البحث

عبارات مقترحة:

العفو

كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...


دمشق

قصبة بلاد الشام وجنة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة، ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار. قال أبو بكر الخوارزمي: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيت كلها فأفضلها غوطة دمشق، وأهل السير يقولون: إن آدم، عليه السلام، كان ينزل في موضع بها يقال له الآن بيت الأبيات، وحواء في بيت لهيا، وهابيل في مقرى وقابيل في قنينة. وكان في الموضع الذي يعرف الآن بباب الساعات عند الجامع صخرة عظيمة كانت القرابين توضع عليها، فما قبل نزلت نار أحرقته، وما لم يقبل بقي على حاله، وقتل قابيل هابيل على جبل قاسيون، وهو جبل على باب دمشق. وهناك حجر عليه مثل أثر الدم يزعم أهل دمشق انه الحجر الذي رض به قابيل رأس هابيل، وعند الحجر مغارة يقال لها مغارة الدم لذلك. والمدينة الآن عظيمة حصينة ذات سور وخندق وقهندز، والعمارات مشبكة من جميع جوانبها، والبساتين محيطة بالعمارات فراسخ وقلما ترى بها داراً أو مسجداً أو رباطاً أو مدرسة أو خاناً إلا وفيها ماء جار. ومن عجائبها الجامع وصفه بعض أهل دمشق قال: هو أحد العجائب كامل المحاسن جامع الغرائب، بسط فرشه بالرخام وألف على أحسن تركيب وانتظام. فصوص أقداره متفقة وصنعته مؤتلفة، وهو منزه عن صور الحيوان إلى صور النبات، وفنون الأغصان تجنى ثمرتها بالأبصار، ولا يعتريها حوائج الأشحار. والثمار باقية على طول الزمان مدركة في كل حين وأوان، لا يمسهاعطش مع فقدان القطر، ولا يصيبها ذبول مع تصاريف الدهر. عمره الوليد بن عبد الملك، وكان ذا همة في أمر العمارات وبناء المساجد. أنفق على عمارته خراج المملكة سبع سنين، وحمل عليه الدساتير بما أنفق عليه على ثمانية عشر بعيراً فلم ينظر إليها، وأمر بإبعادها وقال: هو شيء أخرجناه لله فلا نتبعه! قالوا: من عجائب الجامع لو أن أحداً عاش مائة سنة، وكان يتأمله كل يوم، لرأى في كل يوم ما لم يره من حسن الصنعة ومبالغة التنميق. وحكي أنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصناع ستين ألف دينار، فضج الناس استعظاماً لما أنفق فيه، وقالوا: أنفقت أموال المسلمين فيما لا فائدة لهم فيه! فقال: ان في بيت مالكم عطاء ثماني عشرة سنة، إن لم يدخل فيه حبة قمح! فسكت الناس، فلما فرغ أمر بتسقيفها من الرصاص، وإلى الآن سقفها من الرصاص، ورأيت الصانع يرقمها بالرصاص المذاب. قالوا: ان طيراً يذرق على الرصاص يحرقه فيحتاج إلى الإصلاح لدفع ماء المطر. قال موسى بن حماد: رأيت في جامع دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفوراً سورة ألهاكم التكاثر ورأيت جوهرة حمراء نفيسة ملصقة في قاف المقابر، فسألت عن ذلك فقالوا: ماتت للوليد بنت كانت هذه الجوهرة لها، فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر، وحلف لأمها أنه أودعها المقابر. والمسجد مبني على أعمدة رخام طبقتين: التحتانية أعمدة كبار، والفوقانية أعمدة صغار، في خلال ذلك صور المدن والأشجار بالفسيفساء والذهب والألوان. ومن العجب العمودان الحجريان اللذان على باب الجامع، وهما في غاية الإفراط طولاً وعرضاً، قيل: وهما من عمل عاد إذ ليس في وسع أبناء زماننا قطعهما ولا نقلهما ولا إقامتهما، وفي الجانب الغربي بالجامع عمودان على الطبقة العليا من الأعمدة الصغار، يقولون: انهما من الحجر الدهنج، وفي جدار الصحنالقبلي حجر مدور شبه درقة منقطة بأبيض وأحمر، قالوا: بذل الفرنج فيه أموالاً فلم يجابوا إليه. وللجامع أوقاف كثيرة وديوان عظيم، وعليها أرزاق كثير من الناس، منهم صناع يعملون القسي والنبال للجامع ويذخرونها ليوم الحاجة، ذكروا أن دخل الجامع كل يوم ألف ومائتا دينار، يصرف المائتان إلى مصالح الجامع والباقي ينقل إلى خزانة السلطان. وأهل دمشق أحسن الناس خلقاً وخلقاً وزياً، وأميلهم إلى اللهو واللعب، ولهم في كل يوم سبت الاشتغال باللهو واللعب. وفي هذا اليوم لا يبقى للسيد على المملوك حجر، ولا للوالد على الولد، ولا للزوج على الزوجة، ولا للأستاذ على التلميذ، فإذا كان أول النهار يطلب كل واحد من هؤلاء نفقة يومه، فيجتمع المملوك بإخوانه من المماليك، والصبي بأترابه من الصبيان، والزوجة باخواتها من النساء، والرجل أيضاً بأصدقائه، فأما أهل التمييز فيمشون إلى البساتين ولهم فيها قصور ومواضع طيبة، وأما سائر الناس فإلى الميدان الأخضر، وهو محوط فرشه أخضر صيفاً وشتاء من نبت فيه، وفيه الماء الجاري. والمتعيشون يوم السبت ينقلون إليه دكاكينهم. وفيها حلق المشعبذين والمساخرة والمغنين والمصارعين والفصالين. والناس مشغولون باللعب واللهو إلى آخر النهار، ثم يفيضون منها إلى الجامع ويصلون بها المغرب ويعودون إلى أماكنهم. بها جبل ربوة، جبل على فرسخ من دمشق؛ قال المفسرون: إنها هي المذكورة في قوله تعالى: وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين. وهو جبل عال عليه مسجد حسن في وسط البساتين، ولما أرادوا إجراء ماء بردى وقع هذا الجبل في الوسط، فنقبوا تحته وأجروا الماء فيه، ويجري على رأسه نهر يزيد، وينزل من أعلاه إلى أسفله. وفي المسجد الذي على أعلى الماء الجاري. وله مناظر إلى البساتين، وفي جميع جوانبه الخضرة والأشجار والرياحين. ورأيت في المسجد في بيت صغير حجراً كبيراً ذا ألوان عجيبة، حجمه كحجم صندوق مدور، وقد انشق بنصفين وبين شقيه مقدار ذراع، لم ينفصلأحد الشقين عن الآخر بل متصل به كرمان مشقوق، ولأهل دمشق في ذلك الحجر أقاويل كثيرة. وينسب إليها إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل في الذكاء. طلب من رجل حقاً عند القاضي، وهو إذ ذاك يتيم، فقال له القاضي: اسكت إنك صبي! فقال: إذا سكت من يتكلم عني؟ فقال القاضي: والله لا تقول حقاً! فقال إياس: لا إله إلا الله! وحكي أن امرأتين تحاكمتا إليه في كبة غزل، فأفرد كل واحدة منهما وسألها: على أي شيء كببت غزلك؟ فقالت إحداهما: على كسرة خبز! وقالت الأخرى: على طرقة. فنقض الكبة فإذا هي على كسرة خبز. فسمع بذلك ابن سيرين فقال: ويحه ما أفهمه! وحكي انه تحاكم إليه رجلان فقال أحدهما: إني دفعت إليه مالاً. فجحد الآخر، فقال للمدعي: أين سلمت هذا المال إليه؟ فقال: عند شجرة في الموضع الفلاني! فقال المدعى عليه: انا ذلك الموضع ما رأيت قط. فقال: انطلقوا بالمدعي إلى ذلك المكان وابصروا هل فيه شجرة أم لا؟ فلما ذهبوا إليه قال بعد زمان للمدعى عليه: ترى وصلوا إلى ذلك المكان؟ قال: لا، بعد! فقال له: قم يا عدو الله، إنك خائن! فقال: أقلني أقالك الله! واعترف به.

[آثار البلاد وأخبار العباد]

دمشق

مدينة قديمة ذات مجد عريق وتاريخ حافل فتحها المسلمون سنة 14 هـ وكانت إحدى مراكز الأجناد في بلاد الشام. اتخذها معاوية بن أبي سفيان عاصمة الملك فكانت عروس المدائن وسيدة العواصم. منها خرجت أعداد لا تحصى من العلماء والأدباء والشعراء تشتهر بجامعها الكبير الذي بناه الخليفة الوليد بن عبد الملك وبآثارها الأخرى من مساجد ومدارس وبيمارستنات. اشتهرت بصناعة الثياب الحريرية المواشاة (البروكار) ونسب إليها نوع مشهور حمل اسمها إلي العالم وهو (الدمشقي) المعروف باسم (دامسكو). وهي اليوم عاصمة الجمهورية العربية السورية.

[تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية لابن كثير]

دمشق (1) :

هي قاعدة الشام ودار ملك بني أمية، سميت باسم صاحبها الذي بناها وهو دمشق بن قاني بن مالك بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل سميت بدماشق بن نمرود بن كنعان، قال عياض: هي بكسر الدال وفتح الميم، ومنهم من يكسر الميم. وهي ذات العماد في قول عوف بن خالد وعكرمة وغيرهما، وقيل غير ذلك. قال مؤرخو أخبار العجم: في شهر أيار بنى دمشوش الملك مدينة جلق، وهي مدينة دمشق وحفر نهرها بردى ونقره في الجبل حتى جرى إلى المدينة. وحكي أن دمشق كانت دار نوح، ومن جبل لبنان كان مبدأ السفينة، واستوت على الجودي قبل قردى ولما كثر ولده نزلوا بابل السواد في ملك نمرود بن كوش أول ملك كان في الأرض. وسور دمشق تراب، ولها أربعة أبواب: الباب الغربي وهو باب الجابية، والباب الجنوبي (2) ويسمى باب توما ويقال له اليوم باب المصادمة، والباب الشرقي وهو باب الغوطة، ومن الباب الشرقي دخل خالد بن الوليد ومنه فتح دمشق، والباب الشمالي هو باب الفراديس وهو باب كيسان (3)، ونهرها يحيط بمدينتها من كل ناحية حتى يلتقي من جهة الغوطة، وفي باب توما أربعة أنهار: نهر برزة ونهر ثورا (4) ونهر يزيد ونهر القناة، وتسير في مدينة دمشق حتى تنتهي إلى باب الفراديس مقدار ميل إلى عين حران، وهي ثلاث ديارات، وقصر ابن طولون إلى جانبه، ومما يلي الباب الغربي وهو باب الجابية المصلى، وتسير من المدينة في بساتين إلى باب صغير وعليه خمس صوامع للرهبان. وفي سور دمشق فتح كالأبواب تدخل منها الأنهار إلى المدينة وهي تجري داخل المدينة وتخرق دورها وأسواقها، والأسواق كلها مسقفة على هيئة سقوف المسجد الجامع بها، وأرضها مفروشة. ومسجد جامعها بناه الوليد بن عبد الملك سنة ثمان وثمانين، وهو داخل المدينة وليس (5) على وجه الأرض مثله بناء ولا أحسن صفة ولا أتقن إحكاماً ولا أبدع منه تلميعاً بأنواع الفصوص المذهبة والآجر المحكوك والمرمر المصقول، فمن جاء من ناحية باب جيرون صعد إليه في درج رخام نحواً من ثلاثين درجة، ومن قصده من ناحية باب البريد والقبة الخضراء وباب الفراديس كان مدخله مع الأرض بغير درج. ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا يدخله الطائر المعروف بالخطاف، وفيه آثار عجيبة منها الخزان (6)، والقبة التي فوق المحراب عند المقصورة يقال إنها من بناء الصابئة، وكان مصلاهم بها، ثم صار في أيدي اليونانيين فكانوا يعظمون فيه دينهم ثم صار بعدهم لعباد الأوثان، فكان موضعاً لأصنامهم، ثم انتقل إلى اليهود فقتل في ذلك الزمان يحيى بن زكريا فنصب رأسه على باب المسجد المسمى بباب جيرون، ثم تغلب عليه النصارى فحولته بيعة يقيمون بها دينهم، ثم افتتحها المسلمون فاتخذوه جامعاً، فلما كان في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان جعل أرضه رخاماً ومعاقد رؤوس أساطينه ذهباً ومحرابه مذهباً وسائر حيطانه مرصعة بأشباه الجوهر، والسقف كله مكتب بأحسن صنعة وأبدع تنميق، وأنفق في هذا المسجد خراج الشام كله سنتين. وكان (7) بعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره باشخاص اثني عشر ألف صانع من جميع بلاده، وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه، فامتثل أمره مذعناً بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك، فشرع في بنائه وبلغ الغاية في التأنق فيه، وأنزلت جدره كلها بفصوص الفسيفساء وخلطت بأنواع من الأصبغة الغريبة وقد مثلت أشجاراً وفرعت أغصاناً منظومة بالفصوص ببدائع من الأصبغة الغريبة، فجاء يعشي العيون وميضاً، وكان مبلغ النفقة حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي (8) في بنيانه أربعمائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار، فكان مبلغ الجميع أحد عشر ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار. والوليد هو الذي أخذ نصف الكنيسة الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه لأنه كان قسمين: قسماً للمسلمين وقسماً للنصارى، وهو الغربي، لأن أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه دخل البلد من الجهة الغربية فانتهى إلى نصف الكنيسة وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى، ودخل خالد بن الوليد رضي الله عنه عنوة من الجهة الشرقية وانتهى إلى النصف الثاني وهو الشرقي، فاختاره المسلمون وصيروه مسجداً، وبقي النصف المصالح عليه وهو الغربي كنيسة بأيدي النصارى إلى أن عوضهم منه الوليد فأبوا ذلك فانتزعه من أيديهم قسراً وطلع لهده بنفسه، وكانوا يزعمون أن الذي يهدم كنيستهم يجن، فبادر الوليد وقال: أنا أول من يجن في الله تعالى، وبدأ بالهدم بيده فبادر المسلمون هدمه، واستعدوا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أيام خلافته وأخرجوا العهود التي بأيديهم من الصحابة رضي الله عنهم في إبقائه عليهم فهم بصرفه إليهم فأشفق المسلمون من ذلك، ثم عوضهم من ذلك بمال عظيم أرضاهم به فقبلوه. ويقال إن أول من وضع جداره القبلي هود عليه السلام، وفي أثر أنه يعبد الله تعالى فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة، وذرعه في الطول من المشرق إلى المغرب مائتا خطوة وهما ثلثمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الشمال مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع، فيكون تكسيره من المراجع أربعة وعشرين مرجعاً، وهو تكسير مسجد رسول الله ، غير أن الطول في مسجد رسول الله من القبلة إلى الشمال، وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من المشرق إلى المغرب، سعة كل بلاطة ثمان عشرة خطوة، والخطوة ذراع ونصف، وقد قامت على ثمانية وستين عموداً، منها أربع وخمسون سارية وثماني (9) أرجل جصية واثنتان مرخمة ملتصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن، وأربع (10) أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص الرخام ملونة قد نظمت خواتيم وصورت محاريب وأشكالاً غريبة قائمة في البلاط الأوسط، دور كل رجل منها اثنان وسبعون شبراً، ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهات: الشرقية والغربية والشمالية، وسعة الصحن حاشا المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع، وعدد شمسيات الجامع الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون. وفي الجامع ثلاث مقصورات: مقصورة الصحابة رضي الله عنهم وهي مقصورة معاوية رضي الله عنه، هو أول من وضعها وبإزاء محرابها باب حديد كان يدخل منه معاوية إلى المقصورة، وبإزاء محرابها مصلى أبي الدرداء رضي الله عنه وخلفها كانت دار معاوية رضي الله عنه، وهو اليوم سماط عظيم للصفارين بطول جدار الجامع القبلي (11). وفي الجامع عدة زوايا يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس، وهي من جملة مرافق الطلبة. وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون باباً قد علتها قسي جصية كلها مخرمة على شبه الشمسيات. وللجامع ثلاث صوامع: واحدة في الجانب الغربي وهي كالبرج المشيد تحتوي على مساكن متسعة وزوايا فسيحة يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير، وبها كان معتكف أبي حامد الغزالي، وثانية بالجانب الغربي، ، وثالثة (12) بالجانب الشمالي. وللجامع مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على الثمانية آلاف دينار في السنة. وكان هذا الجامع ظاهراً وباطناً منزلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفاً بأبدع زخارف البناء فأدركه الحريق مرتين فتهدم وجدد وذهب أكثر رخامه واستحال رونقه. ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسناً وغرابة صنعة يتقد ذهباً كله قد قامت في وسطه محاريب صغار، وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في صف المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف عثمان الذي وجه به إلى الشام، وتفتح الخزانة كل جمعة إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله، ويكثر الزحام عليه. وهناك مشهد كبير حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما ثم نقل إلى القاهرة. وعن يمين الخارج من باب جيرون غرفة لها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر وقد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيراً هندسياً، فعند انقضاء ساعة من النهار سقطت صنجتان من صفر من فمي بازيين مصورين من صفر قائمين على طاس صفر تحت كل واحد منهما، أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان. ويستدير بالجامع أربع سقايات في كل جانب سقاية، واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت والماء يجري في كل بيت، وإحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون وهي أكبرها، فيها من البيوت نيف على ثلاثين، والبلد كله سقايات قل ما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه من سقاية. قالوا: ورأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مدفون بالجامع في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابية، وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة إلى الأسطوانة، وفوقه قنديل كأنه من بلور مجوف كالقدح الكبير. وفي الجهة الشمالية من البلد وعلى مقدار فرسخ منه غار مستطيل ضيق قد بني عليه مسجد كبير مرتفع مقسم على مساجد كثيرة كالغرف المطلة، وعليه صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى إبراهيم الخليل الكوكب ثم القمر ثم الشمس حسبما ذلك مذكور في الكتاب العزيز، ذكر ذلك ابن عساكر. وهناك مغارة صلى فيها إبراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب صلوات الله وسلامه عليهم. ولكل مشهد من تلك المشاهد أوقاف معينة. وهناك الربوة المباركة التي أوى إليها المسيح عليه السلام وأمه، وهناك بيت يقال إنه مصلى الخضر، وهذه الربوة رأس بساتين البلد ومنها ينقسم الماء على سبعة أنهار ولهذه الربوة أوقاف من بساتين وأرض بيضاء. وبغربي البلد جبانة تعرف بقبور الشهداء فيها كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الصالحين، فمنها قبر أبي الدرداء وزوجته أم الدرداء رضي الله عنهما، وفضالة بن عبيد، وسهل بن الحنظلية، ومعاوية بن أبي سفيان وأخته أم المؤمنين أم حبيبة، وواثلة بن الأسقع، وبلال بن رباح مؤذن رسول الله ، وأويس القرني، وخلفاء بني أمية رضي الله عنهم. ولدمشق ثمانية أبواب: باب شرقي، وهو شرقي المدينة، وفيه منارة بيضاء يقال إن عيسى عليه السلام ينزل فيها كما جاء في الأثر أنه ينزل في المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويلي هذا الباب باب توما، ثم باب السلامة، ثم باب الفراديس، ثم باب الفرج، ثم باب النصر، ثم باب الجابية، ثم باب الصغير. والأرباض تطيف بالبلد كله إلا من جهة الشرق مع ما يتصل بالقبلة يسيراً وله أرباض كثيرة، والبلد ليس بمفرط الكبر وهو مائل للطول، وفي داخل البلد كنيسة لها عند الروم شأن كبير تعرف بكنيسة مريم، ليس بعد بيت المقدس عندهم أفضل منها، وهي بأيدي الروم لا اعتراض عليهم فيها. وبالبلد نحو عشرين مدرسة ومارستانان، أحدهما جاريه في اليوم نحو الخمسة عشر ديناراً وله قومة برسم المرضى والنفقة التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية، والأطباء يبكرون إليه كل يوم ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية، وفيه مجانين معتقلون لهم ما يخصهم من العلاج، وهم في سلاسل موثقون، نعوذ بالله من البلاء. ومن أغرب أحاديثهم أن رجلاً كان يعلم القرآن، وكان يقرأ عليه صبي من أهل البلد اسمه نصر الله هام به المعلم وزاد كلفه به حتى اختل عقله وأوى إلى المارستان، واشتهرت علته وفضيحته بالصبي، فقيل له: اخرج وعد إلى ما كنت عليه من القرآن، فقال متماجناً: وأي قراءة بقيت لي؟ ما بقي في حفظي من القرآن شيء سوى: " إذا جاء نصر الله والفتح " فضحك منه، نسأل الله العافية، وما زال هناك حتى مات، لطف الله به. وأما رباطات الصوفية التي يسمونها الخوانق فكثيرة، وهي قصور مزخرفة، في جميعها الماء يطرد. وهناك ديار موقوفة لقراءة كتاب الله تعالى يسكنونها، ومرافق الغرباء أكثر في البلد من أن تحصى لا سيما لحفاظ كتاب الله تعالى والمنتمين للطلب. وبهذه البلدة قلعة يسكنها السلطان منحازة في الجهة الغربية وهي بازاء باب الفرج، وبها جامع السلطان. وبهذه البلدة قرب مائة حمام، وفي أرباضها نحو أربعين داراً للوضوء يجري الماء فيها كلها، وهي أحسن البلاد للغريب لكثرة المرافق، وأسواقها من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاماً ولا سيما قيساريتها. وأهل دمشق يمشون أمام الجنازة بقراء يقرأون القرآن بأصوات شجية وتلاحين مبكية برفيع أصواتهم، وكلهم يمشون وأيديهم إلى خلف، قابضين بالواحدة على الأخرى، ويركعون للسلام على تلك الحالة، والمحتشم منهم من يسحب أذياله على الأرض شبراً ويضع خلفه اليد الواحدة على الأخرى، ويستعملون المصافحة إثر الصلوات لا سيما إثر صلاة الصبح وصلاة العصر. ودمشق (13) جامعة لصنوف المحاسن وضروب الصناعات وأنواع الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس ويتجهز به إلى جملة الآفاق، وفي داخل دمشق على أوديتها أرحاء كثيرة جداً، وبها من الحلاوات ما لا يوجد بغيرها، وأهلها في خصب أبداً، وهي أعز البلاد الشامية وأكملها حسناً. وكان الوليد فرش داخل المدينة بالرخام الأبيض المختم باللازورد تختيماً متداخلاً من أصل الحلقة، وحيطان المسجد بالفسيفساء وسقفه لا خشب فيه وهو مذهب كله، وله ثلاث منارات: المنارة الواحدة التي في مؤخر المسجد واثنتان في غربه وشماله والمسجد مذهب كله من أعلاه إلى أسفله ذهباً وفسيفساء، وفي صحن المسجد قبة قد أحكمت صنعتها وأتقنت أشد الإتقان، فيها فوارة من نحاس محكمة العمل يفور منها الماء ويرتفع نحو القامة ثم ينزل في حوض رخام بديع ويستدير بهذه القبة شباك من حديد، وسطح الفوارة فسيفساء فيه صور غزلان وغيرها من الحيوان، فإذا أشرفت على الفوارة وهي مملوءة ماء رأيت منظراً أنيقاً. وعند الباب الشرقي من المسجد قبة في أعلاها قناة رصاص ولها أنابيب من نحاس قد أخرجت من حدود القبة توقد فيها السرج، وفي حيطان المسجد قناة للماء بأقفال ينزل ماؤها في حياض رخام في وسط كل حوض عمود من نحاس يندفع منه الماء مرتفعاً علواً، وفي أعلى مسجد دمشق قبة خضراء مشرفة جداً. وجبانة دمشق في الجنوب منها، يكون طولها ميلاً في مثله. قالوا (14) : ومر الوليد بن عبد الملك حين بنى مسجد دمشق برجل ممن يعمل في المسجد وهو يبكي، فقال: ما قصتك قال: يا أمير المؤمنين كنت رجلاً جمالاً فلقيني رجل فقال: أتحملني إلى مكان كذا وكذا، موضعاً في البرية، قلت: نعم، فلما حملته وسرنا بعض الطريق التفت إلي فقال لي: إن بلغنا الموضع الذي ذكرته لك وأنا حي أغنيك، وإن مت قبل بلوغي إليه فاحملني إلى الموضع الذي أصف لك، فإن ثم قصراً خراباً فإذا بلغته فامكث إلى ضحوة النهار ثم عد سبع شرافات من القصر واحفر تحت السابعة على قدر قامة فإنك ستظهر لك بلاطة فاقلعها، فإنك سترى تحتها مغارة فادخلها، فإنك ترى في المغارة سريرين على أحدهما رجل ميت، فاجعلني على أحد السريرين ومدني عليه وحمل جمالك هذه وحمارتك مالاً من المغارة وارجع إلى بلدتك. قال: فمات في الطريق، ففعلت ما أمرني به، وكان معي أربعة جمال وحمارة فأوسقتها كلها مالاً من المغارة وسرت بعض الطريق وكانت معي مخلاة فنسيت أن أملأها من ذلك المال وداخلني الشره، فقلت: لو رجعت فملأت هذه المخلاة، فرجعت وتركت الجمال والحمارة في الطريق فلم أجد المكان الذي أخذت منه المال، فدرت فلم أعرف، فلما يئست رجعت إلى الجمال والحمارة فلم أجدها، فجعلت أدور في البرية أياماً فلم أجد لها أثراً، فلما يئست رجعت إلى دمشق وقد ذهبت الجمال والحمارة فلم أحصل على شيء، وألجأني الأمر إلى ما ترى يا أمير المؤمنين، فها أنا أعمل كل يوم في التراب بدرهم فكلما تذكرت بكيت، فقال له الوليد: لم يقسم الله لك في تلك الأموال شيئاً وإلي صارت فبنيت بها هذا المسجد. وفي غربي دمشق لأقل من ميل منها قصر الإمارة، وهي مدينة مسورة، ولها بابان كبيران يسمى أحدهما باب الربوة والثاني باب حوران، وبينهما أبواب كثيرة تسمى الخوخات، وفيها مسجد جامع متقن إلا أنه لا يبلغ إتقان مسجد المدينة الكبرى، وفيها أسواق كثيرة، وبين قصر الإمارة والمدينة بساتين وأنهار جارية، وعلى قصر الإمارة قبة حمراء مشرفة، ويحيط بقصر الإمارة نهر من جميع جوانبه، وجبل اللكام جبل شاهق لاصق بمدينة دمشق، وبينهما نهر عليه قنطرة لطيفة، وهي تسقي بساتين الغوطة، وثنية العقاب على مقربة من مدينة دمشق تسير من الثنية في قرى النصارى حتى تفضي إلى باب توما. والخضراء من دمشق كان ينزلها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. ومرابط أهل دمشق بيروت، وهي مدينة على شاطئ البحر وفيها كان أبو الدرداء رضي الله عنه. وفتحت دمشق في زمان عمر رضي الله عنه سنة أربع عشرة بعد أن لقيتهم جموع الروم بمرج الصفر عند طاحونة المرج فهزمت الروم، ويقال إن الطاحونة طحنت في ذلك اليوم من دمائهم وهرب هرقل إلى أنطاكية ثم إلى القسطنطينية. ولعبد الله بن أحمد الكاتب المعدل في ذكر دمشق، أنشده ابن عساكر في كتابه (15) : سقى الله ما تحوي دمشق وحياها. .. فما أطيب اللذات فيها وأهناها نزلنا بها فاستوقفتنا محاسن. .. يحن إليها كل قلب ويهواها لبسنا بها عيشاً رقيقاً رداؤه. .. ونلنا بها من صفوة العيش أعلاها ولم يبق فيها للمسرة بقعة. .. يفرح فيها القلب إلا نزلناها وكم ليلة نادمت بدر تمامها. .. تقضت وما أبقت لنا غير ذكراها فآهاً على ذاك الزمان وطيبه. .. وقل له من بعده قولتي آها فيا صاحبي إما حملت تحيتي. .. إلى دار أحباب لنا طاب مغناها فقل ذلك الوجد المبرح ثابت. .. وحرمة أيام الهوى ما أضعناها فإن كانت الأيام أنست عهودنا. .. فلسنا على طول المدى نتناساها سلام على تلك المحاسن إنها. .. محط (16) صبابات النفوس ومثواها رعى الله أياماً تقضت بقربها. .. فما كان أهناها لدينا وأمراها ليالي لا أنفك في عرصاتها. .. أنادم بدراً أو أعاتب تياها فمن مترف يستملك اللب حسنه. .. وفاتنة يستأسر القلب عيناها إذا عدم الورد الجني أراك ما. .. يفوق على الورد المورد خداها وإن غاب نور البدر في حلك الدجى. .. أضاء كضوء الصبح نور محياها أحن إليها ثم أخشى رقيبها. .. فما زلت أخشاها بوجدي فأغشاها وإن لم ترد طيب الخمور وفعلها. .. أقمت مقام الكأس في فعلها فاها ومن أين للصهباء شمس مضيئة. .. يعاطيك محياها رحيق ثناياها رعى الله عني عصبة أدبية. .. فلم يجر خلق في البلاغة مجراها إذا ذكرتها النفس حنت لذكرها. .. وإن ذكرتها العين حنت لرؤياها فلا برحت يستعبد الحر حسنها. .. وتستخدم الألفاظ الطاف معناها وقال أبو الفرج عبد الله بن أسعد الموصلي الفقيه الشافعي المعروف بابن الدهان (17) : سقى دمشق وأياماً مضت فيها. .. مواطر السحب ساريها وغاديها فللحاظ وللأسماع ما اقترحت. .. من وجه شادنها أو صوت شاديها إذا العزيمة عن فرط الغرام ثنت. .. قلباً تثنى له غصن فيثنيها ريم إذا جلبت حيناً لواحظه. .. للنفس حيا بخديه فيحييها اشتاق عيشي بها قدماً ويذكرني. .. أيامي السود بيضاً من لياليها ونحن في جنة لا ذاق ساكنها. .. بأساً ولا عرفت بؤساً مغانيها سماء دوح ترد الشمس صاغرة. .. عنا وتبدي نجوماً من نواحيها ترى النجوم بها في كل ناحية. .. ممدودة للنجوم الزهر أيديها إذا الغصون هززناها لنيل جنى. .. صارت كواكبها حصباً أراضيها من كل صفراء مثل الماء يانعة. .. تخالها جمر نار في تلظيها لذيذة الطعم تحلو عند آكلها. .. بهية اللون تجلى عند رائيها يا ليت شعري على بعد أذاكرتي. .. عصابة لست طول الدهر ناسيها عندي أحاديث وجد بعد بعدهم. .. أظل أجحدها والعين ترويها كم لي بها صاحب عندي له نعم. .. كثيرة وأياد ما أؤديها فارقته غير مختار فصاحبني. .. صبابة منه تخفيني وأخفيها رضيت بالكتب بعد القرب فانقطعت. .. حتى رضيت سلاماً في حواشيها وقال إسماعيل بن أبي هاشم: قرأت على قصر بدمشق لبنى أمية: ليت شعري ما حال أهلك يا قص. .. ر وأين الذين علوا بناكا ما لأربابك الجبابرة الأملا. .. ك شادوك ثم حلوا سواكا ألزهد يا قصر فيك تحامو. .. ك ألا نبني ولست هناكا ليت شعري وليتني كنت أدري. .. ما دهاهم يا قصر ثم دهاكا ليت أن الزمان خلف منهم. .. مخبراً واحداً فاعلم ذاكا ومن خلف هذا جواباً عنهم: أيها السائل المفكر فيهم. .. ما لهذا السؤال قل لي دعاكا أوما تعرف المنون إذا حل. .. ت دياراً فلن تراعي هلاكا إن في نفسك الضعيفة شغلاً. .. فاعتبر وامض فالمنون وراكا (1) اعتمد المؤلف في أكثر هذه المادة على رحلة ابن جبير: 260 - 289، وقارن بياقوت (دمشق)، والمجلدين الأولين من تاريخ ابن عساكر، والأعلاق الخطيرة (الجزء الخاص بدمشق)، والقمدسي: 156، واليعقوبي: 325، والكرخي: 45، وابن حوقل: 160، وابن الفقيه: 104، وابن بطوطة: 84، ومسالك الأبصار 1: 178، وصبح الأعشى 4: 96. (2) عند ابن عساكر وغيره أن باب توما شمالي. (3) صحيح أن باب الفراديس شمالي، ولكن باب كيسان غير باب الفراديس وهو أي باب كيسان قبلي شرقي، وكيسان المنسوب إليه هو مولى بشر بن عبادة اللبي، ويقول ابن عساكر: ((وهو الآن مسدود)) (2: 185). (4) ص ع: بوران. (5) عن نزهة المشتاق: 116. (6) نزهة المشتاق: الحجران. (7) عن ابن جبير: 261. (8) ص ع: الآمدي. (9) ص ع: وثمانية. (10) ص ع: وأربعة. (11) أغفل ذكر المقصورتين الأخريين، انظر ابن جبير: 265. (12) ص ع: دباقيها (13) عاد للنقل عن نزهة المشتاق: 116. (14) المسالك 1: 187. (15) تاريخ ابن عساكر، المجلدة الثانية: 177، وانظر ياقوت والأعلاق الخطيرة: 339. (16) ص ع: محيا. (17) الأعلاق الخطيرة: 349، وديوانه: 233.

[الروض المعطار في خبر الأقطار]

جند دمشق

ومن حمص إلى مدينة دمشق أربع مراحل، فالمرحلة الأولى جوسية وهي من حمص. والثانية قارا وهي أول عمل جند دمشق. والثالثة القطيفة وبها منازل لهشام بن عبد الملك بن مروان ومنها إلى مدينة دمشق. ومن سلك من حمص على طريق البريد أخذ من جوسية إلى البقاع ، ثم إلى مدينة بعلبك وهي إحدى مدن الشام الجليلة وبها بنيان عجيب بالحجارة وبها عين عجيبة يخرج منها نهر عظيم وداخل المدينة الأجنة والبساتين. ومن مدينة بعلبك إلى عقبة الرمان ثم إلى مدينة دمشق، ومدينة دمشق مدينة جليلة قديمة وهي مدينة الشام في الجاهلية والإسلام وليس لها نظير في جميع أجناد الشام في كثرة أنهارها وعمارتها ونهرها الأعظم يقال له: [بردى]. افتتحت مدينة دمشق في خلافة عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة افتتحها أبو عبيدة بن الجراح من باب لها يقال له: باب الجابية صلحا بعد حصار سنة ودخل خالد بن الوليد من باب لها يقال له: باب الشرقي بغير صلح فأجاز أبو عبيدة الصلح في جميعها وكتبوا إلى عمر بن الخطاب فأجاز ما عمل به أبو عبيدة. وكانت دمشق منازل ملوك غسان وبها آثار لآل جفنة ، والأغلب على مدينة دمشق أهل اليمن وبها قوم من قيس ومنازل بني أمية وقصورهم أكثر منازلها وبها خضراء معاوية وهي دار الإمارة، ومسجدها الذي ليس في الإسلام أحسن منه بالرخام والذهب بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان في خلافته. ولجند دمشق من الكور الغوطة وأهلها غسان وبطون من قيس وبها قوم من ربيعة وحوران، ومدينتها بصرى وأهلها قوم من قيس من بني مرة خلا السويدا فإن بها قوما من كلب. والبثينة ومدينتها أذرعات وأهلها قوم من يمن ومن قيس، والظاهر ومدينتها عمان، والغور ومدينتها ريحا وهاتان المدينتان أرض البلقاء وأهلها قوم من قيس وبها جماعة من قريش. وجبال ومدينتها عرندل وأهلها قوم من غسان ومن بلقين وغيرهم، ومآب، وزغر وأهلها أخلاط من الناس وبها القرية المعروفة بموتة التي قتل فيها جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة بن عبد الله بن رواحة، والشراة ومدينتها أذرح وأهلها موالي بني هاشم وبها الحميمة منازل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وولده. والجولان ومدينتها بانياس وأهلها قوم من قيس أكثرهم بنو مرة وبها نفر من أهل اليمن وجبل سنير وأهلها بنو ضبة وبها قوم من كلب، وبعلبك وأهلها قوم من الفرس وفي أطرافها قوم من اليمن، وجبل الجليل وأهلها قوم من عاملة، ولبنان صيدا وبها قوم من قريش ومن اليمن. ولجند دمشق من الكور على الساحل كورة عرفة ولها مدينة قديمة فيها قوم من الفرس ناقلة وبها قوم من ربيعة من بني حنيفة، ومدينة أطرابلس وأهلها قوم من الفرس كان معاوية بن أبي سفيان نقلهم إليها ولهم ميناء عجيب يحتمل ألف مركب، وجبيل وصيدا وبيروت. وأهل هذه الكور كلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان، وكل كور دمشق افتتحها أبو عبيدة بن الجراح في خلافة عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة وخراج دمشق سوى الضياع يبلغ ثلاثمائة دينار. جند الأردن ومن مدينة دمشق إلى جند الأردن أربع مراحل، أولها جاسم من عمل دمشق، وخسفين من عمل دمشق، وفيق ذات العقبة المذكورة ومنها إلى مدينة طبرية وهي مدينة الأردن، وهي في أسفل جبل على بحيرة جليلة يخرج منها نهر الأردن المشهور وفي مدينة طبرية مياه تنبع حارة تفور في الصيف والشتاء ولا تنقطع فتدخل المياه الحارة إلى حماماتهم ولا يحتاجون لها إلى وقود وأهل مدينة طبرية قوم من الأشعريين هم الغالبون عليها. ولجند الأردن من الكور صور وهي مدينة السواحل وبها دار الصناعة ومنها تخرج مراكب السلطان لغزو الروم وهي حصينة جليلة وأهلها أخلاط من الناس. ومدينة عكا وهي من السواحل، وقدس وهي من أجل كوره، وببسان وفحل وجرش والسواد. وأهل هذه الكور أخلاط من العرب والهجم افتتحت كور الأردن في خلافة عمر بن الخطاب افتتحها أبو عبيدة بن الجراح خلا مدينة طبرية فإن أهلها صالحوه، وغيرها من كور جند الأردن افتتحها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من قبل أبي عبيدة بن الجراح سنة أربع عشرة. وخراج جند الأردن يبلغ سوى الضياع مائة ألف دينار. جند فلسطين ومن جند الأردن إلى جند فلسطين ثلاث مراحل، ومدينة فلسطين القديمة كانت مدينة يقال لها: لدّ، فلما ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة ابتنى مدينة الرملة وخرب مدينة لدّ ونقل أهل له إلى الرملة. الرملة مدينة فلسطين ولها نهر صغير منه شرب أهلها، ونهر أبي فطرس منها على اثني عشر ميلا. وشرب أهل الرملة من ماء الآبار ومن صهاريج يجري فيها ماء المطر وأهل المدينة أخلاط من الناس من العرب والعجم وذمتها سامرة. ولفلسطين من الكور: كورة إيليا وهي بيت المقدس وبها آثار الأنبياء عليهم السّلام، وكورة لدّ ومدينتها قائمة بحالها إلا أنها خراب، وعمواس ، ونابلس وهي مدينة قديمة فيها الجبلان المقدسان وتحت المدينة مدينة منقورة في حجر وبها أخلاط من العرب والعجم والسامرة وسبسطية وهي مضافة إلى نابلس وقيسارية وهي مدينة على ساحل البحر كانت من أمنع مدن فلسطين وهي آخر ما افتتح من مدن البلد افتتحها معاوية ابن أبي سفيان في خلافة عمر بن الخطاب، وبينا وهي مدينة قديمة على قلعة وهي التي يروى أن أسامة بن زيد قال أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما وجهني فقال: «اغد على يبنا صباحا ثم حرق». وأهل هذه المدينة قوم من السامرة، ويافا وهي على ساحل البحر إليها ينفر أهل الرملة. وكورة بيت جبرين وهي مدينة قديمة وأهلها قوم من جذام وبها البحيرة الميتة التي تخرج الحمرة وهي الموميا. ومدينة عسقلان على ساحل البحر، ومدينة غزة على ساحل البحر وهي رأس الإقليم الثالث وبها قبر هاشم بن عبد مناف. وأهل جند فلسطين أخلاط من العرب والعجم ومن لخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة. افتتحت أرض فلسطين سنة ست عشرة بعد طول محاصرة حتى خرج عمر بن الخطاب فصالح أهل كورة إيليا وهي بيت المقدس، وقالوا: لا نصالح إلا الخليفة، فسار إليهم حتى صالحهم. وافتتحت أكثر كور فلسطين خلا قيسارية فحلف عليها أبو عبيدة بن الجراح معاوية بن أبي سفيان فافتتحها سنة ثمان عشرة. ومبلغ خراج جند فلسطين مع ما صار في الضياع يبلغ ثلاثمائة ألف دينار. ومن أراد أن يسلك من الشام على فلسطين إلى مكة سلك جبالا خشنة حزنة حتى يصير إلى إيلة، ثم إلى مدين، ثم يستمر به الطريق مع أهل مصر والمغرب.

[البلدان لليعقوبي]