الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2) آداب وصفات وفقه الإنكار

عناصر الخطبة

  1. منزلة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
  2. آداب وصفات ينبغي أن يتحلى بها المحتسبون
  3. فقه الإنكار
اقتباس

وليس الأمرُ والنهيُ مجردَ أداء، أو تخفُّفاً من المسؤولية كيفما اتفق؛ بل هو دعوةٌ للخير والحقّ، وشفقةٌ على الخلق، وعلاجٌ للمنكرات بأفضل الطرق وأحسن الخُلق. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: والرفقُ سبيلُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا قيل: ليكن أمرُك بالمعروف ونهيُك عن المنكر غيرَ منكَر ..

إخوة الإسلام: سبق في الخطبة الماضية بيانُ شيءٍ من فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنزلتِه في الإسلام، وأستكمل اليوم شيئاً من هذه الفضائل، وأبسطُ القول في الآداب التي ينبغي وجودُها في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصفات المناسب توفرها في الآمر والناهي، حتى يعمَّ الخيرُ والمعروف، ويتقلص الشرُّ والمنكر.

ولكني أستهلُّ ذلك بكلام جميل لابن القيم -رحمه الله- بيّن فيه منزلة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وعَرّض بالذين لا يرفعون به رأساً وإن كانوا من ذوي الديانة، فقال: وقد غرّ إبليسُ أكثر الخلقِ بأنْ حسَّن لهم القيام بنوع من الذكرِ والقراءةِ والصلاة والصيام والزهد في الدنيا، والانقطاع، وعطّلوا هذه العبوديات -يعني عبودية نشر السنة على العلماء، وإقامة الحقِّ وتنفيذه على الحكام، وأداء الحقوقِ المالية على الأغنياء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القادرين عليه-.

يقول: فلم يُحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياءِ من أقلِّ الناس ديناً؛ فإن الدين هو القيامُ لله بما أمر به، ومَن له خبرةٌ بما بعث اللهُ به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبما كان عليه هو وأصحابهُ رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدِّين هم أقلّ الناس ديناً! والله المستعان!.

وأيُّ دينٍ، وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدودَه تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يُرغب عنها وهو باردُ القلبِ ساكت اللسان؟ شيطانٌ أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليةُ الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلُهم ورياساتُهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارُهم المتحزّن المتلمِّظ!.

ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء -مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم- قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليَّةٍ تكونُ وهم لا يشعرون، وهو موتُ القلوب، فإن القلب كلما كانت حياتُه أتمَّ كان غضبُه لله ورسوله أقوى، وانتصارُه للدين أكمل. اهـ.

عباد الله: وكيف لا يعلو شأنُ الأمرِ بالمعروف، وترتفعُ منزلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله -سبحانه وتعالى- جعله شرطاً للتمكين في الأرض، وجعل القائمين به أهلاً للتمكين، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج:41].

ترى ما مدى العناية بهذه الشعيرة في المناهج الدعوية القائمة؟ وما نصيبُ المحسوبين على الدعوة من المساهمة والقيامِ بهذا الواجب العظيم؟.

على أنَّ مما ينبغي أنْ يُدرك أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد عاطفةٍ تثور ثم تخبو، ولا مجرد حماسٍ طارئٍ لمنكر ولفترة معينة ثم يُنسى؛ بل الأمر جدٌّ وجهاد، ومواصلةٌ واحتساب، وطولُ نفَسٍ، وتفكيرٌ في المنكر وجذوره، وكيف يُستصلح والبديلُ عنه، إلى غير ذلك من أمور تتطلب الحديث عن صفاتٍ يحتاجها الآمر الناهي، وآدابٍ وفقهٍ تجعل من الأمر بالمعروف دعوةً للناس بالحسنى، وبها ينحسر المنكر، ويتوارى أهلُه خجلاً وحياءً.

أيها المسلمون: ومن أبرز هذه الصفات والآداب: العلم، فلا بد أن يكون الآمر والناهي عالماً بما يأمر به وما ينهى عنه. قال الشيرازي: فالحسَنُ ما حسَّنه الشرع، والقبيحُ ما قبّحه الشرع، ولا مدخل للعقول في معرفة المعروفِ والمنكر إلا بكتاب الله -عز وجل-، وسنةِ نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ورُبَّ جاهلٍ يستحسن بعقله ما قبّحه الشرعُ، ويرتكب المحظور وهو غيرُ عالمٍ به.

ويقول الغزالي: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليَّاتِ المعلومة كشرب الخمر، والزنا، وترك الصلاة؛ فأما ما يُعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال، ويفتقرُ فيه إلى الاجتهاد، فالعاميُّ إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. اهـ.

والإخلاصُ إلى جنب العلم صفةٌ -بل شرط- للآمر، وموجبٌ للقبول، فلا يأمر وينهى ليُحتسب في الآمرين، أو ليصل بذلك إلى مالٍ أو مرتبةٍ أو جاه، أو نحو ذلك من أعراض الدنيا الزائلة؛ وكذا الانتصار للنفس مُذهِبٌ للإخلاص، عن أرطأة بن المنذر، قال: المؤمن لا ينتصر لنفسه، يمنعه من ذلك القرآن والسنة، فهو ملجم.

والصبرُ سلاحٌ لا ينفك عنه الآمرُ والناهي، فلا بد أن يناله من أذى الناس وسخريتهم وصدودهم ما يحتاج معه إلى صبر يوطّنه على مواصلة الطريق، محتسباً أجره على الله. ومن وصايا لقمان لابنه: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان:17].

قال العارفون: من وطَّن نفسه على الأذى، وأيقن بثواب الله لم يجد مسَّ الأذى. وحسبك بتوجيه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- معلماً: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل:127].

والرفقُ ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه، كذا نقول جميعاً ونعتقد، ولكن الناس متفاوتون في تطبيقه، فمنهم من لا يملكُ أصحابُ المنكر إلا الاستجابة العاجلة له لحسن أسلوبه ورفقه وحلمه، ومنهم من يزيدُ النار اشتعالاً بشدته وفظاظة أسلوبه.

وليس الأمرُ والنهيُ مجردَ أداء، أو تخففاً من المسؤولية كيفما اتفق؛ بل هو دعوةٌ للخير والحق، وشفقةٌ على الخلق، وعلاجٌ للمنكرات بأفضل الطرق وأحسن الخُلق، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: والرفقُ سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا قيل: ليكن أمرُك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر.

ومع أهمية الرفق وكونه الأصل، فينبغي أن يعلم كذلك أن الحاجة قد تدعو للعنف والشدة أحياناً، وذلك بحسب المنكَرِ وصاحبه، قال الحليمي: وينبغي أن يكون الآمرُ بالمعروف مُميّزاً، يرفق في مواضع الرفق، ويعنف في مواضع العنف، ويكلم كلَّ طبقةٍ بما يعلم أنه أليق بهم، وأنجع فيهم، وكما لا ينبغي لمن يقومُ بهذا الأمر أن يعنف في مواضع الرفق، فكذلك لا ينبغي له أن يرفق في مواضع التعنيف، لئلا يُستخف قدرُه، ويُعصى أمره.

ومن الفقه في الإنكار أن يجتهد المنكرُ ألَّا يترتب على المنكرِ منكرٌ آخر قد يكون أكبرَ أو أوسع انتشاراً من المنكر الأول، فما تحقق بذلك الهدف، ولا انتهى صاحبُ المنكر، ولا سلم غيرُه من آثارِ منكره؛ ومن هذا الفقهِ كان شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يُفتي بعدم الإنكار على التتار لشربهم الخمر؛ لأنهم إذا أفاقوا واستقامت لهم عقولهم التفتوا إلى المسلمين يقتلون ويفسدون.

والمداراة من أخلاق المؤمنين، وهي تلطُّفٌ في العبارة، واجتهادٌ في الأسلوب، لا تصل إلى المداهنة المنهي عنها، بل يُراعى في المداراة أحوال الناس ومنازلهم، وتقال لذوي الهيئات عثراتُهم، ويُكتفى بالتعريض أحياناً دون التبكيت، وبالتلميح دون التصريح، وهكذا يوصل إلى النفوس من أقرب الطرق إليها، إلا أن يكون صاحبُ المنكر مجاهراً خبيثاً، فلا بد من فضحه وتحذير الناس من شرِّه، لأنهم قالوا: ليس لفاسق حرمة.

