البحث

عبارات مقترحة:

المهيمن

كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

الْوَرَعُ


من معجم المصطلحات الشرعية

اجتناب المشتبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات . ومن شواهده حديث حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْه : عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم - قال : "فضل العلم أحبُّ إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع ." الحاكم :314


انظر : المقدمات الممهدات لابن رشد، 3/392، العناية شرح الهداية للبابرتي، 1/349، حاشيتا قليوبي وعميرة، 3/344، مجموع الفتاوى لابن تيمية، 20/137

تعريفات أخرى

  • الكف عن كثير من المباحات، وملازمة الأعمال الجليلة، وترك التسرع إلى تناول الأغراض الدنيوية، والأخذ بالأوثق، وحمل النّفس على الأشق . ومن شواهده قوله تعالى : ﱫﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﱪ الفرقان :64

من موسوعة المصطلحات الإسلامية

التعريف اللغوي

الكَفُّ والانْقِبَاضُ، يُقَالُ: وَرِعَ يَرِعُ وَرَعًا وَرِعَةً أَيْ كَفَّ، وَالتَّوْرِيعُ: مَنْعُ الغَيْرِ وَدَفْعُهُ عَنِ الشَّيْءِ، تَقُولُ: وَرَّعَ الغَنَمَ عَنِ المَاءِ إِذَا مَنَعَهَا عَنْهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الضَّعِيفُ الجَبَانُ وَرِعًا؛ لِتَرْكِهِ التَّقَدُّمَ ، وَالجَمْعُ: أَوْراعٌ، وَمِنْ مَعَانِي الوَرَعِ أَيْضًا: الوِقَايَةُ والتَحَرُّجُ.

إطلاقات المصطلح

يَذْكُرُ الفُقَهَاءُ مُصْطَلَحَ الوَرَعِ فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَة ٍمِنْهَا: كِتَابُ الصَّلاَةِ فِي بَابِ شُرُوطِ الإِمَامِ، وَكِتَابُ الأَطْعِمَةِ فِي بَابِ الأَطْعِمَةِ المُحَرَّمَةِ، وَكِتَابُ الأَيْمَانِ فِي بَابِ الحِنْثِ فِي اليَمِينِ، وَكِتَابِ القَضَاءِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ، وَغَيْرُهَا.

جذر الكلمة

وَرِعَ

التعريف

اجتناب المشتبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات.

المراجع

* معجم مقاييس اللغة : (100/6)
* تاج العروس : (313/22)
* معجم مقاييس اللغة : (6 /100)
* التعريفات للجرجاني : (ص252)
* مدارج السالكين : (10/2)
* الكليات : ص944 - مجموع فتاوى ابن تيمية : 10 /511 - الفوائد : ص118 - مجموع فتاوى ابن تيمية : 10 /512 -

من الموسوعة الكويتية

التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْوَرَعُ لُغَةً: الْكَفُّ، مِنْ وَرِعَ يَرِعُ وَرْعًا وَوَرَعًا وَرِعَةً: تَحَرَّجَ وَتَوَقَّى عَنِ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْكَفِّ عَنِ الْحَلاَل الْمُبَاحِ، فَهُوَ وَرِعٌ (1) .
وَالْوَرَعُ فِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْوَرَعُ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ، وَقَال مِثْلَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَال الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ: الأَْوْرَعُ: التَّارِكُ لِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَالْوَرِعُ: التَّارِكُ لِلشُّبُهَاتِ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ (2) .
وَأَدْخَل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقَيِّمِ، فِي الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ لِلْوَرَعِ: تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَعْلُومِ تَحْرِيمُهَا، خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمًا لَهُ (3) . وَقَال عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْوَرَعُ تَرْكُ مَا يُرِيبُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَا لاَ يُرِيبُهُ، قَال: وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالاِحْتِيَاطِ (4) .
وَوَسَّعَ الْقَرَافِيُّ مَدْلُول الْوَرَعِ، فَأَدْخَل فِيهِ الْفِعْل إِلَى جَانِبِ التَّرْكِ. وَقَال: الْوَرَعُ تَرْكُ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ (5) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أـ التَّقْوَى:
2 ـ التَّقْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الاِتِّقَاءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الاِحْتِرَازُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَنْ عُقُوبَتِهِ، وَالتَّقْوَى فِي الطَّاعَةِ يُرَادُ بِهَا الإِْخْلاَصُ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ يُرَادُ بِهَا التَّرْكُ وَالْحَذَرُ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى: أَنَّ الْوَرَعَ أَخَصُّ مِنَ التَّقْوَى. وَلِهَذَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَلْزَمُ مِنَ الْوَرَعِ التَّقْوَى، بِلاَ عَكْسٍ (6) . ب ـ الزُّهْدُ:
3 ـ الزُّهْدُ لُغَةً: مَصْدَرُ زَهِدَ فِي الشَّيْءِ، وَزَهِدَ عَنْهُ: أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ لاِحْتِقَارِهِ أَوْ لِتَحَرُّجِهِ مِنْهُ، أَوْ لِقِلَّتِهِ، وَيُقَال: زَهِدَ فِي الدُّنْيَا: تَرَكَ حَلاَلَهَا مَخَافَةَ حِسَابِهِ، وَتَرَكَ حَرَامَهَا مَخَافَةَ عِقَابِهِ (7) .
وَاصْطِلاَحًا: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الزُّهْدُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الْحَلاَل خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ (8) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الزُّهْدُ تَرْكُ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ وَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْوَرَعِ، إِذْ هُوَ فِي الْحَلاَل، وَالْوَرَعُ فِي الشُّبْهَةِ (9) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: الزُّهْدُ عَدَمُ احْتِفَال الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا وَالأَْمْوَال وَإِنْ كَانَتْ فِي الْيَدِ، فَقَدْ يَكُونُ الْغَنِيُّ زَاهِدًا وَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ غَيْرَ زَاهِدٍ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَعِ بِأَنَّ الزُّهْدَ فِي الْقَلْبِ، وَالْوَرَعَ مِنْ أَفْعَال الْجَوَارِحِ (10) .

ج ـ الاِحْتِيَاطُ
4 ـ الاِحْتِيَاطُ: فِي اللُّغَةِ: الأَْخْذُ بِالأَْوْثَقِ وَالأَْحْزَمِ (11) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حِفْظُ النَّفْسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَآثِمِ (12) .
وَالاِحْتِيَاطُ أَعَمُّ مِنَ الْوَرَعِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْوَرَعِ:
5 ـ قَال الْقَرَافِيُّ: الْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ (13) لِقَوْل النَّبِيِّ ـ ﷺ ـ: إِنَّ الْحَلاَل بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ (14) .

مَوَاقِعُ الْوَرَعِ:
6 ـ يَكُونُ الْوَرَعُ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ فِي حُكْمِ الشَّيْءِ مِنْ حِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ:
ـ إِمَّا لِخَفَاءِ الدَّلِيل الشَّرْعِيِّ، أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ وَتَكَافُئِهَا. ـ وَإِمَّا لِلشَّكِّ فِي وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ أَوِ الْمُحَلِّل.
ـ وَإِمَّا لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلاَفِ.

أـ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ لِخَفَاءِ الدَّلِيل أَوْ لِتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ:
7 ـ الأُْمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِيهَا لاِشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ، فَهَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ هُوَ الَّذِي شُرِعَ لَهُ أَنْ يَتَّقِيَ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ لِقَوْل النَّبِيِّ ـ ﷺ ـ: إِنَّ الْحَلاَل بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ (15) .
وَمَعْنَى اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ أَيْ مِنَ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ. وَقَوْلُهُ ـ ﷺ ـ: وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ يَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ إِذَا فَعَل الْمُشْتَبِهَ الَّذِي يَشُكُّ فِي كَوْنِهِ حَرَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَتَجَاسَرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّسَامُحِ عَلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ، فَيَقَعُ فِيهِ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، لِمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ: فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِْثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِْثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، وَمَنْ يَرْتَعْ حَوْل الْحِمَى يُوشِكْ أَنْ يُوَاقِعَهُ (16) .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، فَقَدْ يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَهُوَ لاَ يَدْرِي أَنَّهُ حَرَامٌ. فَشُرِعَ لَهُ تَرْكُ الْمُشْتَبِهِ تَحَرُّزًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَأْثَمِ الْمُحْتَمَل (17) .
وَمِثَال التَّوَرُّعِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ الْحَاصِل مِنْ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ بَيْنَ الْحِل وَالْحُرْمَةِ: التَّوَرُّعُ عَنْ أَكْل طَعَامِ الصَّدِيقِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِتَعَارُضِ حَدِيثِ: لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ مِنْ طِيبِ نَفْسٍ (18) مَعَ ظَاهِرِ الآْيَةِ: {لَيْسَ عَلَى الأَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ (19) } .

ب ـ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ:
8 ـ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّوَرُّعِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَفِيهِ: " أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، قَال: فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَال: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ ﷺ ـ فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَال: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَال: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ فَنَهَاهُ عَنْهَا (20) . حَمَل الْحَنَابِلَةُ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لاَ يَثْبُتُ بِقَوْل الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ. قَال الْخَطَّابِيُّ: وَقَوْلُهُ: " دَعْهَا عَنْكَ " (21) إِشَارَةٌ مِنَ النَّبِيِّ ـ ﷺ ـ بِالْكَفِّ عَنْهَا عَنْ طَرِيقِ الْوَرَعِ، لاَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلاَلَةٌ عَلَى وُجُوبِ قَبُول قَوْل الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي هَذَا (22) .
وَكَذَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ كَانَ لِلتَّوَرُّعِ، لأَِنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الإِْخْبَارِ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ لأََجَابَهُ مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ، إِذِ الإِْعْرَاضُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّائِل الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا عَلَى الْمُحَرَّمِ (23) .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ أَنَّ عُمَرَ ﵄ قَال فِي مِثْل هَذِهِ الْوَاقِعَةِ: " فَرِّقْ بَيْنَهُمَا إِنْ جَاءَتْ بَيِّنَةٌ، وَإِلاَّ فَخَل بَيْنَ الرَّجُل وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَتَنَزَّهَا، وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمْ تَشَأِ امْرَأَةٌ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ فَعَلَتْ (24) " فَقَوْلُهُ: " إِلاَّ أَنْ يَتَنَزَّهَا " هُوَ مَعْنَى التَّوَرُّعِ.
وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّكِّ سَوَاءٌ طَرَأَ الشَّكُّ عَلَى أَصْلٍ حَرَامٍ، أَمْ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّكُّ مُجْمَعًا عَلَى اعْتِبَارِهِ، أَمْ مُجْمَعًا عَلَى إِلْغَائِهِ، أَمْ مُخْتَلَفًا فِي اعْتِبَارِهِ وَإِلْغَائِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الشَّكُّ فِي الرُّكْنِ أَمْ فِي السَّبَبِ أَمْ فِي الشَّرْطِ أَمْ فِي الْمَانِعِ فِي مُصْطَلَحِ (شَكّ) .

ج ـ التَّوَرُّعُ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلاَفِ:
9 ـ قَال الْقَرَافِيُّ: مِنَ الْوَرَعِ الْخُرُوجِ عَنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الإِْمْكَانِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَل هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْل مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: هَل هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْل، حَذَرًا مِنَ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْل الْمَكْرُوهِ لاَ يَضُرُّهُ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا هَل هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لاَ فَالْوَرَعُ الْفِعْل، لأَِنَّ الْقَائِل بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لأَِمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَذَلِكَ كَاخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، فَمَالِكٌ يَقُول: لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُول: هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَوَاجِبَةٌ، فَالْوَرَعُ الْفِعْل لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إِثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَكَالْبَسْمَلَةِ قَال مَالِكٌ: هِيَ فِي الصَّلاَةِ مَكْرُوهَةٌ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ، فَالْوَرَعُ الْفِعْللِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ.
فَإِنِ اخْتَلَفُوا هَل حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُل تَقْدِيرٍ، فَلاَ وَرَعَ إِلاَّ أَنْ نَقُول: إِنَّ الْمُحَرَّمَ إِذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ، لأَِنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُول الْمَصَالِحِ، وَهُوَ الأَْنْظَرُ، فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَاهُنَا، فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا: هَل هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلاَ وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ، وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ.
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَال تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ، وَهَذَا مَعَ تَقَارُبِ الأَْدِلَّةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيل جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنِ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً. (25)
وَقَال ابْنُ الشَّاطِّ: إِنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلاَفِ لاَ يَكُونُ وَرَعًا، لأَِنَّ الْوَرَعَ إِنَّمَا هُوَ لِخَوْفِ الْعِقَابِ وَتَوَقُّعِهِ. قَال: وَأَيُّ عِقَابٍ فِي ذَلِكَ؟ سَوَاءٌ قُلْنَا بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا، أَوْ قُلْنَا بِتَخْطِئَةِ أَحَدِهِمَا، فَالإِْجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ، وَالْمُجْتَهِدُ مَمْنُوعٌ مِنَ الأَْخْذِ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ، فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلاَفَ نَظَرِهِ، وَالْمُقَلِّدُ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلاَفَ نَظَرِ مُقَلَّدِهِ (26) .
وَاسْتَشْكَل الشَّاطِبِيُّ أَيْضًا جَعْل الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ وَرَعًا. قَال: لأَِنَّ أَكْثَرَ مَسَائِل الشَّرِيعَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَيُؤَوَّل إِلَى أَنْ تَكُونَ أَكْثَرُ مَسَائِل الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْوَرَعُ مِنْ أَشَدِّ الْحَرَجِ، إِذْ لاَ تَخْلُو لأَِحَدٍ عِبَادَةٌ أَوْ مُعَامَلَةٌ أَوْ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ التَّكْلِيفِ مِنْ خِلاَفٍ يُطْلَبُ الْخُرُوجُ مِنْهُ. قَال: وَفِي هَذَا مَا فِيهِ (27) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (اخْتِلاَف ف 21 ـ 25) .

مَدَاخِل الْغَلَطِ فِي الْوَرَعِ:
10 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الْوَرَعِ مِنْ ثَلاَثِ جِهَاتٍ:

الأُْولَى: اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْوَرَعَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي تَرْكِ الْحَرَامِ، لاَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنِ الْكَلِمَةِ الْكَاذِبَةِ، وَعَنِ الدِّرْهَمِ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَمَعَ هَذَا يَتْرُكُ أُمُورًا وَاجِبَةً عَلَيْهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَحَقِّ جَارٍ وَمِسْكِينٍ وَابْنِ سَبِيلٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، قَال: وَهَذَا الْوَرَعُ قَدْ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ (28) .
وَقَال ابْنُ رَجَبٍ: هَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ التَّدْقِيقَ فِي التَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنِ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ كُلُّهَا، وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، فَأَمَّا مَنْ يَقَعُ فِي انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقِ الشُّبَهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحْتَمَل لَهُ ذَلِكَ، بَل يُنْكَرُ عَلَيْهِ (29) كَمَا " قَال ابْنُ عُمَرَ ﵄ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْل الْعِرَاقِ سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ: يَسْأَلُونَنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ ﷺ ـ يَقُول: هُمَا ـ أَيِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ـ رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا (30) .

الثَّانِيَةُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَنْفِرُ نَفْسُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، لِعَادَةٍ وَنَحْوِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي تَحْرِيمَهَا فِي نَظَرِهِ وَاشْتِبَاهَهَا عِنْدَهُ، وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ فِي أَوْهَامٍ وَظُنُونٍ كَاذِبَةٍ، مَبْنَاهَا عَلَى الْوَرَعِ الْفَاسِدِ، كَحَال أَهْل الْوَسْوَسَةِ فِي النَّجَاسَاتِ، وَوَرَعِ قَوْمٍ يَعُدُّونَ غَالِبَ أَمْوَال النَّاسِ أَوْ كُلَّهَا مُحَرَّمَةً أَوْ مُشْتَبِهَةً، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْمُتَدَيِّنُ الْمُتَوَرِّعُ إِلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَإِلاَّ فَقَدْ يُفْسِدُ تَوَرُّعُهُ الْفَاسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ (31) .

الثَّالِثَةُ: جِهَةُ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ جِهَةُ فَسَادِهِ يَقْتَضِي تَرْكَهُ فَيَلْحَظُهُ الْمُتَوَرِّعُ، وَلاَ يَلْحَظُ مَا يُعَارِضُهُ مِنَ الصَّلاَحِ الرَّاجِحِ، وَبِالْعَكْسِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ جَعَل الْوَرَعَ التَّرْكَ فَقَطْ، وَأَدْخَل فِي هَذَا الْوَرَعِ أَفْعَال قَوْمٍ ذَوِي مَقَاصِدَ صَالِحَةٍ بِلاَ بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِهِمْ، وَأَعْرَضَ عَمَّا فَوَّتُوهُ بِوَرَعِهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ، فَإِنَّ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ أَعْظَمُ مِمَّا أَدْرَكَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعِيبُ أَقْوَامًا هُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ أَقْرَبُ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَنْفَعَتُهَا لِهَذَا الضَّرْبِ وَأَمْثَالِهِ كَثِيرَةٌ: فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا أَهْل الْوَرَعِ النَّاقِصِ أَوِ الْفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ أَهْل الزُّهْدِ النَّاقِصِ أَوِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّ الزُّهْدَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي بِهِ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ عَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لاَ يَنْفَعُ مِنْ فُضُول الْمُبَاحِ، فَتَرْكُ فُضُول الْمُبَاحِ الَّذِي لاَ يَنْفَعُ فِي الدِّينِ زُهْدٌ وَلَيْسَ بِوَرَعٍ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الْحِرْصَ وَالرَّغْبَةَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَال وَالسُّلْطَانِ مُضِرٌّ، كَمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ـ ﷺ ـ: مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَال وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ (32) . فَذَمَّ النَّبِيُّ ـ ﷺ ـ الْحِرْصَ عَلَى الْمَال وَالشَّرَفِ، وَهُوَ الرِّيَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الدِّينَ مِثْل أَوْ فَوْقَ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِرْصَ إِنَّمَا ذُمَّ لأَِنَّهُ يُفْسِدُ الدِّينَ الَّذِي هُوَ الإِْيمَانُ وَالْعَمَل الصَّالِحُ، فَكَانَ تَرْكُ هَذَا الْحِرْصِ لِصَالِحِ الْعَمَل. وَهَذَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (33) } ، وَهُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ حَيْثُ افْتَتَحَهَا بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَرَ عُلُوَّهُ فِي الأَْرْضِ، وَهُوَ الرِّيَاسَةُ وَالشَّرَفُ وَالسُّلْطَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِهَا قَارُونَ وَمَا أُوتِيَهُ مِنَ الأَْمْوَال، وَذَكَرَ عَاقِبَةَ سُلْطَانِ هَذَا وَعَاقِبَةَ مَال هَذَا، ثُمَّ قَال: {تِلْكَ الدَّارُ الآْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (34) } ، كَحَال فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ، فَإِنَّ جَمْعَ الأَْمْوَال مِنْ غَيْرِ إِنْفَاقِهَا فِي مَوَاضِعِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا، وَأَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الْفَسَادِ.
وَكَذَلِكَ الإِْنْسَانُ إِذَا اخْتَارَ السُّلْطَانَ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ الْعَدْل وَالْحَقِّ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِفَسَادٍ وَظُلْمٍ، وَأَمَّا نَفْسُ وُجُودِ السُّلْطَانِ وَالْمَال الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَالْقِيَامُ بِالْحَقِّ وَالدَّارِ الآْخِرَةِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَلاَ يَفْتُرُ الْقَلْبُ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ـ ﷺ ـ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَلاَ يَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ (35) .

دَرَجَاتُ الْوَرَعِ:
11 - قَال الْغَزَالِيُّ: الْوَرَعُ لَهُ أَوَّلٌ وَغَايَةٌ، وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ فِي الاِحْتِيَاطِ، وَكُلَّمَا كَانَ الإِْنْسَانُ أَشَدَّ وَرَعًا كَانَ أَسْرَعَ جَوَازًا عَلَى الصِّرَاطِ، وَأَخَفَّ ظَهْرًا.
وَذَكَرَ الدَّرَجَاتِ الأَْرْبَعَ التَّالِيَةَ:

الأُْولَى: وَرَعُ الْعُدُول، وَهُوَ التَّوَرُّعُ عَمَّا تُحَرِّمُهُ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ. الثَّانِيَةُ: وَرَعُ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ الاِمْتِنَاعُ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَال التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي بِالرُّخْصَةِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ فِي كُل شُبْهَةٍ يُسْتَحَبُّ اجْتِنَابُهَا وَلاَ يَجِبُ، لِقَوْلِهِ ـ ﷺ ـ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (36) ، وَنَحْمِلُهُ عَلَى نَهْيِ التَّنْزِيهِ.

الثَّالِثَةُ: وَرَعُ الْمُتَّقِينَ، وَهُوَ مَا لاَ تُحَرِّمُهُ الْفَتْوَى، وَلاَ شُبْهَةَ فِي حِلِّهِ، وَلَكِنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى حَرَامٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْل النَّبِيِّ ـ ﷺ ـ: لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ (37) ، وَمِنْهُ تَرْكُ الزِّينَةِ وَالتَّوَرُّعُ عَنْهَا، لأَِنَّهُ يَخَافُ مِنْهَا أَنْ تَدْعُوَ إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الزِّينَةُ مُبَاحَةً فِي نَفْسِهَا، وَأَكْثَرُ الْمُبَاحَاتِ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمَحْظُورَاتِ.
وَقَال عُمَرُ ـ ﵁ ـ: كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلاَل مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي الْحَرَامِ.

