السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
ما تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الاِنْتِفَاعِ به مما حَوْل الشيء، كالآبار، والشجر، وسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأِنَّهُ يَحْرُمُ التعدي عليه . ومن أمثلته تحديد الشرع حريماً للآبار، وشاهده في الحديث الشريف : " حريم البئر العادية خمسون ذراعاً، وحريم البئر النادي خمس وعشرون ذراعاً . " الحاكم : 7041.
ما تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الاِنْتِفَاعِ به مما حَوْل الشيء، كالآبار، والشجر، وسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأِنَّهُ يَحْرُمُ التعدي عليه.
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلْحَرِيمِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: مَا حُرِّمَ فَلاَ يُنْتَهَكُ، وَالْحَرِيمُ أَيْضًا مَا يَتَجَرَّدُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنْ ثِيَابِ، وَفِنَاءُ الدَّارِ أَوِ الْمَسْجِدِ، وَحَرِيمُ الرَّجُل مَا يُقَاتِل عَنْهُ وَيَحْمِيهِ، وَالْحَرِيمُ أَيْضًا الْحِمَى، وَجَمْعُهُ حُرُمٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَرِيمُ الشَّيْءِ: مَا حَوْلَهُ مِنْ حُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ (2) .
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَرِيمَ بِأَنَّهُ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الاِنْتِفَاعِ وَإِِنْ حَصَل أَصْل الاِنْتِفَاعِ بِدُونِهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحِمَى:
2 - الْحِمَى بِمَعْنَى الْمَحْمِيِّ، مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُول، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْحِمَايَةُ وَالتَّحْجِيرُ. يُقَال: هَذَا شَيْءٌ حِمًى. أَيْ مَحْظُورٌ لاَ يُقْرَبُ.
وَشَرْعًا: أَنْ يَحْمِيَ الإِِْمَامُ أَرْضًا مِنَ الْمَوَاتِ، فَيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ رَعْيِ مَا فِيهَا مِنَ الْكَلأَِ لِيَخْتَصَّ بِهَا دُونَهُمْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ لاَ لِنَفْسِهِ.
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْحِمَى الشَّرْعِيَّ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يَحْمِيَ الإِِْمَامُ مَكَانًا خَاصًّا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ (4) كَمَا فِي الْحَدِيثِ: الْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ (5) .
فَالْحِمَى وَالْحَرِيمُ فِي بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِمَا اللُّغَوِيَّةِ مُتَّفِقَانِ. وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَمُخْتَلِفَانِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِحْيَاءُ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَكُل مَمْلُوكٍ لاَ يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ، لِقَوْلِهِ ﵊: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ (6) . لأَِنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَمْلُوكِ، فَلَوْ جُوِّزَ إِحْيَاؤُهُ لَبَطَل الْمِلْكُ فِي الْعَامِرِ عَلَى أَهْلِهِ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَمَلُّكُ حَرِيمِ الأَْرَاضِيِ الْعَامِرَةِ لأَِنَّهُ تَابِعٌ لِلْعَامِرِ، فَلاَ يُمْلَكُ، لَكِنَّ صَاحِبَ الأَْرَاضِيِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يُمْلَكُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، لأَِنَّهُ مَكَانٌ اسْتَحَقَّهُ بِالإِِْحْيَاءِ، فَمَلَكَهُ كَالْمَحْمِيِّ، وَلأَِنَّ مَعْنَى الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ، لأَِنَّهُ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ يَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُهَا (7) .
4 - وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحَرِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَل لِلْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَكُل أَرْضٍ حَرِيمًا، بِقَوْلِهِ ﷺ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ (8) . وَشُرُوطُ تَمَلُّكِ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْعُيُونِ، وَالأَْنْهَارِ وَغَيْرِهَا، فَإِِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهَا إِِلَى شُرُوطِ تَمَلُّكِ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ بِإِِحْيَائِهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) .