إخوة الإسلام: والتدرج بالناس على طريق الخير، واستلالُ الشرِّ من نفوسهم -وإن طال الزمن- أدبٌ وأسلوب مارسه الصالحون، وأفلحوا. وهذا عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز –رحمهما الله- يقول لأبيه: يا أبت! ما يمنعُك أن تمضي لما تريده من العدل؟! فوا الله ما كنتُ أبالي لو غَلت بي وبك القدورُ في ذلك، قال: يا بُني، إني إنما أُروِّض الناس رياضة الصَّعب، إني أريد أن أُحيي الأمر مع العدلِ فأؤخر ذلك حتى أُخرِجَ معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه.

ومن الفقه في الإنكار مراعاةُ ما يتعلق به الناسُ من أمور الدنيا، وعدمُ مصادمتهم، إذا لم يقعوا في الحرام، بل إن من التدرج بهم للخير بسطُ شيءٍ من الدنيا لهم، وإن كان الآمرُ زاهداً فيها، وهذا عمرُ بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول: ما طاوعني الناسُ على ما أردتُ من الحقِّ حتى بسطتُ لهم من الدنيا شيئاً.

عباد الله: وبالجملة؛ فالآمِر ينبغي أن يكون طبيباً ماهراً يوازن بين الأمور في حال الإنكار أو السكوت، وكان العلماءُ يوازون بين سوء الأسلوب في الأمر والنهي، وبين السكوت على المنكرات، وينهون عن كليهما.

يقول أحدُهم: فإيذاء المسلمِ محذورٌ، كما أن تقديره على المنكر محذور، وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو البول، ومن اجتنب محذور السكوتِ على المنكر، واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه، فقد غسل الدم بالبول على التحقيق.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19)﴾ [لقمان:17-19].

الخطبة الثانية:

الحمد لله أهل الفضل والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب المحسنين، ويجزي العاملين المخلصين، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، قدوةُ المجاهدين، وخيرةُ الآمرين والناهين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين.

أيها المسلمون: ويغفل بعضُ الناس عن جانب مهمٍ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ألا وهو إيجاد البديل عن المنكر، فالنفسُ قد تكون متعلقةً بهذا المنكر إلى حدٍّ تتوقع معه أنها لا يمكن أن تنفك عنه، ولكنَّ عرضَ البديل المشروع قد يساعد على التخفف من المنكر، ويروِّض النفس على المشروع، وهذا منهج رباني، وأسلوب نبوي، ففي القرآن من مثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ [البقرة:104].

وقال تعالى في سبيل معالجة قوم لوط عن اللواط، وعرض البديل المشروع: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)﴾ [الشعراء:165-166].

وقد مارس السلفُ هذا الأسلوب في الإنكار فنجحوا، وفي (صحيح البخاري): أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: إني إنسانٌ إنما معيشتي من صنعةِ يدي، وإني أصنعُ هذه التصاوير. فقال ابنُ عباس: لا أحدثك إلا ما سمعتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمعتُه يقول: "مَن صوّر صورةً فإن الله معذّبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً"، فربا الرجالُ ربوةً شديدة -أي: انتفخ- واصفرّ وجهُه، فقال له ابن عباس: "ويحك! إن أبيتَ إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، وكلِّ شيء ليس فيه روح". رواه البخاري.

واستمر سوقُ الأمر والنهي مع إيجاد البديل في أمة الإسلام عبر القرون، وفي حوادث سنة ثمانين وسبع مئة، ذكر صاحبُ (أنباءِ الغمر) أن رجلاً من أهل الصلاح يُقال له (عبد الله الزيلعي) توجه إلى الجيزة فبات بقرب (أبي النمرس) فسمع حسَّ الناقوس، فسأل عنه، فقيل له: إن بها كنيسة يُعمل فيها ذلك كلَّ ليلة، حتى ليلةِ الجمعة، وفي يومها والإمام يخطب على المنبر! فسعى عند جمال الدين المحتسب في هدمها، فقام في ذلك قياماً تاماً إلى أن هدمها وصيَّرها مسجداً.