الرَّابِعَةُ: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ: فَالْحَلاَل عِنْدَهُمْ كُل مَا لاَ يَتَقَدَّمُ فِي أَسْبَابِهِ مَعْصِيَةٌ وَلاَ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ فِي الْحَال وَالْمَآل قَضَاءُ وَطَرٍ، بَل يُتَنَاوَل لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَلِلتَّقَوِّي عَلَى طَاعَتِهِ، وَاسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ لأَِجْلِهِ. وَيَرَوْنَ كُل مَا لَيْسَ لِلَّهِ حَرَامًا (38) امْتِثَالاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (39) } .

تَنَاوُل الْوَرَعِ لِلْمُبَاحَاتِ:
12 - قَال الْقَرَافِيُّ: هَل يَدْخُل الْوَرَعُ وَالزُّهْدُ فِي الْمُبَاحَاتِ أَمْ لاَ؟ فَادَّعَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، وَضَيَّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَكْثَرُوا التَّشْنِيعَ. فَقَال الأَْبْيَارِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ: لاَ يَدْخُل الْوَرَعُ فِيهَا لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ طَرَفَيْهَا، وَالْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَالنَّدْبُ مَعَ التَّسْوِيَةِ مُتَعَذِّرٌ، وَقَال الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ الْحِمْيَرِيُّ: يَدْخُل الْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَمَا زَال السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا (40) } ، وَغَيْرُهُ مِنَ النُّصُوصِ. وكُلٌّ مِنَ الشَّيْخَيْنِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، إِذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي الْكَلاَمِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لاَ زُهْدَ فِيهَا وَلاَ وَرَعَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُبَاحَاتٌ، وَفِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الاِسْتِكْثَارَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ يُحْوِجُ إِلَى كَثْرَةِ الاِكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ يُوقِعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَثْرَةُ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا تُفْضِي إِلَى بَطَرِ النُّفُوسِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعَبِيدِ وَالْخَيْل وَالْخَوَل وَالْمَسَاكِنِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَآكِل الشَّهِيَّةِ وَالْمَلاَبِسِ اللَّيِّنَةِ لاَ يَكَادُ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا مِنَ الإِْعْرَاضِ عَنْ مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ لِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا يَفْعَل ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ أَهْل الْحَاجَاتِ وَالْفَاقَاتِ وَالضَّرُورَاتِ، وَمَا يَلْزَمُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ لِذِي الْجَلاَل وَكَثْرَةِ السُّؤَال مِنْ نَوَالِهِ وَفَضْلِهِ آنَاءَ اللَّيْل وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، لأَِنَّ أَنْوَاعَ الضَّرُورَاتِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ قَهْرًا، وَالأَْغْنِيَاءُ بَعِيدُونَ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ، فَكَانَ الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لاَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُبَاحَاتٌ، وَيَدُل عَلَى اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّ الإِْنْسَانَ لَيَطْغَى} {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (41) } ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ (42) } أَيْ مِنْ أَجْل أَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَلَوْ كَانَ النُّمْرُودُ فَقِيرًا حَقِيرًا مُبْتَلًى بِالْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ لَمْ تَحْتَدَّ نَفْسُهُ إِلَى مُنَازَعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَدَعْوَاهُ الإِْحْيَاءَ أَوِ الإِْمَاتَةَ، وَتَعَرُّضِهِ لإِِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالنِّيرَانِ، وَإِنَّمَا وَصَل إِلَى هَذِهِ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَلِكٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَْرْذَلُونَ (43) } ، وَفِي الآْيَةِ الأُْخْرَى {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ (44) } ، فَحَصَل مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَتْبَاعَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَالْمُبَادِرِينَ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ إِنَّمَا هُمُ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، وَأَعْدَاءُ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَمُعَانِدُوهُمْ هُمُ الأَْغْنِيَاءُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ (45) } ، وَفِي الآْيَةِ الأُْخْرَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَال مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (46) } ، وَلَمْ يَقُل: إِلاَّ قَال فُقَرَاؤُهَا. فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ أَنَّ الأَْكْثَرِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمُ الأَْقَلُّونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَالأَْقَلُّونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمُ الأَْكْثَرُونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَهَذَا وَجْهُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ وَجْهُ لُزُومِ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ (47) .

تَقْدِيمُ الأَْوْرَعِ فِي إِمَامَةِ الصَّلاَةِ:
13 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْوَرَعَ رُتْبَةٌ تَسْتَتْبِعُ اسْتِحْقَاقَ التَّقْدِيمِ لإِِمَامَةِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ الأَْحَقَّ بِالإِْمَامَةِ عِنْدَهُمُ الأَْعْلَمُ بِأَحْكَامِ الصَّلاَةِ، ثُمَّ الأَْحْسَنُ تِلاَوَةً لِلْقِرَاءَةِ، ثُمَّ الأَْوْرَعُ (48) ، لِقَوْل النَّبِيِّ ـ ﷺ ـ: إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَل صَلاَتُكُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ (49) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَقْدِيمُ الأَْوْرَعِ بَعْدَ السُّلْطَانِ وَرَبِّ الْبَيْتِ وَزَائِدِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ. (50)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي تَقْدِيمِ الأَْوْرَعِ عَلَى الأَْفْقَهِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّ الأَْفْقَهَ مُقَدَّمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الأَْوْرَعَ أَوْلَى، لأَِنَّ مَقْصُودَ الصَّلاَةِ الْخُشُوعُ وَرَجَاءُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَالأَْوْرَعُ أَقْرَبُ لِذَلِكَ (51) ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (52) } ، وَلِحَدِيثِ: مِلاَكُ الدِّينِ الْوَرَعُ (53) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُقَدَّمُ الأَْوْرَعُ بَعْدَ السُّلْطَانِ وَرَبِّ الْبَيْتِ وَإِمَامِ الْمَسْجِدِ الرَّاتِبِ وَالأَْقْرَأِ وَالأَْفْقَهِ (54) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِمَامَة الصَّلاَةِ ف 14 ـ 17)

الْوَرَعُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْوِلاَيَاتِ:
14 - يُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْوِلاَيَاتِ أَنْ يَكُونَ وَرِعًا بَعِيدًا عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَذَلِكَ لِئَلاَّ يَمِيل مَعَ الْهَوَى أَوْ تَمْتَدَّ يَدُهُ إِلَى الأَْمْوَال الْمُحَرَّمَةِ وَالْمُشْتَبِهَةِ.
وَمِنْ هُنَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ (55) .
وَنَصَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ الأَْعْلَمُ الأَْوْرَعُ الأَْكْفَأُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ وَالآْخَرُ أَوْرَعَ قُدِّمَ فِيمَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ وَيُخَافُ فِيهِ الْهَوَى الأَْوْرَعُ، وَيُقَدَّمُ الأَْعْلَمُ فِيمَا يَدِقُّ حُكْمُهُ وَيُخَافُ فِيهِ الاِشْتِبَاهُ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ـ ﷺ ـ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ، الْعَقْل الْكَامِل عِنْدَ هُجُومِ الشَّهَوَاتِ (56) .
وَيُقَدَّمَانِ عَلَى الأَْكْفَأِ إِنْ كَانَ الْقَاضِي مُؤَيَّدًا تَأْيِيدًا تَامًّا مِنْ جِهَةِ وَالِي الْحَرْبِ أَوِ الْعَامَّةِ، وَيُقَدَّمُ الأَْكْفَأُ إِنْ كَانَ الْقَضَاءُ يَحْتَاجُ إِلَى قُوَّةٍ وَإِعَانَةٍ لِلْقَاضِي أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى مَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ الْمُطْلَقَ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلاً قَادِرًا، بَل وَكَذَلِكَ كُل وَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَيُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقَصَتْ ظَهَرَ الْخَلَل بِسَبَبِهِ (57) .
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ آدَابَ الْمُحْتَسِبِ تَرْجِعُ إِلَى ثَلاَثِ صِفَاتٍ، إِحْدَاهَا الْوَرَعُ، لِيَرْدَعَهُ عَنْ مُخَالَفَةِ مَا يَعْلَمُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَعَنِ السَّرَفِ فِي الْحِسْبَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ نَفْسِهِ. (58)
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي ظَاهِرَ الْوَرَعِ مَشْهُورًا بِالدِّيَانَةِ الظَّاهِرَةِ وَالصِّيَانَةِ الْبَاهِرَةِ، وَكَانَ مَالِكٌ ﵀ يَعْمَل بِمَا لاَ يُلْزِمُهُ النَّاسُ، وَيَقُول: لاَ يَكُونُ عَالِمًا حَتَّى يَعْمَل فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِمَا لاَ يُلْزِمُهُ النَّاسُ مِمَّا لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْثَمْ، وَكَانَ يَحْكِي نَحْوَهُ عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ (59) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) فتح القدير 1 / 349، ونهاية المحتاج 2 / 176، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 344.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 815 القاهرة، دار الشعب، ومدارج السالكين لابن القيم 2 / 20.
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 52 بيروت، دار الكتب العلمية.
(5) الفروق للقرافي 4 / 210، بيروت، عالم الكتب.
(6) التعريفات للجرجاني، وحاشية ابن عابدين 1 / 374، وفتح القدير لابن الهمام 1 / 349 بيروت، دار الفكر.
(7) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(8) ابن عابدين 1 / 374.
(9) نهاية المحتاج 2 / 182، ومغني المحتاج 1 / 243.
(10) الفروق 4 / 209.
(11) المصباح المنير.
(12) التعريفات للجرجاني.
(13) الفروق للقرافي 4 / 210 ـ 217.
(14) حديث: " إن الحلال بين وإن الحرام بين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 126) ، ومسلم (2 / 1219 ـ 1220) واللفظ لمسلم.
(15) حديث: " إن الحلال بين. . . " تقدم تخريجه ف 5.
(16) حديث: " فمن ترك ما شبه عليه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 290) .
(17) جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 202.
(18) حديث: " لا يحل لامرئ من مال أخيه. . . " أخرجه البيهقي في السنن (6 / 97 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس.
(19) سورة النور / 61.
(20) حديث: عقبة بن الحارث: " أنه تزوج أم يحيى. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 267 ط السلفية)
(21) رواية: " دعها عنك " أخرجها البخاري (الفتح 9 / 152 ط السلفية) .
(22) معالم السنن للخطابي 4 / 27.
(23) فتح القدير لابن الهمام 3 / 462.
(24) فتح الباري 5 / 269.
(25) القرافي 4 / 210 ـ 212.
(26) تهذيب الفروق لابن الشاط 4 / 210، الفرق 256.
(27) الموافقات للشاطبي 1 / 104.
(28) مجموع الفتاوى الكبرى 20 / 139.
(29) جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 183 ط مؤسسة الرسالة.
(30) حديث ابن عمر مع رجل من أهل العراق أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 426) .
(31) مجموع الفتاوى 20 / 139، 140 و 29 / 312 بتصرف.
(32) حديث كعب بن مالك: " ما ذئبان جائعان. . . " أخرجه الترمذي (4 / 588 ـ ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(33) سورة الحاقة / 28 - 29.
(34) سورة القصص / 83.
(35) مجموع الفتاوى 20 / 142، 143.
(36) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. . . " أخرجه الترمذي (4 / 168 ـ ط الحلبي) من حديث الحسن بن علي، وقال: حديث حسن صحيح.
(37) حديث: " لا يبلغ العبد درجة المتقين. . . " أخرجه الترمذي (4 / 634 ـ ط الحلبي) من حديث عطية السعدي، وذكر المناوي في فيض القدير (6 / 443 ـ ط المكتبة التجارية) أن في إسناده راويا لا يعرف حاله.
(38) إحياء علوم الدين 2 / 95 ط المعرفة.
(39) سورة الأنعام / 91.
(40) سورة الأحقاف / 20.
(41) سورة العلق / 6ـ7.
(42) سورة البقرة / 258.
(43) سورة الشعراء / 111.
(44) سورة هود / 27.
(45) سورة الأحزاب / 67.
(46) سورة الزخرف / 40.
(47) الفروق 4 / 220 ـ 221.
(48) حاشية ابن عابدين 1 / 374، والفتاوى الهندية 1 / 83، وفتح القدير 1 / 303.
(49) حديث: " إن سركم أن تقبل صلاتكم. . . أخرجه الطبراني في الكبير (20 / 328 ـ ط العراق) من حديث مرثد بن مرثد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 64 ـ ط القدسي) : فيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف.
(50) الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 344، 345.
(51) نهاية المحتاج 2 / 181، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 533.
(52) سورة الحجرات / 13.
(53) حديث: " ملاك الدين الورع " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11 / 38 ـ ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 121 ـ ط القدسي) وقال: فيه سوار بن مصعب وهو ضعيف جدا.
(54) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 1 / 254 ـ 256 القاهرة، مطبعة السنة المحمدية.
(55) الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 131، والذخيرة للقرافي 10 / 17 ط دار الغرب الإسلامي، بيروت.
(56) حديث: " إن الله يحب البصر الناقد " قال العراقي في المغني (بهامش الإحياء 4 / 401 ـ نشر دار المعرفة) : أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عمران بن حصين، وفيه حفص بن عمر العدني، ضعفه الجمهور.
(57) السياسة الشرعية ص 18.
(58) إحياء علوم الدين 7 / 1234.
(59) المجموع شرع المهذب للنووي 1 / 41.

الموسوعة الفقهية الكويتية: 105/ 43