الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
1 - اخْتِلاَفُ الدِّينِ يَسْتَتْبِعُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً مُعَيَّنَةً، كَامْتِنَاعِ التَّوَارُثِ. وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ تِلْكَ الأَْحْكَامَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلاَفًا بِالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ، فَهَذَا يَسْتَتْبِعُ أَحْكَامَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ اتِّفَاقًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّخْصَانِ كَافِرَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتْبَعُ غَيْرَ مِلَّةِ صَاحِبِهِ، كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَهُودِيًّا وَالآْخَرُ مَجُوسِيًّا. وَفِي هَذَا النَّوْعِ اخْتِلاَفٌ يَتَبَيَّنُ مِمَّا يَلِي
: وَمِنْ أَهَمِّ الأَْحْكَامِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى اخْتِلاَفِ الدِّينِ:
أ - التَّوَارُثُ:
2 - اخْتِلاَفُ الدِّينِ أَحَدُ مَوَانِعِ التَّوَارُثِ، لِبِنَاءِ التَّوَارُثِ عَلَى النُّصْرَةِ، فَلاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ اتِّفَاقًا. إِلاَّ أَنَّ أَحْمَدَ يَرَى تَوْرِيثَ الْكَافِرِ بِالْوَلاَءِ مِنْ عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ عِنْدَ أَحْمَدَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ. وَفِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُرْتَدِّ خِلاَفٌ. وَلاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ كَافِرًا، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ تَوْرِيثُهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى وَالْحَدِيثِ الآْخَرِ الإِْسْلاَمُ يَزِيدُ وَلاَ يَنْقُصُ. (1)
وَأَمَّا تَوَارُثُ أَهْل الْكُفْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَعِنْدَ الإِْمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: يَثْبُتُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) وَلأَِنَّ الْكُفَّارَ عَلَى اخْتِلاَفِ مِلَلِهِمْ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فِي مُعَادَاةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: هُمْ ثَلاَثُ مِلَلٍ: فَالْيَهُودُ مِلَّةٌ، وَالنَّصَارَى مِلَّةٌ، وَمَنْ عَدَاهُمْ مِلَّةٌ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: هُمْ مِلَلٌ شَتَّى؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (3) وَلِحَدِيثِ: لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل مِلَّتَيْنِ شَتَّى. (4)
ب - النِّكَاحُ:
3 - لاَ يَتَزَوَّجُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً، وَلاَ يَتَزَوَّجُ مُسْلِمٌ كَافِرَةً إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ. وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ لاَ يَحِل ابْتِدَاءً النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَوْطِنُهُ (النِّكَاحُ) .
ج - وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ.
4 - اخْتِلاَفُ الدِّينِ بِالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ أَحَدُ مَوَانِعِ وِلاَيَةِ التَّزْوِيجِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ. فَلاَ يَلِي كَافِرٌ تَزْوِيجَ مُسْلِمَةٍ، وَلاَ مُسْلِمٌ تَزْوِيجَ كَافِرَةٍ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} . (5) وَاسْتَثْنَوْا جَمِيعًا تَزْوِيجَ الْمُسْلِمِ أَمَتَهُ الْكَافِرَةَ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُزَوِّجُهَا بِالْمِلْكِ لاَ بِالْوِلاَيَةِ، وَتَزْوِيجَ السُّلْطَانِ الْمُسْلِمِ أَوْ نَائِبِهِ الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ إِنْ تَعَذَّرَ وَلِيُّهَا الْخَاصُّ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ زَوَّجَ الْمُسْلِمُ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لِكَافِرٍ، يُتْرَكُ فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (6) . أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ الدِّينُ بِغَيْرِ الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ، كَتَزْوِيجِ الْيَهُودِيِّ مَوْلِيَتَهُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَعَكْسِهِ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ. وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ غَيْرُهُمْ (7) ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَتَخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي التَّوْرِيثِ، وَالْمُقَدَّمُ مَنْعُهُ.
د - الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال:
5 - لاَ تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى. {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (8) صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِمَنْعِ وِلاَيَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوِلاَيَةِ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ الذِّمِّيِّ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ صَرَّحُوا فِي الْوَصِيِّ خَاصَّةً أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الإِْسْلاَمَ (9) .
هـ - الْحَضَانَةُ:
6 - لِلْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ اخْتِلاَفِ الدِّينِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ ثَلاَثُ اتِّجَاهَاتٍ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ لاَ تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ أُمًّا، وَتَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ أَثَرَ لاِخْتِلاَفِ الدِّينِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْحَاضِنُ كَافِرًا مَجُوسِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَانَ الْمَحْضُونُ مُسْلِمًا. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَاضِنُ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. فَإِنْ خِيفَ عَلَى الْمَحْضُونِ مِنَ الْحَاضِنِ فَسَادٌ، كَأَنْ يُغَذِّيَهُ بِلَحْمِ خِنْزِيرٍ أَوْ خَمْرٍ، ضُمَّ إِلَى مُسْلِمٍ لِيَكُونَ رَقِيبًا عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْهُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ حَضَانَةِ النِّسَاءِ وَحَضَانَةِ الرِّجَال، فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ اتِّحَادُ الدِّينِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْحَاضِنَةِ وَبَيْنَ الْمَحْضُونِ. كَذَا فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ نَقْلاً عَنِ الأَْصْل. وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الشَّفَقَةَ عَلَى الْمَحْضُونِ الْمَطْلُوبَةَ لاَ تَخْتَلِفُ فِي الْحَاضِنَةِ بِاخْتِلاَفِ الدِّينِ. قَال: وَكَانَ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَقُول بِالنِّسْبَةِ لِحَضَانَةِ الأُْمِّ إِذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً وَوَلَدُهَا مُسْلِمٌ: إِنَّهَا أَحَقُّ بِالصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ حَتَّى يَعْقِلاَ. فَإِذَا عَقَلاَ سَقَطَ حَقُّهَا لأَِنَّهَا تُعَوِّدُهُمَا أَخْلاَقَ الْكَفَرَةِ. وَقَيَّدَهُ فِي النَّهْرِ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَإِنْ خِيفَ مِنْهَا أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ يُنْزَعُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَعْقِل.
أَمَّا حَضَانَةُ الرَّجُل فَيَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِلاَفُ الدِّينِ، فَلاَ حَقَّ لِلْعَصَبَةِ فِي حَضَانَةِ الصَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِ، لأَِنَّ هَذَا الْحَقَّ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ لِلْعَصَبَةِ، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ يَمْنَعُ التَّعْصِيبَ، فَلَوْ كَانَ لِلصَّبِيِّ الْيَهُودِيِّ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالآْخَرُ يَهُودِيٌّ فَحَضَانَتُهُ لأَِخِيهِ الْيَهُودِيِّ لأَِنَّهُ عَصَبَتُهُ (10) .
و تَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ فِي الدِّينِ:
7 - أَوَّلاً: إِذَا اخْتَلَفَ دِينُ الْوَالِدَيْنِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالآْخَرُ كَافِرًا فَإِنَّ وَلَدَهُمَا الصَّغِيرَ، أَوِ الْكَبِيرَ الَّذِي بَلَغَ مَجْنُونًا، يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِخَيْرِهِمَا دِينًا. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ وَخَيْرُ أَبَوَيْهِ مُتَّحِدَيِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كَأَنْ يَكُونَ خَيْرُ الأَْبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَوْ دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ حُكْمًا فَقَطْ بِأَنْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي دَارِنَا وَالأَْبُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الدَّارُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِأَنْ كَانَ الأَْبُ فِي دَارِنَا وَالْوَلَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَتْبَعْهُ (11) . أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الْوَلَدَ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ يَتْبَعُ فِي الإِْسْلاَمِ أَبَاهُ فَقَطْ لاَ أُمَّهُ وَلاَ جَدَّهُ (12) .
8 - ثَانِيًا: إِذَا اخْتَلَفَ دِينُ الْوَالِدَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، فَإِنَّ الْوَلَدَ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ يَتْبَعُ خَيْرَهُمَا دِينًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَمُقْتَضَى قَوْل الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لأَِبِيهِ فِي الدِّينِ دُونَ أُمِّهِ، وَاضِحٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَاخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتَخَيَّرُ بَعْدَ بُلُوغِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ نَصْرَانِيًّا وَالآْخَرُ يَهُودِيًّا وَكَانَ لَهُمَا وَلَدَانِ فَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْيَهُودِيَّةَ وَالآْخَرُ النَّصْرَانِيَّةَ حَصَل التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ (13) . وَلَمْ يُعْثَرْ لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ز - النَّفَقَةُ:
9 - لاَ يَمْنَعُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ وُجُوبَ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمَمَالِيكِ. أَمَّا النَّفَقَةُ عَلَى الأَْقَارِبِ فَيَمْنَعُهَا اخْتِلاَفُ الدِّينِ. فَلاَ يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ نَفَقَةُ قَرِيبِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ دِينُهُمَا وَاحِدًا. وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي هَذَا فِي غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ.
10 - أَمَّا عَمُودَا النَّسَبِ، وَهُمَا الأُْصُول وَالْفُرُوعُ فَفِيهِمَا اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: تَجِبُ النَّفَقَةُ لَهُمْ سَوَاءٌ اتَّفَقَ الدِّينُ أَمِ اخْتَلَفَ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقْصُرُونَ نَفَقَةَ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ، وَلاَ يُوجِبُونَهَا لِلأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَوَلَدِ الْبَنِينَ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْهُمَامِ الْحَرْبِيِّينَ مِنْهُمْ فَلاَ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ؛ لأَِنَّا نُهِينَا عَنِ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي الدِّينِ.
وَدَلِيل هَذَا الاِتِّجَاهِ أَنَّ هَذَا الْقَرِيبَ يُعْتَقُ عَلَى قَرِيبِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ هُنَا بِحَقِّ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الدِّينِ، وَجُزْءُ الْمَرْءِ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ.
وَالاِتِّجَاهُ الثَّانِي: لاَ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. وَدَلِيلُهُ أَنَّهَا مُوَاسَاةٌ تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ؛ وَلأَِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ، فَلَمْ يَجِبْ لأَِحَدِهِمَا نَفَقَةٌ عَلَى الآْخَرِ (14) .
ح - الْعَقْل (حَمْل الدِّيَةِ) :
11 - اخْتِلاَفُ الدِّينِ بِالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ يَمْنَعُ الْعَقْل، فَلاَ يَعْقِل كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلاَ مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، حَتَّى لَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ بَيْتَ مَال الْمُسْلِمِينَ يَعْقِل عَنِ الْمُسْلِمِ إِنْ عَجَزَتْ عَاقِلَتُهُ، وَلاَ يَعْقِل عَنْ كَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ، أَوْ مُرْتَدٍّ؛ لاِخْتِلاَفِ الدِّينِ. ثُمَّ قَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَعْقِل يَهُودِيٌّ عَنْ نَصْرَانِيٍّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ عَنْ يَهُودِيٍّ. وَخَالَفَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَالْكُفَّارُ عِنْدَهُمْ يَتَعَاقَلُونَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ. قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: لأَِنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الدَّارِ (15) .
ط - الْوَصِيَّةُ:
12 - يَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْ مُسْلِمٍ لِذِمِّيٍّ، أَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ لِمُسْلِمٍ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (16) ، وَلأَِنَّ الْكُفْرَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمَلُّكِ، فَكَمَا يَصِحُّ بَيْعُ الْكَافِرِ وَهِبَتُهُ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.
وَرَأَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا إِنَّمَا تَصِحُّ لِلذِّمِّيِّ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، كَمَا لَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لِفُلاَنٍ. أَمَّا لَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لِلْيَهُودِ أَوْ لِلنَّصَارَى أَوْ حَتَّى لَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لِفُلاَنٍ الْكَافِرِ فَلاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ جَعَل الْكُفْرَ حَامِلاً عَلَى الْوَصِيَّةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُوَافِقُونَ مَنْ سِوَاهُمْ عَلَى صِحَّةِ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ لِمُسْلِمٍ. أَمَّا وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِذِمِّيٍّ فَيَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ الْجَوَازَ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ، بِأَنْ كَانَتْ لأَِجْل قَرَابَةٍ، وَإِلاَّ كُرِهَتْ. إِذْ لاَ يُوصِي لِلْكَافِرِ وَيَدَعُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ مُسْلِمٌ مَرِيضُ الإِْيمَانِ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا فِي الطَّحَاوِيِّ عَلَى الدُّرِّ، وَغَيْرِهِ، بِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَوْصَى لِكَافِرٍ مِنْ مِلَّةٍ أُخْرَى جَازَ، اعْتِبَارًا لِلإِْرْثِ، إِذِ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (17) . ي - الشَّرِكَةُ:
13 - لاَ يَمْنَعُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ قِيَامَ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَلاَّ يَنْفَرِدَ الْكَافِرُ بِالتَّصَرُّفِ لأَِنَّهُ يَعْمَل بِالرِّبَا وَلاَ يَحْتَرِزُ مِمَّا يَحْتَرِزُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ. قَال الْحَنَابِلَةُ: وَمَا يَشْتَرِيهِ الْكِتَابِيُّ أَوْ يَبِيعُهُ مِنَ الْخَمْرِ بِمَال الشَّرِكَةِ أَوِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: شَرِكَةُ الذِّمِّيِّ لِمُسْلِمٍ صَحِيحَةٌ بِقَيْدِ حُضُورِ الْمُسْلِمِ لِتَصَرُّفِ الْكَافِرِ. وَأَمَّا عِنْدَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلاَ يَجُوزُ، وَيَصِحُّ بَعْدَ الْوُقُوعِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ إِنْ حَصَل لِلْمُسْلِمِ شَكٌّ فِي عَمَل الذِّمِّيِّ بِالرِّبَا اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (18) وَإِنْ شَكَّ فِي عَمَلِهِ بِالْخَمْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَال جَمِيعًا لِوُجُوبِ إِرَاقَةِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَإِنْ تَحَقَّقَ وَجَبَ التَّصَدُّقُ. وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الذِّمِّيَّ الْمَجُوسِيَّ تُكْرَهُ مُشَارَكَتُهُ أَصْلاً وَتَصِحُّ بِالْقُيُودِ السَّابِقَةِ. وَالشَّافِعِيَّةُ يُعَمِّمُونَ الْكَرَاهَةَ فِي مُشَارَكَةِ كُل كَافِرٍ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْمُفَاوَضَةِ خَاصَّةً التَّسَاوِيَ فِي الدِّينِ، فَتَصِحُّ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، وَبَيْنَ نَصْرَانِيَّيْنِ وَلاَ تَصِحُّ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِهَا التَّسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ " لأَِنَّ الْكَافِرَ إِذَا اشْتَرَى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لاَ يَقْدِرُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَبِيعَهُ وَكَالَةً مِنْ جِهَتِهِ فَيَفُوتُ شَرْطُ التَّسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ ".
وَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَعَلَّل الْكَرَاهَةَ بِأَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَهْتَدِي إِلَى الْجَائِزِ مِنَ الْعُقُودِ. وَأَمَّا بَيْنَ كَافِرَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْمِلَّةِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَتَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَتَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ أَيْضًا. وَفِي الْبَدَائِعِ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُضَارَبَةِ تَصِحُّ بَيْنَهُمَا أَيْضًا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لاِخْتِلاَفِ الدِّينِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَشَرِكَةِ الأَْعْمَال (1) .
ك - حَدُّ الْقَذْفِ:
14 - إِذَا قَذَفَ الذِّمِّيُّ بِالزِّنَا مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ. وَإِذَا قَذَفَ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُسْلِمَةُ كَافِرًا، ذِمِّيًّا أَوْ غَيْرَهُ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالإِْحْصَانُ شَرْطُهُ الإِْسْلاَمُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَزَّرُ الْقَاذِفُ لأَِجْل الْفِرْيَةِ.
وَخَالَفَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى فِيمَنْ قَذَفَ ذِمِّيَّةً لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، فَقَالاَ: يُحَدُّ لِذَلِكَ (2) .
__________
(1) العذب الفائض 1 / 30 - 32، وابن عابدين 5 / 489 ط بولاق 1272 هـ. وحديث " الإسلام يزيد ولا ينقص " أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو داود والحاكم والبيهقي في السنن من حديث معاذ بن جبل. قال الحافظ في الفتح: قال الحاكم: صحيح. وتعقب بالانقطاع (فيض القدير 3 / 179) . وقال المنذري: فيه رجل مجهول (عون المعبود 8 / 123 ط السلفية) .
(2) سورة الأنفال / 73
(3) سورة المائدة / 48
(4) العذب الفائض 1 / 32، والمبسوط للسرخسي 30 / 30 - 33، وحديث " لا لوارث أهل ملتين شتى) قال المنذري: أخرجه النسائي وابن ماجه وأخرجه الترمذي من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر وقال: غريب لا نعرفه من حديث جابر إلا من حديث ابن أبي ليلى. قال صاحب عون المعبود: ابن أبي ليلى هذا لا يحتج بحديثه (عون المعبود 8 / 122 ط السلفية) .
(5) سورة المائدة / 55
(6) ابن عابدين 2 / 312، والحطاب مع المواق 3 / 438 مكتبة النجاح في ليبيا عن طبعة القاهرة، والصاوي على الشرح الصغير 1 / 387 ط مصطفى الحلبي، والجمل على المنهج 4 / 156، والمغني 7 / 364 ط الأولى.
(7) كشاف القناع 5 / 40 مطبعة أنصار السنة بالقاهرة.
(8) سورة النساء / 141.
(9) كشاف القناع 2 / 223، ونهاية المحتاج 4 / 363 ط مصطفى الحلبي، والبدائع 5 / 53 ط سنة 1327 هـ، والخرشي 8 / 192 ط 1316 هـ
(10) بدائع الصنائع 4 / 42، 43، وحاشية ابن عابدين 2 / 639، وحاشية الدسوقي 2 / 529 ط عيسى الحلبي، ونهاية المحتاج 7 / 218، والمغني 9 / 297
(11) حاشية ابن عابدين 2 / 394، 395، والزيلعي 2 / 173، ومطالب أولي النهى 6 / 306، وحاشية القليوبي على الشرح المنهاج 3 / 126، وما بعدها ط عيسى الحلبي.
(12) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 200 و 4 / 308
(13) حاشية القليوبي 3 / 148، والزيلعي 2 / 173
(14) بدائع الصنائع 4 / 36، وفتح القدير 3 / 348 ط بولاق، وحاشية الدسوقي 2 / 522، ونهاية المحتاج 7 / 208، والمغني 9 / 259
(15) الطحطاوي على الدر المختار 4 / 312 ط بولاق، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 283، ونهاية المحتاج 7 / 353، وكشاف القناع 6 / 49
(16) سورة الممتحنة / 8
(17) الطحطاوي 4 / 336، والبدائع 7 / 335، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 426، ونهاية المحتاج 6 / 48، وكشاف القناع 4 / 296
(18) سورة البقرة / 279
الموسوعة الفقهية الكويتية: 308/ 2