مِقْدَارُ الْحَرِيمِ:
5 - يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ الْحَرِيمِ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَرِيمُ كَالْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالشَّجَرِ وَغَيْرِهَا، وَفِي كُلٍّ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - حَرِيمُ الْبِئْرِ:
6 - اخْتَلَفَ الأَْئِمَّةُ فِي مِقْدَارِ حَرِيمِ الْبِئْرِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ حَرِيمَ بِئْرِ الْعَطَنِ (9) أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا (10) مِنْ كُل جَانِبٍ، وَقِيل مِنَ الْجَوَانِبِ كُلِّهَا: أَيْ مِنْ كُل جَانِبٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ ﷺ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ، كَيْ لاَ يَحْفِرَ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّل إِلَيْهَا مَاءُ بِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ لاَ يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُل جَانِبٍ، فَإِِنَّ الأَْرَاضِيَ تَخْتَلِفُ بِالصَّلاَبَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَأَيْضًا فَإِِنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ الْمَاءَ، وَإِِلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ مَا يُرَكَّبُ عَلَيْهِ الْبَكَرَةُ، وَإِِلَى أَنْ يَبْنِيَ حَوْضًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَإِِلَى مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ مَوَاشِيهِ حَالَةَ الشُّرْبِ وَبَعْدَهُ، فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي بِئْرِ النَّاضِحِ - وَهِيَ الْبِئْرُ الَّتِي يُنْزَعُ الْمَاءُ مِنْهَا بِالْبَعِيرِ - فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِِلَى أَنَّ حَرِيمَ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا، لِقَوْلِهِ ﵊: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا (11) وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إِِلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلاِسْتِسْقَاءِ، وَأَمَّا بِئْرُ الْعَطَنِ فَالاِسْتِسْقَاءُ مِنْهُ بِالْيَدِ، فَقَلَّتِ الْحَاجَةُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّفَاوُتِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ التَّاتَرْخَانِيَّةِ أَنَّهُ يُفْتَى بِقَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَفِي الشُّرُنْبُلاَلِيَّةِ أَنَّهُ يُفْتَى بِقَوْل الإِِْمَامِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ وَعَزَاهُ لِلْهِدَايَةِ: وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْبِئْرِ بِمَا ذَكَرَ فِي أَرَاضِيِهِمْ لِصَلاَبَتِهَا، أَمَّا فِي أَرَاضِيِنَا فَفِيهَا رَخْوَةٌ، فَيَزْدَادُ، لِئَلاَّ يَنْتَقِل الْمَاءُ إِِلَى الثَّانِي (12)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْبِئْرَ لَيْسَ لَهَا حَرِيمٌ مُقَدَّرٌ.
فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ مَا حَوْلَهُ، فَهُوَ يَخْتَلِفُ بِقَدْرِ كُبْرِ الْبِئْرِ، وَصِغَرِهَا، وَشِدَّةِ الأَْرْضِ وَرَخَاوَتِهَا، وَمَا يَضِيقُ عَلَى وَارِدٍ لِشُرْبٍ أَوْ سَقْيٍ.
قَال عِيَاضٌ: حَرِيمُ الْبِئْرِ مَا يَتَّصِل بِهَا مِنَ الأَْرْضِ الَّتِي مِنْ حَقِّهَا أَنْ لاَ يَحْدُثَ فِيهَا مَا يَضُرُّ بِهَا لاَ بَاطِنًا كَحَفْرِ بِئْرٍ يُنَشِّفُ مَاءَهَا أَوْ يُذْهِبُهُ، أَوْ يُغَيِّرُهُ كَحَفْرِ مِرْحَاضٍ تُطْرَحُ النَّجَاسَاتُ فِيهِ، وَيَصِل إِلَيْهَا وَسَخُهَا (13) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الْمَوَاتِ مَوْقِفُ النَّازِحِ مِنْهَا (وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ) ، وَالْحَوْضُ (وَهُوَ مَا يَصُبُّ النَّازِحُ فِيهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْبِئْرِ) وَمَوْضِعُ الدُّولاَبِ، وَمُجْتَمَعُ الْمَاءِ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مِنَ الْحَوْضِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، وَمُتَرَدَّدُ الْبَهِيمَةِ إِنْ كَانَ الاِسْتِقَاءُ بِهَا.
وَحَرِيمُ بِئْرِ الشُّرْبِ: مَوْضِعُ الْمُسْتَقِي مِنْهَا، وَكُل ذَلِكَ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، وَإِِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهَل مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ، أَوْ جَانِبٍ وَاحِدٍ؟ الأَْقْرَبُ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ فِي مِثْل ذَلِكَ الْمَحَل.
وَفِي مُخَالِفِ الْمَشْهُورِ: حَرِيمُ الْبِئْرِ قَدْرُ عُمْقِهَا مِنْ كُل جَانِبٍ (14) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْبِئْرِ الْقَدِيمَةِ، وَالْبِئْرِ الْبَدِيءِ أَيِ الَّتِي ابْتُدِئَ عَمَلُهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِِلَى أَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ الْقَدِيمَةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُل جَانِبٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالْبِئْرِ الْقَدِيمَةِ هِيَ الَّتِي انْطَمَّتْ وَذَهَبَ مَاؤُهَا فَجُدِّدَ حَفْرُهَا وَعِمَارَتُهَا.
وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيءِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُل جَانِبٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَال: السُّنَّةُ فِي حَرِيمِ الْقَلِيبِ - الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ (15) - خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمِ الْبَدِيءِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ "، وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ إِِلَى الْبِئْرِ لاَ تَنْحَصِرُ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ، فَإِِنَّهُ يُحْتَاجُ إِِلَى مَا حَوْلَهَا عَطَنًا لإِِِبِلِهِ، وَمَوْقِفًا لِدَوَابِّهِ وَغَنَمِهِ، وَمَوْضِعًا يَجْعَل فِيهِ أَحْوَاضًا يَسْقِي مِنْهَا مَاشِيَتَهُ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَلاَ يَخْتَصُّ الْحَرِيمُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَرْقِيَةِ الْمَاءِ فَقَطْ.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيقُ التَّحْدِيدِ، بَل حَرِيمُهَا فِي الْحَقِيقَةِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَرْقِيَةِ مَائِهَا مِنْهَا فَإِِنْ كَانَ بِدُولاَبٍ فَقَدْرُ مَدِّ الثَّوْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِِنْ كَانَ بِسَاقِيَّةٍ فَبِقَدْرِ طُول الْبِئْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: حَرِيمُ الْبِئْرِ قَدْرُ رِشَائِهَا (16) . وَلأَِنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي تَمْشِي إِلَيْهِ الْبَهِيمَةُ. وَإِِنْ كَانَ يَسْتَقِي مِنْهَا بِيَدِهِ فَبِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَاقِفُ عِنْدَهَا (17) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ) فِقْرَةُ 18.
ب - حَرِيمُ الْعَيْنِ:
7 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ حَرِيمَ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُل جَانِبٍ، لِقَوْل الزُّهْرِيِّ: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُل نَاحِيَةٍ. فَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الْحَفْرِ فِيهِ، وَلَهُ تَضْمِينُ الْمُعْتَدِي، أَوْ رَدْمُ الْحُفْرَةِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ (18) .
وَلأَِنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلاَ بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَمِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي إِلَيْهِ وَمِنْهُ إِِلَى الْمَزْرَعَةِ، فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَلاَ مَدْخَل لِلرَّأْيِ فِي الْمَقَادِيرِ فَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَلَوْ عَلَى أَلْفِ ذِرَاعٍ (19) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إِِلَى الْعُرْفِ (20) .
ج - حَرِيمُ الْقَنَاةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَرِيمِ الْقَنَاةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَقِيل: يَكُونُ حَرِيمُهَا بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا لإِِِلْقَاءِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ.
وَقِيل: إِنَّ لَهَا حَرِيمًا مُفَوَّضًا إِِلَى رَأْيِ الإِِْمَامِ، لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي الشَّرْعِ. وَقِيل: حُكْمُ الْقَنَاةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَاءِ كَالْعَيْنِ، وَقَبْلَهُ مُفَوَّضٌ إِِلَى رَأْيِ الإِِْمَامِ، قِيل: هَذَا قَوْلُهُمَا، أَمَّا عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فَلاَ حَرِيمَ لِلْقَنَاةِ مَا لَمْ يَظْهَرِ الْمَاءُ، لأَِنَّهُ نَهْرٌ مَطْوِيٌّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ، وَلاَ حَرِيمَ لِلنَّهْرِ عِنْدَهُ فِي قَوْلٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهَا كَالْبِئْرِ (21) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ حَرِيمَ الْقَنَاةِ الْمُحَيَّاةِ، لاَ لِلاِسْتِسْقَاءِ مِنْهَا الْقَدْرُ الَّذِي لَوْ حُفِرَ فِيهِ لَنَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ مِنْهُ انْهِيَارٌ أَوِ انْكِبَاسٌ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلاَبَةِ الأَْرْضِ وَرَخَاوَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، وَفِي وَجْهٍ حَرِيمُهَا حَرِيمُ الْبِئْرِ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا، وَلاَ يُمْنَعُ مِنَ الْحَفْرِ إِذَا جَاوَرَهُ وَإِِنْ نَقَصَ الْمَاءُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ (22) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ (23) .
د - حَرِيمُ النَّهْرِ:
9 - الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لإِِِلْقَاءِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ، فِيمَا لَوْ أَحْيَاهُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ، وَقِيل: لاَ حَرِيمَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوْ كَانَ النَّهْرُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ حَرِيمَ لِلنَّهْرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِبُرْهَانٍ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ لاَ يَشْهَدُ لَهُ، بَل لِصَاحِبِ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ مِنْ جِنْسِ أَرْضِهِ، وَالْقَوْل لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَهُ حَرِيمٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ لِلْحَاجَةِ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَصَاحِبِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، إِذْ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِِلَى الْمَشْيِ عَلَى حَافَّتَيِ النَّهْرِ، كَمَا يَحْتَاجُ إِِلَى مَوْضِعٍ لإِِِلْقَاءِ الطِّينِ عَلَيْهِ عِنْدَ كَرْيِ النَّهْرِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِهِ:
فَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ مِنْ كُل جَانِبٍ، وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ، وَهُوَ أَرْفَقُ، لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ التُّرَابِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَيَحْتَاجُ إِِلَى إِلْقَائِهِ فِي أَحَدِهِمَا، وَقَدَّرَهُ أَبُو يُوسُفَ بِنِصْفِ عَرْضِهِ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ الْحَاجَةُ الْغَالِبَةُ وَذَلِكَ بِنَقْل تُرَابِهِ إِِلَى حَافَّتَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ قَوْل الْقُهُسْتَانِيِّ الَّذِي عَزَاهُ إِِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ: أَنَّ الاِخْتِلاَفَ الْمَذْكُورَ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لاَ يَحْتَاجُ إِِلَى كَرْيِهِ (حَفْرِهِ) فِي كُل حِينٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ النَّهْرُ صَغِيرًايَحْتَاجُ إِِلَى كَرْيِهِ فِي كُل حِينٍ فَلَهُ حَرِيمٌ بِالاِتِّفَاقِ (24) .
وَحَرِيمُ النَّهْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا لاَ يَضِيقُ عَلَى مَنْ يَرِدُهُ مِنَ الآْدَمِيِّينَ، وَالْبَهَائِمِ، وَقِيل أَلْفَا ذِرَاعٍ (25) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ حَرِيمَ النَّهْرِ مِنْ حَافَّتَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّهْرُ لإِِِلْقَاءِ الطِّينِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ (26) .
هـ - حَرِيمُ الشَّجَرِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ حَرِيمَ الشَّجَرَةِ الْمَغْرُوسَةِ بِالإِِْذْنِ السُّلْطَانِيِّ فِي الأَْرَاضِي الْمَوَاتِ مِنْ كُل جِهَةٍ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَل حَرِيمَ الشَّجَرَةِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ (27) ، وَلأَِنَّهُ يُحْتَاجُ إِِلَى الْحَرِيمِ لِجُذَاذِ ثَمَرِهِ، وَالْوَضْعِ فِيهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لاَ تَقْدِيرَ لَهُ، لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْحَال بِكِبَرِ الشَّجَرَةِ وَصِغَرِهَا (28) . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ عُرْفًا لِشَجَرَةٍ مِنْ نَخْلٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيُتْرَكُ مَا أَضَرَّ بِهَا. وَيُسْأَل عَنْ ذَلِكَ أَهْل الْعِلْمِ بِهِ، فَيَكُونُ الْحَرِيمُ لِكُل شَجَرَةٍ بِقَدْرِ مَصْلَحَتِهَا. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الأَْصْل فِي تَقْدِيرِ الْحَرِيمِ الرُّجُوعُ إِِلَى الْعُرْفِ، حَتَّى إِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ قَدْ رُوعِيَ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْحَاجَةُ.
وَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ فِي النَّخْلَةِ: إِنَّ حَرِيمَهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا إِِلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، قَال الْمَوَّاقُ: وَذَلِكَ حَسَنٌ (29) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَحَرِيمُ الشَّجَرَةِ قَدْرُ مَا تَمُدُّ إِلَيْهِ أَغْصَانُهَا حَوَالَيْهَا، وَفِي النَّخْلَةِ قَدْرُ مَدِّ جَرِيدِهَا (30) ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدُ بِإِِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَال: اخْتُصِمَ إِِلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ، فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرَائِدِهَا، فَذُرِعَتْ فَكَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ أَوْ خَمْسَةً، فَقَضَى بِذَلِكَ (31) .
و حَرِيمُ الدَّارِ:
11 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّ حَرِيمَ الدَّارِ الْمَحْفُوفَةِ بِالْمَوَاتِ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ مِنْ مَطْرَحِ تُرَابٍ وَكُنَاسَةٍ وَثَلْجٍ، أَوْ مَصَبِّ مِيزَابٍ، وَمَمَرٍّ فِي صَوْبِ الْبَابِ لأَِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَرْتَفِقُ بِهِ سَاكِنُهَا.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ بَنَى دَارًا فِي مَفَازَةٍ لاَ يَسْتَحِقُّ حَرِيمًا، وَإِِنِ احْتَاجَهُ لإِِِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ.
وَلاَ تُخْتَصُّ الدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ كُل جَانِبٍ بِالْحَرِيمِ، لاِنْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، لأَِنَّ الأَْمْلاَكَ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَيْسَ جَعْل مَوْضِعٍ حَرِيمًا لِدَارٍ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَرِيمًا لأُِخْرَى، وَكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُلاَّكِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ فِي التَّصَرُّفِ (32) .
ز - حَرِيمُ الْقَرْيَةِ:
12 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ حَرِيمَ الْقَرْيَةِ مُحْتَطَبُهَا وَمَرْعَاهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ مِنَ الذَّهَابِ وَالإِِْيَابِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ، فَيَخْتَصُّونَ بِهِ، وَلَهُمْ مَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْهُ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ لِلْجَمِيعِ. وَمَنْ أَتَى مِنْهُ بِحَطَبٍ أَوْ حَشِيشٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مَلَكَهُ وَحْدَهُ (33) . ح - حَرِيمُ أَرْضِ الزِّرَاعَةِ:
13 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ: حَرِيمُ أَرْضِ الزَّرْعِ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَاؤُهَا، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إِلَيْهِ صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا (34) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حَرِيمَ أَرْضِ الزِّرَاعَةِ قَدْرُ مَا يَحْتَاجُهُ زُرَّاعُهَا لِسَقْيِهَا، وَرَبْطِ دَوَابِّهَا، وَطَرْحِ سَبَخِهَا وَنَحْوِهِ، لأَِنَّ كُل الْمَذْكُورِ مِنْ مَرَافِقِهَا (35) .
الْبِنَاءُ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ وَالدَّارِ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ:
14 - يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي حَرِيمِ الدَّارِ، وَيَمْتَنِعُ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ، وَلَوْ مَسْجِدًا، وَيُهْدَمُ مَا بُنِيَ فِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَإِِنْ بَعُدَ عَنْهُ الْمَاءُ، لاِحْتِمَال عَوْدِهِ إِلَيْهِ.
وَيَقُول الشَبْرَامَلِّسِي: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَيِسَ مِنْ عَوْدِهِ جَازَ.
وَلاَ تَحْرُمُ الصَّلاَةُ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ، وَإِِنْ كَانَ وَاجِبَ الْهَدْمِ.
أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِحَرِيمِ الأَْنْهَارِ كَحَافَّاتِهَا بِوَضْعِ الأَْحْمَال وَالأَْثْقَال، وَجَعْل زَرِيبَةٍ مِنْ قَصَبٍ وَنَحْوِهِ لِحِفْظِ الأَْمْتِعَةِ فِيهَا فَيَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَهُ لِلاِرْتِفَاقِ بِهِ وَلاَ يُضِرُّ بِانْتِفَاعِ غَيْرِهِ، وَلاَ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ وَنَحْوِهِمْ، وَلاَ يُعَطِّل أَوْ يُنْقِصُ مَنْفَعَةَ النَّهْرِ.
فَإِِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ مِنَ الْحَرِيمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِِلاَّ حَرُمَ، وَلَزِمَتْهُ الأُْجْرَةُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (36) .
اسْتِعْمَالاَتٌ أُخْرَى لِكَلِمَةِ الْحَرِيمِ:
اسْتَعْمَل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ الْحَرِيمِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى: كَحَرِيمِ الْمُصَلِّي، وَحَرِيمِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا، نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - حَرِيمُ الْمُصَلِّي:
15 - صَرَّحَ الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حَرِيمِ الْمُصَلِّي الَّذِي يُمْنَعُ الْمُرُورُ فِيهِ:
قَال ابْنُ هِلاَلٍ: كَانَ ابْنُ عَرَفَةَ يَقُول: هُوَ مَا لاَ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ الْمُرُورُ فِيهِ، وَيَحُدُّهُ بِنَحْوِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا.
وَاخْتَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ حَرِيمَ الْمُصَلِّي قَدْرُ مَا يَحْتَاجُهُ لِقِيَامِهِ وَرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ.
وَقِيل: إِنَّ قَدْرَهُ رَمْيَةُ الْحَجَرِ أَوِ السَّهْمِ، أَوِ الْمُضَارَبَةُ بِالسَّيْفِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ: أَنَّ حَرِيمَ الْمُصَلِّي غَايَةُ إِمْكَانِ سُجُودِهِ الْمُقَدَّرِ بِثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ (37) .
وَالأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَإِِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذَا الإِِْطْلاَقَ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا هَذِهِ الْمَسَافَةَ بِثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ، وَأَقَلُّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ذِرَاعٌ وَاحِدٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الْيَدِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ شِبْرَانِ (38) .
ب - حَرِيمُ النَّجَاسَةِ:
16 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ لاَ حَرِيمَ لَهَا يُجْتَنَبُ، وَقِيل: يَجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْ حَرِيمِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَا تَغَيَّرَ شَكْلُهُ بِسَبَبِ النَّجَاسَةِ.
وَدَلِيلُهُمْ: أَنَّ تَرَادَّ الْمَاءِ يُوجِبُ تَسَاوِي أَجْزَائِهِ فِي النَّجَاسَةِ، فَالْقَرِيبُ، وَالْبَعِيدُ سَوَاءٌ (39) .
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى فَقَدْ تَعَرَّضُوا لِهَذَا الْمَوْضُوعِ دُونَ اسْتِعْمَال كَلِمَةِ الْحَرِيمِ (40) . حَرِيمُ الْحَرَامِ، وَالْوَاجِبِ، وَالْمَكْرُوهِ:
17 - حُكْمُ الْحَرِيمِ حُكْمُ مَا هُوَ حَرِيمٌ لَهُ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْحَرِيمُ يَدْخُل فِي الْوَاجِبِ وَالْمَكْرُوهِ، فَكُل مُحَرَّمٍ لَهُ حَرِيمٌ يُحِيطُ بِهِ، وَالْحَرِيمُ هُوَ الْمُحِيطُ بِالْحَرَامِ كَالْفَخِذَيْنِ: فَإِِنَّهُمَا حَرِيمٌ لِلْعَوْرَةِ الْكُبْرَى.
وَحَرِيمُ الْوَاجِبِ، مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، وَأَمَّا الإِِْبَاحَةُ فَلاَ حَرِيمَ لَهَا لِسَعَتِهَا، وَعَدَمِ الْحَجْرِ فِيهَا (41) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ (42) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 279، ولسان العرب المحيط، والمصباح المنير مادة: (حرم) . وحاشية الدرر على الغرر 1 / 192 ط دار سعادت.
(2) المراجع السابقة.
(3) نهاية المحتاج 5 / 334 ط مصطفى البابي الحلبي.
(4) الشرح الصغير 4 / 92، والقليوبي 3 / 92، 93 ط دار إحياء الكتب العربية وشرح الزرقاني 7 / 66، 67 ط دار الفكر، والمغني 5 / 580 ط الرياض.
(5) حديث: " المعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 290 - ط السلفية) من حديث النعمان بن بشير.
(6) حديث: " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في فتح الباري لابن حجر (5 / 19 - ط السلفية) وأعله بضعف أحد رواته. والحديث دون قوله " في غير حق مسلم " ذكر ابن حجر تخريجه في الفتح وقال: " في أسانيدها مقال، لكن يتقوى
(7) تبيين الحقائق 6 / 36، 37 ط دار المعرفة، والشرح الصغير 4 / 88، 89 ط دار المعارف، وروضة الطالبين 5 / 281، 282، والمغني 5 / 566، 567، 569، وكشاف القناع 4 / 191، 192.
(8) حديث: " من حفر " أخرجه ابن ماجه (2 / 831 ط عيسى الحلبي) والدارمي (2 / 186 ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن مغفل. وأخرجه الحاكم (4 / 97 نشر الكتاب العربي) موصولا ومرسلا، وأخرجه أحمد (2 / 494 ط المكتب الإسلامي) من حديث أبي هريرة وهو حديث حسن بمجموع طرقه.
(9) العطن مبرك الإبل، وبئر العطن هي التي ينزح منها الماء باليد (الاختيار 3 / 68) .
(10) والمراد بالذراع هنا ذراع اليد، لأنه المتبادر عند الإطلاق وهو ست قبضات كل قبضة أربع أصابع. (ابن عابدين 5 / 279 وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 192) .
(11) حديث: " حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم بئر العطن. . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 292 - ط المجلس العلمي) وقال: " غريب " وقد اصطلح في مقدمة كتابه أن قوله في الحديث " غريب " يعني به أنه لا أصل له.
(12) ابن عابدين 5 / 279، والاختيار 3 / 67، 68، والبدائع 6 / 195، وتبيين الحقائق 6 / 37.
(13) الشرح الصغير 4 / 89، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 6 / 3، وشرح الزرقاني 7 / 65، والقوانين الفقهية / 344.
(14) نهاية المحتاج 5 / 332، وروضة الطالبين 5 / 283، 284.
(15) البئر العادية: البئر القديمة منسوبة إلى عاد وليس المراد عادا بعينها لكن لما كانت عاد في الزمن الأول وكانت لها آثار في الأرض نسب إليها كل قديم (المغني 5 / 593) .
(16) حديث: " حريم البئر قدر رشائها " أخرجه ابن ماجه (2 / 831 - ط الحلبي) ونقل المناوي في الفيض (3 / 382 - ط المكتبة التجارية) عن الذهبي أنه قال: " فيه منصور بن صقير، وفيه لين ".
(17) الحطاب 6 / 3 ط دار الفكر، والمغني 5 / 593، 594.
(18) حديث: " حريم العين خمسمائة ذراع. . . " تقدم تخريجه (ف 6) .
(19) تبيين الحقائق 6 / 36، 37، وابن عابدين 5 / 279، 280، والبدائع 6 / 195، والمغني 5 / 593، وكشاف القناع 4 / 192.
(20) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة / 182.
(21) ابن عابدين 5 / 280، والبدائع 6 / 195، وتبيين الحقائق 6 / 37، 38.
(22) نهاية المحتاج 5 / 332، 337، وروضة الطالبين 5 / 283، 284، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة / 182.
(23) كشاف القناع 4 / 192.
(24) ابن عابدين 5 / 280، 281، وتبيين الحقائق 6 / 38، 39، والبدائع 6 / 195، والاختيار 3 / 68، 69، والفتاوى الهندية 5 / 389، والمجلة م (1283، 1284، 1286) .
(25) الخرشي 7 / 68 ط دار صادر (بيروت) .
(26) نهاية المحتاج 5 / 332، وروضة الطالبين 5 / 283، 284، والمهذب 1 / 424، وكشاف القناع 4 / 192.
(27) حديث: " أن النبي ﷺ جعل حريم الشجر. . . " أخرجه أبو داود (4 / 53 ط تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(28) ابن عابدين 5 / 280، والاختيار 3 / 69، وتبيين الحقائق 6 / 38، ومجلة الأحكام م (1289) .
(29) الشرح الصغير 4 / 89، 90، والتاج والإكليل للمواق على هامش مواهب الجليل 6 / 3، والمهذب 1 / 424 ط مصطفى البابي الحلبي.
(30) المغني 5 / 595، وكشاف القناع 4 / 192.
(31) حديث أبي سعيد: " اختصم إلى النبي ﷺ في حريم نخلة " أخرجه أبو داود (4 / 53 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(32) ابن عابدين 5 / 281، والشرح الصغير 4 / 88، 89 وما بعدها، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 6 / 3، والقوانين الفقهية ص 344، ونهاية المحتاج 5 / 337، وروضة الطالبين 5 / 284، وكشاف القناع 4 / 192.
(33) الشرح الصغير 4 / 88 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 344، والحطاب 6 / 3 وابن عابدين 5 / 278.
(34) الأحكام السلطانية للماوردي ص 179 ط دار الكتب العلمية، وابن عابدين 5 / 277، 278.
(35) الأحكام السلطانية للماوردي ص 179 ط دار الكتب العلمية، وكشاف القناع 4 / 192. وترى اللجنة أن تقدير الحريم في كل ما تقدم إجمالا مبني على الحاجة والعرف والمرجع في ذلك إلى أهل الاختصاص. وأن الاختلاف فيما تقدم مبني على اختلاف العرف وتقدير الحاجة في نظر المجتهد.
(36) نهاية المحتاج 5 / 335.
(37) الدسوقي 1 / 246، 28 ط دار الفكر.
(38) ابن عابدين 1 / 428، والقليوبي 1 / 192، وروضة الطالبين 1 / 294، وكشاف القناع 1 / 376.
(39) المجموع 1 / 140، 141 ط المكتبة السلفية، وروضة الطالبين 1 / 27 ط المكتب الإسلامي.
(40) ابن عابدين 1 / 128، وحاشية الدسوقي 1 / 35، وكشاف القناع 1 / 39، والمغني 1 / 30.
(41) الأشباه والنظائر للسيوطي / 125 ط دار الكتب العلمية، والمنثور في القواعد 2 / 46.
(42) حديث: " الحلال بين والحرام بين. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1219 - 1220 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير، واللفظ لمسلم.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 212/ 17