وهذا الأمرُ -مع أهميته- يرد التقصيرُ فيه، وذلك لأنه يحتاج إلى علمٍ وعمل وهمّة وتفكير، وقد عُني به شيخُ الإسلام وبيَّن تقصير الناس فيه، ومما قاله في ذلك: وكثيرٌ من المنكرين للبدع في العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به… بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا يُنهى عن منكرٍ إلا ويُؤمر بمعروف يُغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله -سبحانه وتعالى-، ويُنهى عن عبادة ما سواه.

عباد الله: كما يُغفل أحياناً -في سبيل إنكار المنكرِ ونصح صاحبه- البدء بذكر محاسنه التي تفتح الطريق لاستقبال النصح فيما بعد، وفي القرآن الكريم: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة:219].

وهكذا؛ فإذا كان لصاحب المنكر حسناتٌ، فابدأ بالثناء عليها وشكره على القيام بها، ثم اعطف على المنكر وضعه نشازاً في سياقها، وخوِّفه أن يكون هذا المنكرُ سبباً لذهاب أجرها، ونقله من قائمة الأخيار إلى الأشرار.

وهكذا يكون التدرج في الأمر والنهي والعدل في الذم والمدح، والإنصاف بذكر الحسنات والسيئات، واحذر أيها الآمر والناهي ألا تقع عينُك إلا على المستقبحات وتتناسى الحسنات؛ فهن ماحيات. ذلك ذكرى للذاكرين.

يا أخا الإسلام: وحذاري أن تُعدم الغيرة لدين الله، وألَّا يتمعَّر وجهُك حين ترى منكَراً، فإن كنتَ قادراً على إزالته -بالطريق المشروع- فأزله، وإن كنت غير قادر، فأخبر من تراه قادراً على الإنكار، وليكن احتسابُك -إذا لم تستطع بنفسك- بطريقين، الأول: إبلاغ القادرين. والثاني: مشاركتُهم في الإنكار، وهو ما يمكن أن يسمى (بالإنكار الجماعي)، ولو أن أصحاب المنكرات وجدوا على منكراتهم استنكاراً جماعياً لهابوا المنكرين، واستوحشوا لمنكراتهم، ثم أقلعوا عنها.

وفي مقابل هذه الإيجابية في الإنكار، حذار من السلبية القائمة على النقد والتجريح للآمرين دون مساهمة في الأمر، أو تقديم البديل الصالح، وما من أحدٍ إلا وهو عرضةٌ للخطأ إلا من عصم الله، ولكن إصلاح الأخطاء لا يكون فاكهة المجالس، وفرق بين من يكون هدفُه المساهمة في الإصلاح، والنقد البناء، وبين من ينتهي بهم النقدُ إلى انتهاك الأعراض، وأكل لحوم الناس، دون أيِّ مساهمة في التغيير.

أيها المسلمون عامة، أيها الآمرون خاصة: وحذار أن يقعد بكم لومُ الناس وتثبيطُ المرجفين منهم عن القيام بواجب الأمر والنهي إذا اجتهدتم وسعكم وأخلصتم في أعمالِكم، فذلك أمرٌ سيواجهكم، كما واجه مَن قبلكم، إذ لا تنفك الحسبة عن ذلك، ولا يسلم الدعاةُ من الأذى.

يقول القرطبي -رحمه الله-:" أجمع المسلمون، فيما ذكر ابنُ عبد البر -رحمه الله-؛ أن المنكر واجب تغييرُه على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللومُ الذي لا يتعدَّى إلى الأذى، فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعه من تغييره".

ويقول الغزالي: لو تُركتِ الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلةِ عن قلب أمثاله، لم يكن للحسبة وجوبٌ أصلاً، إذ لا تنفك الحسبةُ عنه.

هذه -معاشر المسلمين- بعضُ وقفات وآداب وصفات وشيء من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثمة أساليبُ وشبهات وعقوبات على ترك الأمر والنهي أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.

أسأل الله أن ينفعنا بما نعلم ونسمع، وأن يهيّئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يعز دينه، وينصر أولياءه، ويذل أعداءه.

بطاقة المادة

المؤلف سليمان بن حمد العودة
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية