمَلِكِهِمْ مَوْقِفٌ يُذْكَرُ وَيُشْكَرُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَائِلِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهِ فَوَجَدُوا فِي كَنَفِهِ مَلْجَأً وَحُسْنَ جِوَارٍ. وَالْحَبَشَةُ نَصَارَى، غَيْرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ زَحَفَ عَلَى بِلَادِهِمْ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ فَأَسْلَمَتْ أَطْرَافُهَا مِنْ كُلِّ اتِّجَاهٍ، وَبَقِيَتْ الْهَضْبَةُ حَوْلَ أَدِيسْ أَبَابَا مُتَمَسِّكَةً بِشِدَّةِ بالنصرانية وَلَا زَالَ الْإِسْلَامُ يَتَكَاثَرُ فِي الْعَاصِمَةِ نَفْسِهَا، وَالْإِسْلَامُ هُنَاكَ لَيْسَ مَفْرُوضًا بِالْقُوَّةِ، إنَّمَا هُوَ يَنْتَشِرُ بِالدَّعْوَةِ الْفَرْدِيَّةِ وَبِالِاحْتِكَاكِ وَالْجِوَارِ. وَقَدْ تَحَوَّلَتْ أَثْيُوبْيَا مُنْذُ سَنَوَاتٍ إلَى جُمْهُورِيَّةٍ وَطُرِدَ النَّجَاشِيُّ. وَمِنْ هَذِهِ الإمبراطورية أَقَالِيمُ أَصْبَحَتْ عَرَبِيَّةً، مِثْلَ: أَرِيتْرِيَا، وَهِيَ أَرْضٌ تَلِي الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ تَبْدَأُ مِنْ مَضِيقِ بَابِ الْمَنْدَبِ جَنُوبًا إلَى جَنُوب «طوكر» فِي السُّودَانِ. وَمِنْ مُدُنِ هَذَا الْإِقْلِيمِ: أَسْمَرَةُ: (الْعَاصِمَةُ) وَمَصُوعُ: الْمِينَاءُ الرَّئِيسِيُّ، وَكَانَتْ تُسَمَّى بَاضِعَ، وَإِلَيْهَا هَاجَرَ الصَّحَابَةُ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، وَعَصَبُ: مِينَاءٌ فِي آخِرِ الْجَنُوب قُرْبَ عُدُول مِنْ أَرْضِ الدّنَاكِلِ. وَهَذَا الْإِقْلِيمُ - لَوْ تَحَرَّرَ وَاسْتَقَلَّ - حَجَبَ الْأَحْبَاشَ عَنْ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ نِهَائِيًّا، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِأَرِيتْرِيَا وَقَدْ أَصْبَحَتْ مُشْكِلَةُ أَرِيتْرِيَا مِنْ الْمَشَاكِلِ الْعَرَبِيَّةِ الْحَادَّةِ تَأْتِي بَعْدَ مُشْكِلَةِ فِلَسْطِينَ. وَمِنْ الْأَقَالِيمِ الْمُطَالَبِ بِهَا مِنْ الإمبراطورية: إقْلِيمُ أَوَجَادِّينَ أَوْ الصُّومَالُ الْغَرْبِيُّ الَّذِي تُطَالِبُ بِهِ الصُّومَالُ، وَمِنْ أَهَمِّ مُقَاطَعَاتِهِ مَدِينَةُ «هِرَر» الْمَشْهُورَةُ بِإِنْتَاجِ الْبُنِّ الهرري. وَهَذَا الْإِقْلِيمُ كَثِيرُ الْمَحَاصِيلِ، وَالْأَحْبَاشُ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ بِشِدَّةِ وَيُقَاتِلُونَ دُونَهُ بِضَرَاوَةِ، وَلَا يَقْبَلُونَ فِيهِ وَلَا فِي أَرِيتْرِيَا مُفَاوَضَاتٍ. تَقَعُ «هِرَر» فِي الْهَضْبَةِ الْمُرْتَفِعَةِ غَرْبَ بَابِ الْمَنْدَبِ.
[معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية]