الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
يَرِد مُصْطلَح (بَيْع الجُزافِ) في الفِقْهِ في كِتابِ البُيُوعِ، باب: شُروط البَيْعِ، وباب: الرِّبا.
بَيْعُ ما يُكالُ، أو يُوزَنُ، أو يُعَدُّ جُمْلَةً بِلا كَيْلٍ، ولا وَزْنٍ، ولا عَدٍّ.
بَيْعُ الجُزَافِ: نَوْعٌ مِن البُيُوعِ التي رَخَّصَت فِيها الشَّرِيعةُ بِما يَقْتَضِي التَّسْهِيل في التَّعامُل؛ دَفْعاً لِلْمَشَقَّةِ فِيما شَقَّ عِلْمُهُ مِن المَعْدُودِ، أو قَل جَهْلُهُ في المَكِيل والمَوْزُونِ؛ ذلك أنَّ مِن شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ البَيْعِ أن يكون المَبِيعُ مَعْلُوماً، وفي بَيْعِ الجُزافِ يَحْصُل العِلْمُ بِالقَدْرِ، كَبَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ دون مَعْرِفَةِ كَيْلِها أو وَزْنِها، وبَيْعِ قَطِيعِ الماشِيَةِ دون مَعْرِفَةِ عَدَدِها، وبَيْعِ الأَرْضِ دون مَعْرِفَةِ مِساحَتِها، وبَيْعِ الثَّوْبِ دون مَعْرِفَةِ طُولِهِ.
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (9/72) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُزَافُ اسْمٌ مِنْ جَازَفَ مُجَازَفَةً مِنْ بَابِ قَاتَل، وَالْجُزَافُ بِالضَّمِّ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَزْفِ، أَيِ الأَْخْذُ بِكَثْرَةٍ، وَجَزَفَ فِي الْكَيْل جَزْفًا: أَكْثَرَ مِنْهُ. وَيُقَال لِمَنْ يُرْسِل كَلاَمَهُ إِرْسَالاً مِنْ غَيْرِ قَانُونٍ: جَازَفَ فِي كَلاَمِهِ، فَأُقِيمَ نَهْجُ الصَّوَابِ فِي الْكَلاَمِ مَقَامَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ (1) .
وَبَيْعُ الْجُزَافِ اصْطِلاَحًا: هُوَ بَيْعُ مَا يُكَال، أَوْ يُوزَنُ، أَوْ يُعَدُّ، جُمْلَةً بِلاَ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ، وَلاَ عَدٍّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ كُل وَجْهٍ، بَل يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيْعِ الْجُزَافِ يَحْصُل الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ، كَبَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ، دُونَ مَعْرِفَةِ كَيْلِهَا أَوْ وَزْنِهَا، وَبَيْعِ قَطِيعِ الْمَاشِيَةِ دُونَ مَعْرِفَةِ عَدَدِهَا، وَبَيْعِ الأَْرْضِ دُونَ مَعْرِفَةِ مِسَاحَتِهَا، وَبَيْعِ الثَّوْبِ دُونَ مَعْرِفَةِ طُولِهِ.
وَبَيْعُ الْجُزَافِ اسْتُثْنِيَ مِنَ الأَْصْل لِحَاجَةِ النَّاسِ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ، بِمَا يَقْتَضِي التَّسْهِيل فِي التَّعَامُل. قَال الدُّسُوقِيُّ: الأَْصْل فِي بَيْعِ الْجُزَافِ مَنْعُهُ، وَلَكِنَّهُ خُفِّفَ فِيمَا شَقَّ عِلْمُهُ مِنَ الْمَعْدُودِ، أَوْ قَل جَهْلُهُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ (3) .
وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - ﵄ - كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِذَا ابْتَاعُوا الطَّعَامَ جُزَافًا يَضْرِبُونَ فِي أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ، وَذَلِكَ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يُحَوِّلُوهُ وَفِي أُخْرَى: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ﵄ كَانَ يَشْتَرِي الطَّعَامَ جُزَافًا فَيَحْمِلُهُ إِلَى أَهْلِهِ (4) فَدَل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِبَيْعِ الْجُزَافِ، فَيَكُونُ هَذَا دَالًّا عَلَى جَوَازِهِ، وَأَلْفَاظُ الرِّوَايَةِ تَدُل عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُول ﷺ، مِمَّا يُفِيدُ حُكْمَ الرَّفْعِ.
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (5) .
شُرُوطُ بَيْعِ الْجُزَافِ:
3 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْجُزَافِ سِتَّةَ شُرُوطٍ:
(6) أَنْ يُرَى الْمَبِيعُ جُزَافًا حَال الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ دُونَ تَغْيِيرٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يَلْزَمْ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَسَادُ الْمَبِيعِ، كَقِلاَل الْخَل الْمُطَيَّنَةِ يُفْسِدُهَا فَتْحُهَا، فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَتِهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
(7) أَنْ يَجْهَل الْمُتَبَايِعَانِ مَعًا قَدْرَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا فَلاَ يَصِحُّ.
(8) أَنْ يَحْزِرَا وَيُقَدِّرَا قَدْرَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.
(9) أَنْ تَسْتَوِيَ الأَْرْضُ الَّتِي يُوضَعُ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ.
(10) أَلاَ يَكُونَ مَا يُرَادُ بَيْعُهُ جُزَافًا كَثِيرًا جِدًّا، لِتَعَذُّرِ تَقْدِيرِهِ. سَوَاءٌ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا.
كَمَا يُشْتَرَطُ أَلاَ يَقِل جِدًّا إِنْ كَانَ مَعْدُودًا، لأَِنَّهُ لاَ مَشَقَّةَ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ بِالْعَدِّ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَيَجُوزُ وَإِنْ قَل جِدًّا.
وَأَنْ يَشُقَّ عَدُّهُ وَلاَ تُقْصَدُ أَفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، سَوَاءٌ قَل ثَمَنُهُ أَوْ لَمْ يَقِل كَالْبَيْضِ. وَإِذَا قُصِدَتْ أَفْرَادُهُ جَازَ بَيْعُهُ جُزَافًا إِنْ قَل ثَمَنُهُ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ. وَمُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ جُزَافًا إِنْ لَمْ يَقِل ثَمَنُهَا كَالثِّيَابِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَشُقَّ عَدُّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، سَوَاءٌ أَقُصِدَتْ أَفْرَادُهُ أَمْ لَمْ تُقْصَدْ، قَل ثَمَنُهَا أَوْ لَمْ يَقِل (11) .
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَفْصِيل الشُّرُوطِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي اعْتِبَارِهَا، كَمَا فِي الشَّرْطِ الأَْوَّل وَالثَّانِي وَالرَّابِعِ. كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَلِبَيْعِ الْجُزَافِ صُوَرٌ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا:
4 - الصُّبْرَةُ هِيَ: الْكَوْمَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنَ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ. وَالصُّبْرَةُ الْمَجْهُولَةُ الْقَدْرِ الْمَعْلُومَةُ بِالرُّؤْيَةِ، إِمَّا أَنْ تُبَاعَ بِثَمَنٍ إِجْمَالِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ تُبَاعَ عَلَى أَسَاسِ السِّعْرِ الإِْفْرَادِيِّ، كَمَا لَوْ قَال: كُل صَاعٍ مِنْهَا بِكَذَا.
فَأَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل، فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي جَوَازِهِ خِلاَفًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهُ. وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنْ لاَ يَكُونَ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ إِذَا بِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا بِجِنْسِهِ كَمَا يَأْتِي (12) .
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيْعُ الصُّبْرَةِ الَّتِي يُجْهَل مِقْدَارُ كَيْلِهَا أَوْ وَزْنِهَا عَلَى أَسَاسِ سِعْرِ وَحْدَةِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ الَّتِي يُجْهَل عَدَدُ صِيعَانِهَا مُجَازَفَةً، بِأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الطَّعَامِ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ الصُّبْرَةِ تَكْفِي فِي تَقْدِيرِهَا، وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ بِالإِْمْكَانِ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّفْصِيل بِكَيْل الصُّبْرَةِ، فَيَرْتَفِعُ الْغَرَرُ، وَتَزُول الْجَهَالَةُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الصُّبْرَةِ كُلِّهَا، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ عَدَدُ الصِّيعَانِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ صَرْفِ الْبَيْعِ إِلَى الْكُل لِلْجَهَالَةِ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، فَيُصْرَفُ إِلَى الأَْقَل وَهُوَ مَعْلُومٌ.
فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْقُفْزَانِ، أَوْ بِأَنْ تُكَال الصُّبْرَةُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، جَازَ بَيْعُ الصُّبْرَةِ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ جُزَافًا (13) .
تَسَاوِي مَوْضِعِ صُبْرَةِ الطَّعَامِ عِنْدَ بَيْعِهَا جُزَافًا:
5 - لاَ يَحِل لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ صُبْرَةِ الطَّعَامِ جُزَافًا أَنْ يَضَعَهَا عَلَى مَوْضِعٍ يَنْقُصُهَا، كَأَنْ تَكُونَ عَلَى دِكَّةٍ أَوْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ السَّمْنُ وَنَحْوُهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ الَّتِي تُبَاعُ بِوَضْعِهَا فِي ظَرْفٍ أَوْ إِنَاءٍ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ - إِنْ بَاعَهَا جُزَافًا - أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مِمَّا تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ رِقَّةً وَغِلَظًا؛ لأَِنَّ هَذَا غِشٌّ يُؤَدِّي إِلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَالنِّزَاعِ، فَلاَ يُمْكِنُ مَعَهُ تَقْدِيرُهَا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا.
فَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ عَلَى دِكَّةٍ أَوْ رَبْوَةٍ أَوْ حَجَرٍ لِيُنْقُصَهَا سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْبَائِعُ أَمْ لَمْ يَقْصِدُ، فَاشْتَرَاهَا الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِذَلِكَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَمُلْزِمٌ لِلْبَائِعِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ، أَوِ الرُّجُوعِ بِالنَّقْصِ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، بِأَنْ تُقَوَّمَ الصُّبْرَةُ مَغْشُوشَةً مَعَ وَضْعِهَا عَلَى دِكَّةٍ أَوْ حَجَرٍ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ ذَلِكَ، فَمَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
وَإِنْ بَاعَهُ صُبْرَةَ الطَّعَامِ، وَظَهَرَ أَنَّ تَحْتَهَا حُفْرَةً فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلاَ يَضُرُّهُ، لأَِنَّهُ سَيَزِيدُ فِي قَدْرِهَا.
وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحُفْرَةِ (14) . بَيْعُ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ جُزَافًا:
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يُبَاعَ قَطِيعُ الْمَاشِيَةِ مَعَ الْجَهْل بِعَدَدِهِ، كُل رَأْسٍ بِكَذَا. وَأَنْ تُبَاعَ الأَْرْضُ وَالثَّوْبُ جُزَافًا، كُل ذِرَاعٍ بِكَذَا، مَعَ الْجَهْل بِجُمْلَةِ الذُّرْعَانِ (15) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَطَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَبَيْنَ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ: أَنَّ الأُْولَى لاَ تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا فِي الْعَادَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا إِذَا فُرِّقَتْ، فَتَكْفِي رُؤْيَتُهَا جُمْلَةً.
أَمَّا الْمَعْدُودَاتُ وَالْمَذْرُوعَاتُ كَالْمَاشِيَةِ وَالأَْرْضِ، فَتَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا إِذَا فُرِّقَتْ، وَلاَ تَكْفِي رُؤْيَتُهَا جُمْلَةً (16) .
الْبَيْعُ جُزَافًا مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ:
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الْجُزَافِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَايِعَانِ يَجْهَلاَنِ قَدْرَ الْمَبِيعِ جَمِيعًا، أَوْ يَعْلَمَانِهِ جَمِيعًا، وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ جُزَافًا مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ دُونَ الآْخَرِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ (17) . وَوَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ: مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْجُزَافِ جَازَ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ فِيمَا يُبَاعُ تَخْمِينًا وَحَزْرًا، فَإِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا إِذْ لاَ ضَرُورَةَ فِيهِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا جُزَافًا، إِذَا عَلِمَ بِعِلْمِ الْبَائِعِ بِقَدْرِهَا، وَلِلْبَائِعِ فَسْخُ الْعَقْدِ إِذَا عَلِمَ بِعِلْمِ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ عِلْمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِكَرَاهَتِهِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِهِ، مُرَاعَاةً لِخِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ (18) .
بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ جُزَافًا:
8 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمَال الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً. لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ. يَدًا بِيَدٍ (19)
فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ الرِّبَوِيُّ بِجِنْسِهِ إِلاَّ بِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِلاَّ بِالتَّقَابُضِ.
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْبَيْعِ الْجُزَافِ، لأَِنَّهُ قَائِمٌ عَلَى التَّخْمِينِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيَبْقَى احْتِمَال الرِّبَا قَائِمًا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ الثَّمَرِ الرُّطَبِ بِالثَّمَرِ الْجَافِّ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ﵄ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُل تَمْرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْل طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (20) .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَنْقُصُ إِذَا جَفَّ، فَيَكُونُ مَجْهُول الْمِقْدَارِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ: أَنَّ الْجَهْل بِالتَّمَاثُل كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل (21) .
ضَمُّ مَعْلُومٍ فِي الْبَيْعِ أَوْ جُزَافٍ إِلَى جُزَافٍ:
9 - إِذَا ضُمَّ جُزَافٌ إِلَى جُزَافٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ أَوْ بِثَمَنَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ الْبَيْعِ، لأَِنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْجُزَافِ الْوَاحِدِ، مِنْ حَيْثُ تَنَاوُل الرُّخْصَةِ لَهُمَا. كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ صُبْرَتَيِ التَّمْرِ وَالْحَبِّ هَاتَيْنِ، أَوْ بِعْتُكَ ثَمَرَةَ حَائِطَيَّ هَذَيْنِ جُزَافًا بِثَلاَثِ دَنَانِيرَ، أَوْ قَال: أُولاَهُمَا بِدِينَارٍ، وَالثَّانِيَةُ بِدِينَارَيْنِ.
وَكَذَا لَوْ ضَمَّ إِلَى الْجُزَافِ سِلْعَةً مِمَّا لاَ يُبَاعُ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَهَذِهِ الدَّابَّةَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ.
أَمَّا إِنْ ضُمَّ فِي الْبَيْعِ إِلَى الْجُزَافِ مَعْلُومٌ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ، فَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ انْضِمَامَهُ إِلَيْهِ يُصَيِّرُ فِي الْمَعْلُومِ جَهْلاً لَمْ يَكُنْ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ (22) انْضِمَامَ الْمَعْلُومِ الْقَدْرِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدٍّ إِلَى أَرْبَعِ صُوَرٍ: لأَِنَّ الْجُزَافَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل فِيهِ - بِحَسَبِ الْعُرْفِ - أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا كَالأَْرْضِ، أَوْ أَنْ يُبَاعَ بِالتَّقْدِيرِ كَالْكَيْل لِلْحُبُوبِ. وَكَذَلِكَ الْمَعْلُومُ الْقَدْرِ الْمُنْضَمُّ إِلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل فِيهِ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، أَوْ أَنْ يُبَاعَ بِالتَّقْدِيرِ: فَإِنْ كَانَ الْجُزَافُ أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ جُزَافًا، وَالْمَعْلُومُ الْقَدْرِ أَصْلُهُ أَنْ يُبَاعَ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ، كَجُزَافِ أَرْضٍ مَعَ مَكِيل حَبٍّ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِيعَ عَلَى أَصْلِهِ.
وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ الأُْخْرَى، لِمُخَالَفَةِ الأَْصْل فِي كِلَيْهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَمْثِلَتُهَا:
أ - جُزَافُ حَبٍّ مَعَ مَكِيل أَرْضٍ (أَيْ أَرْضٍ مُقَدَّرَةٍ بِالْمِسَاحَةِ) .
ب - جُزَافُ حَبٍّ مَعَ مَكِيل حَبٍّ.
ج - جُزَافُ أَرْضٍ مَعَ مَكِيل أَرْضٍ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْجُزَافِ إِذَا بِيعَ عَلَى غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ.
أَمَّا إِنْ بِيعَ الْجُزَافُ عَلَى كَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ مُطْلَقًا، كَأَنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنَّ مَعَ الْمَبِيعِ سِلْعَةَ كَذَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ لَهَا، بَل ثَمَنُهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَرَى بِهِ الصُّبْرَةَ؛ لأَِنَّ مَا يَخُصُّ السِّلْعَةَ مِنَ الثَّمَنِ حِينَ الْبَيْعِ مَجْهُولٌ، وَمَعْنًى مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتِ السِّلْعَةُ مِنْ جِنْسِ الصُّبْرَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، لأَِنَّهُ إِذَا سَمَّى الثَّمَنَ فَبَانَ أَنَّهُ يُسَاوِي أَكْثَرَ، وَسَامَحَ فِيهِ الْبَائِعُ مِنْ أَجْل إِتْمَامِ الصَّفْقَةِ جُزَافًا، كَانَتِ التَّسْمِيَةُ كَعَدَمِهَا، لأَِنَّهُ صَارَ بِمَثَابَةِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ.
وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَهَا، كَانَ مَا يَخُصُّ السِّلْعَةَ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولاً (23) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَقَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحَّ.
أَمَّا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ، كُل قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى لَمْ يَصِحَّ. قَالُوا: لإِِفْضَائِهِ إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِي التَّفْصِيل، لأَِنَّهُ يَصِيرُ قَفِيزًا وَشَيْئًا بِدِرْهَمٍ، وَالشَّيْءُ لاَ يَعْرِفَانِهِ، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمَا بِكَمِّيَّةِ مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنَ الْقُفْزَانِ (24) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ أَزِيدَكَ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ الأُْخْرَى. لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي جُمْلَةِ الثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهُ صَاعًا وَشَيْئًا بِدِرْهَمٍ، وَالشَّيْءُ لاَ يُعْرَفُ، لِلْجَهَالَةِ بِكَمِّيَّةِ مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنَ الصِّيعَانِ (25) .
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
10 - لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ أَوْ نَحْوَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كُل صَاعٍ أَوْ رَأْسٍ أَوْ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ، إِنْ خَرَجَ مَا بَاعَهُ مِائَةً، لِتَوَافُقِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل فَلاَ غَرَرَ وَلاَ جَهَالَةَ. وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِائَةً، بِأَنْ خَرَجَتْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَصِحُّ تَغْلِيبًا لِلإِْشَارَةِ (26) .
ظُهُورُ الْمَبِيعِ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسَمَّى:
11 - مَنِ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، وَمَنِ ابْتَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ الْمَبِيعُ زَائِدًا أَمْ نَاقِصًا عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ فِي الْعَقْدِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا أَمْ أَرْضًا مِنَ الْمَذْرُوعَاتِ، أَوْ صُبْرَةَ طَعَامٍ مِنَ الْمَكِيلاَتِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَرْضًا أَوْ ثَوْبًا، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَل الْوَصْفِ فِيهِمَا، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى الْكُل. كَمَا لاَ يُجْبَرَانِ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ لِلضَّرَرِ الْحَاصِل بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فِي حَال الزِّيَادَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي فِي حَال النُّقْصَانِ فِي الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا يُبَاعُ ذَرْعًا كَالثَّوْبِ وَالأَْرْضِ، وَبَيْنَ مَا يُبَاعُ كَيْلاً كَصُبْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَهُمَا، بَل أَثْبَتُوا الْخِيَارَ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ مُطْلَقًا.
فَفِي صُورَةِ مَا إِذَا ابْتَاعَ صُبْرَةً مِنْ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَل. ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْذَ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَفَسَخَ الْبَيْعَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ الْمِثْلِيِّ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَلَمْ يَتِمَّ رِضَا الْمُشْتَرِي بِهِ لأَِنَّهُ أَقَل مِمَّا تَمَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ خِيَارُ أَخْذِ الْمَوْجُودِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لأَِنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لأَِنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْبَاقِي مِنَ الْكَيْل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِكُل الثَّمَنِ الْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْفَسْخِ.
وَإِذَا وَجَدَ الصُّبْرَةَ أَكْثَرَ مِمَّا تَمَّ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ: رَدَّ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ لأَِنَّهُ تَضَرَّرَ بِالزِّيَادَةِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، وَلاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِيمَا إِذَا قَال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: لاَ تَفْسَخْ، وَأَنَا أَقْنَعُ بِالْقَدْرِ الْمَشْرُوطِ، أَوْ أَنَا أُعْطِيكَ ثَمَنَ الزَّائِدِ.
وَإِذَا كَانَ مَا يُبَاعُ جُزَافًا مَذْرُوعًا كَالثَّوْبِ وَالأَْرْضِ، وَظَهَرَ أَنَّهُ أَقَل مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ، وَلاَ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِيمَا إِذَا حَطَّ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْرَ النَّقْصِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَأَنْ يَأْخُذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَوْ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ.
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَبِيعَ أَكْثَرُ مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ نَفْسِهِ، لأَِنَّ الذَّرْعَ كَالْوَصْفِ، وَالأَْوْصَافُ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَلاَ خِيَارَ لِلْبَائِعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ:
فَذَهَبُوا إِلَى تَخْيِيرِ الْبَائِعِ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْقَدْرِ الْمَوْجُودِ. فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا. وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَهُ زَائِدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ أَوِ الأَْخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقِسْطِ الزَّائِدِ.
فَإِنْ رَضِيَ بِالأَْخْذِ أَخَذَ الْعَشَرَةَ، وَالْبَائِعُ شَرِيكٌ لَهُ فِي الذِّرَاعِ.
وَفِي تَخْيِيرِ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ وَجْهَانِ.
الأَْوَّل: لَهُ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي الْمُشَارَكَةِ.
الثَّانِي: لاَ خِيَارَ لَهُ، لأَِنَّهُ رَضِيَ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ بِهَذَا الثَّمَنِ.
فَإِذَا وَصَل إِلَيْهِ الثَّمَنُ مَعَ بَقَاءِ جُزْءٍ لَهُ فِيهِ كَانَ زِيَادَةً عَلَى مَا رَضِيَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْفَسْخَ. فَإِنْ بَذَلَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، أَوْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، لَمْ يَلْزَمِ الآْخَرَ الْقَبُول،لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّرَاضِي مِنْهُمَا، فَلاَ يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَيْهِ. وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَ.
وَوَجْهُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ: أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَكِيلاَتِ هُوَ الْقَدْرُ، أَمَّا فِي الْمَذْرُوعَاتِ فَهُوَ الْوَصْفُ.
وَالْقَدْرُ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، أَمَّا الْوَصْفُ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَبِيعِ، وَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ. وَلِهَذَا يَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا فَاتَ الْقَدْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَيَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ كَامِلاً، إِذَا فَاتَ الْوَصْفُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
لأَِنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِلْمَبِيعِ، إِلاَّ أَنَّهُ صَارَ أَصْلاً، لأَِنَّهُ أُفْرِدَ بِذِكْرِ الثَّمَنِ، فَيُنَزَّل كُل ذِرَاعٍ مَنْزِلَهُ ثَوْبٍ مُسْتَقِلٍّ.
لأَِنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِكُل الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ. فَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، لأَِنَّهُ إِنْ حَصَل لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ، فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ (27) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة " جزف "
(2) الشرح الصغير 3 / 35
(3) الدسوقي 3 / 20
(4) حديث: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله ﷺ أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ". أخرجه مسلم (3 / 1161 ط الحلبي)
(5) نهاية المحتاج 3 / 392، وحاشية الدسوقي 3 / 20، وكشاف القناع 3 / 169، وتبيين الحقائق 4 / 5، وروضة الطالبين 3 / 358
(6)
(7)
(8)
(9)
(10)
(11) الشرح الصغير 3 / 35 - 37
(12) المغني 4 / 144
(13) فتح القدير 5 / 72، والشرح الصغير 3 / 35، ونهاية المحتاج 3 / 392 - 396، وكشاف القناع 3 / 169
(14) الشرح الصغير 3 / 35، وكشاف القناع 3 / 169 - 170، وروضة الطالبين 3 / 358
(15) الشرح الصغير 3 / 34، 35، وروضة الطالبين 3 / 366، والمغني 4 / 144
(16) فتح القدير 5 / 72
(17) حاشية الدسوقي 3 / 20، وروضة الطالبين 3 / 358، والمغني 4 / 137
(18) المغني 4 / 173
(19) حديث: " الذهب بالذهب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 ط الحلبي)
(20) حديث: " نهى عن المزابنة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 384 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1172 ط الحلبي) وانظر نيل الأوطار 5 / 198
(21) روضة الطالبين 3 / 383، وكشاف القناع 3 / 253، والمجموع 10 / 353، وفتح القدير 5 / 470، والدسوقي 3 / 23
(22) حاشية العدوي على الخرشي 5 / 31
(23) نفس المراجع السابقة
(24) المغني 4 / 143
(25) المجموع 9 / 314
(26) نهاية المحتاج 3 / 399
(27) فتح القدير 5 / 476، 477، 478، ونهاية المحتاج 3 / 400، 401، والمغني 4 / 146 - 147
الموسوعة الفقهية الكويتية: 72/ 9