الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
الواجب الذي يقدّره عدل في جناية ليس فيها مقدار معين من المال . وهي نوع من الأرش، فالأرش أعم منها . ومن شواهده قول الكاساني : "وفيما دون الموضحة من الشجاج حُكُومة عدل ."
الواجب الذي يقدّره عدل في جناية ليس فيها مقدار معين من المال. وهي نوع من الأرش، فالأرش أعم منها.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحُكُومَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ الثُّلاَثِيِّ (حَكَمَ) وَاسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ (غَيْرِ الثُّلاَثِيِّ) ، وَمِنْ مَعَانِيهَا رَدُّ الظَّالِمِ عَنِ الظُّلْمِ (1) قَال الأَْزْهَرِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ: فِي أَرْشِ الْجِرَاحَاتِ الْحُكُومَةُ. (2)
مَعْنَى الْحُكُومَةِ فِي أَرْشِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا دِيَةٌ مَعْلُومَةٌ أَنْ يُجْرَحَ الإِْنْسَانُ فِي بَدَنِهِ مِمَّا يَبْقَى شَيْنُهُ وَلاَ يَبْطُل الْعُضْوُ فَيَقْتَاسُ (يُقَدِّرُ) الْحَاكِمُ أَرْشَهُ. (3) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَقَدْ أَطْلَقُوهُ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي يُقَدِّرُهُ عَدْلٌ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَال. (4) قَال ابْنُ عَاشِرٍ: اتَّفَقَتِ الأَْنْقَال عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكُومَةِ الاِجْتِهَادُ وَإِعْمَال الْفِكْرِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي. (5)
وَسَبَبُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْحُكُومَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ مُحَكَّمٍ مُعْتَبَرٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَوِ اجْتَهَدَ فِيهِ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ. (6)
قَال ابْنُ عَرَفَةَ: أَلْفَاظُ الْمُدَوَّنَةِ يَأْتِي فِيهَا تَارَةً لَفْظُ الْحُكُومَةِ، وَتَارَةً لَفْظُ الاِجْتِهَادِ فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَا مُتَرَادِفَيْنِ (7) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْرْشُ:
2 - الأَْرْشُ هُوَ الْمَال الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ وَهُوَ الدِّيَةُ. (8)
وَالأَْرْشُ أَعَمُّ مِنْ حُكُومَةِ الْعَدْل لأَِنَّهُ يَشْمَل الْوَاجِبَ فِي جِنَايَةٍ جَاءَ فِيهَا نَصٌّ بِسَهْمٍ مُعَيَّنٍ، وَالْوَاجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مُقَدَّرٌ مِنْ الشَّارِعِ، فَحُكُومَةُ الْعَدْل هِيَ نَوْعٌ مِنَ الأَْرْشِ
ب - الدِّيَةُ:
3 - الدِّيَةُ: هِيَ بَدَل النَّفْسِ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِأَسْبَابِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى أَرْشُ مَا دُونَ النَّفْسِ بِالدِّيَةِ (9) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدِّيَةِ وَحُكُومَةِ الْعَدْل، أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي الْغَالِبِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، أَمَّا حُكُومَةُ الْعَدْل فَتَجِبُ بِالاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، كَمَا أَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، وَحُكُومَةُ الْعَدْل غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فِي الشَّرْعِ وَيُتْرَكُ أَمْرُ تَقْدِيرِهَا لِلْحَاكِمِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُكُومَةِ الْعَدْل:
مَا يَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْل:
4 - الأَْصْل أَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ اعْتِبَارُهَا بِإِيجَابِ الْجَابِرِ أَوِ الزَّاجِرِ مَا أَمْكَنَ. (10)
قَال الزَّيْلَعِيُّ عِنْدَ الاِسْتِدْلاَل عَلَى وُجُوبِ حُكُومَةِ الْعَدْل فِي الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَال: لأَِنَّ هَذِهِ (الْجِنَايَاتِ) لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْل وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (11) .
هَذَا وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْحُكُومَةِ مَا عُرِفَتْ نِسْبَةُ أَرْشِهِ إِلَى أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِي الشَّرْعِ كَأَنْ كَانَ بِقُرْبِهِ مُوضِحَةٌ (12) ، أَوْ جَائِفَةٌ (13) فَعِنْدَئِذٍ وَجَبَ الأَْكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ وَالْحُكُومَةِ. (14)
وَيَخْرُجُ مِنَ الْحُكُومَةِ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْجُرْحِ الَّذِي فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مَقِيسًا عَلَيْهِ كَالأَْلْيَتَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ (15) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْل (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
شُرُوطُ حُكُومَةِ الْعَدْل:
5 - لَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا مَحْدُودَةً لِوُجُوبِ حُكُومَةِ الْعَدْل إِلاَّ أَنَّهُ أَمْكَنَ بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِهِمُ اسْتِخْلاَصُ الشُّرُوطِ الآْتِيَةِ:
أ - أَلاَّ يَكُونَ لِلْجِنَايَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ:
6 - يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ لِلْجِنَايَةِ الْمُرَادُ تَقْدِيرُهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ قِبَل الشَّارِعِ (16) بِنَاءً عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ فِي تَقْدِيرِ أَرْشِ شَجَّةٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ، أَوْ إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ عُضْوٍ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي الشَّرْعِ.
ب - أَلاَّ تَبْلُغَ الْحُكُومَةُ أَرْشَ الْعُضْوِ:
7 - الْحُكُومَةُ الَّتِي تَجِبُ فِي جُرْحٍ أَصَابَ عُضْوًا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَدِ وَالرِّجْل لاَ يَبْلُغُ بِهَا ذَلِكَ الأَْرْشَ الْمُقَدَّرَ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ. (17)
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَلاَّ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَائِهِ مَضْمُونَةً بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الْعُضْوُ نَفْسُهُ. (18)
قَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ نَظَرَ: إِنْ لَمْ تَبْلُغِ الْحُكُومَةُ أَرْشَ ذَلِكَ الْعُضْوِ وَجَبَتْ بِكَمَالِهَا، وَإِنْ بَلَغَتْهُ نَقَصَ الْحَاكِمُ شَيْئًا مِنْهُ بِالاِجْتِهَادِ. وَبِهَذَا يَقُول الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (19) . بِنَاءً عَلَى هَذَا أَنَّ حُكُومَةَ الأُْنْمُلَةِ الْعُلْيَا يَجْرَحُهَا، أَوْ يَقْلَعُ ظُفُرَهَا يَنْقُصُ عَنْ أَرْشِ الأُْنْمُلَةِ.
وَالْجِنَايَةُ عَلَى الأُْصْبُعِ وَعَلَى الرَّأْسِ لاَ تَبْلُغُ حُكُومَتُهَا أَرْشَ الْمُوضِحَةِ، وَعَلَى الْبَطْنِ لاَ تَبْلُغُ أَرْشَ الْجَائِفَةِ، وَحُكُومَةُ جُرْحِ الْكَفِّ لاَ تَبْلُغُ دِيَةَ الأَْصَابِعِ الْخَمْسِ، وَكَذَا حُكُومَةُ قَطْعِ الْكَفِّ الَّتِي لاَ أُصْبُعَ عَلَيْهَا وَكَذَا حُكْمُ الْقَدَمِ. (20)
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ عَلَى عُضْوٍ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالظَّهْرِ وَالْكَتِفِ وَالْفَخِذِ فَيَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ حُكُومَتُهَا دِيَةَ عُضْوٍ مُقَدَّرٍ كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَنْقُصُ عَنْ دِيَةِ النَّفْسِ. (21)
ج - أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ بَعْدَ انْدِمَال الْجُرْحِ:
8 - يُشْتَرَطُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ الْحُكُومَةِ بَعْدَ انْدِمَال الْجُرْحِ وَبُرْئِهِ لاَ قَبْلَهُ، لأَِنَّ الْجُرْحَ قَدْ يَسْرِي إِلَى النَّفْسِ أَوْ إِلَى مَا يَكُونُ وَاجِبُهُ مُقَدَّرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ لاَ الْحُكُومَةُ. (22)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقَوَّمَ بِتَقْدِيرِ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ لأَِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى فَرْضِ الْحُرِّ رَقِيقًا بِصِفَاتِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ لِمِقْدَارِ النَّقْصِ وَيُؤْخَذُ بِنِسْبَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُقَوِّمِينَ. (23) قَال الْكَاسَانِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ طَرِيقَةِ الْكَرْخِيِّ لِتَقْدِيرِ حُكُومَةِ الْعَدْل: تُقَرَّبُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ إِلَى أَقْرَبِ جِنَايَةٍ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَنْظُرُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ هَاهُنَا فِي قِلَّةِ الْجِرَاحَاتِ وَكَثْرَتِهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَأْخُذُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا، وَيَحْكُمُ مِنَ الأَْرْشِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ الْمُقَدَّرَةِ. (24)
د - أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمُ بِالْحُكُومَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْحُكُومَةِ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمُ بِشَرْطِهِ - وَهُوَ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ - بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتِ الْحُكُومَةُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمِ لَمْ تُعْتَبَرْ. (25)
كَيْفِيَّةُ تَقْدِيرِ حُكُومَةِ الْعَدْل:
10 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِمَعْرِفَةِ حُكُومَةِ الْعَدْل أَنْ يَتِمَّ تَقْوِيمُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِتَقْوِيمِ الْعَبِيدِ كَمَا فِي تَقْوِيمِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، فَيُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَوْ كَانَ عَبْدًا وَيُنْظَرُ كَمْ نَقَصَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ قُوِّمَ بِعَشَرَةٍ دُونَ الْجِنَايَةِ وَبِتِسْعَةٍ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَالتَّفَاوُتُ الْعُشْرُ فَيَجِبُ لَهُ عَلَى الْجَانِي عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ. (26)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى تَقْرِيبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ إِلَى أَقْرَبِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَيَنْظُرُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ هَاهُنَا فِي قِلَّةِ الْجِرَاحَاتِ وَكَثْرَتِهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَيَأْخُذُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا وَيَحْكُمُ مِنَ الأَْرْشِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ الْمُقَدَّرَةِ. (27)
وَاسْتَدَل لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِالأَْثَرِ الْمَنْقُول عَنْ عَلِيٍّ ﵁ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قُطِعَ طَرَفُ لِسَانِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ ﵁ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ (أَلِفٌ، ب، ت، ث.) فَكُلَّمَا قَرَأَ حَرْفًا أَسْقَطَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَمَا لَمْ يَقْرَأْهُ أَوْجَبَ الدِّيَةَ بِحِسَابِ ذَلِكَ (28) .
فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ حُكُومَةَ الْعَدْل فِي الَّذِي قُطِعَ طَرَفُ لِسَانِهِ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ وَلَمْ يَعْتَبَرْ بِالْعَبِيدِ. (29) وَنُقِل عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ مِثْل ذَلِكَ (30) .
وَنَقَل الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الْخُلاَصَةِ: إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ قَوْل الْكَرْخِيِّ لَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي وَجْهٍ وَرَأْسٍ فَحِينَئِذٍ يُفْتَى بِهِ، وَلَوْ فِي غَيْرِهِمَا أَوْ تَعَسَّرَ عَلَى الْمُفْتِي يُفْتِي بِقَوْل الطَّحَاوِيِّ - وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ - مُطْلَقًا لأَِنَّهُ أَيْسَرُ (31) .
وَقَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: يَنْظُرُ الْمُفْتِي فِي هَذَا، إِنْ أَمْكَنَهُ الْفَتْوَى بِالثَّانِي - وَهُوَ قَوْل الْكَرْخِيِّ - بِأَنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ يُفْتِي بِالثَّانِي.
وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ يُفْتِي بِالْقَوْل الأَْوَّل - وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ - لأَِنَّهُ أَيْسَرُ. وَكَانَ الْمَرْغِينَانِيُّ يُفْتِي بِهِ. (32)
وَمَحَل الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الصَّدْرِ أَوِ الْفَخِذِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ مُقَدَّرَ فِيهِ اعْتُبِرَتِ الْحُكُومَةُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ قَطْعًا. (33)
وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلاً ثَالِثًا فِي كَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِ الْحُكُومَةِ، فَقَدْ قَال فِي الْمُحِيطِ: وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ أَقَل شَجَّةٍ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُهُ مِثْل نِصْفِ شَجَّةٍ لَهَا أَرْشٌ، أَوْ ثُلُثُهَا، وَجَبَ نِصْفُ أَوْ ثُلُثُ أَرْشِ تِلْكَ الشَّجَّةِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعًا فَرُبْعٌ.
وَيَرَى الشُّرُنْبُلاَلِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْل لَيْسَ قَوْلاً ثَالِثًا، وَالأَْشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْل الْكَرْخِيِّ (34) .
وَقِيل: تُقَدَّرُ الْجِنَايَةُ بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَبِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ. (35)
قَال الْقُهُسْتَانِيُّ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا بَقِيَ لِلْجِرَاحَةِ أَثَرٌ وَإِلاَّ فَعِنْدَهُمَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَدْرُ مَا أَنْفَقَ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ حُكُومَةُ الْعَدْل فِي الأَْلَمِ (36) .
وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَا بَرِئَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ - مِمَّا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِمَّا لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ الشَّارِعُ شَيْئًا - فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ فِيهِ عَلَى الْجَانِي مِنْ عَقْلٍ وَتَعْزِيرٍ وَأُجْرَةِ طَبِيبٍ. (37)
وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ عَرَفَةَ - فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجُرْحِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ - الْقَوْل بِأَنَّ عَلَى الْجَانِي أُجْرَةَ الطَّبِيبِ وَثَمَنَ الدَّوَاءِ سَوَاءٌ أَبَرِئَ عَلَى شَيْنٍ أَمْ لاَ مَعَ الْحُكُومَةِ فِي الأَْوَّل. (38) أَمَّا مَا قَدَّرَ الشَّارِعُ فِيهِ شَيْئًا فَالْوَاجِبُ الْمُقَدَّرُ، بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ أَمْ لاَ. (39) إِلاَّ مُوضِحَةَ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَإِنَّهَا إِذَا بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِيهَا عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل: دَفْعُ دِيَتِهَا وَمَا حَصَل بِالشَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
الثَّانِي: دَفْعُ دِيَتِهَا وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا مَا يَقُول بِهِ أَشْهَبُ، وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ.
الثَّالِثُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّيَةِ إِذَا كَانَ أَمْرًا مُنْكَرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا.
وَهَذَا مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ مَالِكٍ (40) .
__________
(1) متن اللغة مادة: (حكم) .
(2) حديث: " في أرش الجراحات الحكومة " أورده ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (1 / 420 ط الحلبي) ولم نر مسندا في أي مرجع آخر والله أعلم.
(3) لسان العرب مادة: (حكم) .
(4) أنيس الفقهاء ص 295، والزيلعي 6 / 133، وانظر فتح القدير 8 / 314.
(5) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 381 وانظر البناني بهامش الزرقاني 8 / 34.
(6) مغني المحتاج 4 / 77 ونهاية المحتاج 7 / 325، وحاشية إبراهيم على الأنوار لأعمال الأبرار 2 / 426.
(7) حاشية البناني بهامش الزرقاني 8 / 34، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 285.
(8) التعريفات للجرجاني وأنيس الفقهاء ص 295.
(9) التعريفات للجرجاني.
(10) بدائع الصنائع 7 / 223، وانظر تحفة الفقهاء 3 / 146 - 147، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 4 / 381، ومغني المحتاج 4 / 77، والمغني لابن قدامة 8 / 54 - 56 ط الرياض.
(11) تبيين الحقائق 6 / 133 وانظر تكملة البحر الرائق 8 / 382.
(12) الموضحة هي الشجة التي تبدي بياض العظم (ر: شجة) .
(13) الجائفة هي الطعنة التي تبلغ الجوف (ر: جائفة) .
(14) مغني المحتاج 4 / 77 نشر دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج 7 / 325.
(15) المغني لابن قدامة 8 / 56.
(16) بدائع الصنائع 7 / 323، ومغني المحتاج 4 / 77، والمغني 8 / 56، والشرح الصغير 4 / 381.
(17) مغني المحتاج 4 / 77 وروضة الطالبين 9 / 308، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 426، والمغني لابن قدامة 8 / 57 - 58، والكافي لابن قدامة 4 / 94، والدسوقي 4 / 271.
(18) مغني المحتاج 4 / 77.
(19) روضة الطالبين 9 / 308، ومغني المحتاج 4 / 78، والمغني 8 / 58.
(20) روضة الطالبين 9 / 308، وانظر الأنوار لأعمال الأبرار 2 / 426.
(21) روضة الطالبين 9 / 309، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 426، ومغني المحتاج 4 / 78.
(22) الأنوار لأعمال الأبرار مع حواشيه 2 / 426، ومغني المحتاج 4 / 78، وروضة الطالبين 9 / 309، والمغني 8 / 59، والزيلعي 6 / 138، وابن عابدين5 / 386 والتاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 258 - 259 والإفصاح لابن هبيرة ص 383، وانظر رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص 256.
(23) الكافي لابن قدامة 4 / 94 نشر المكتب الإسلامي.
(24) بدائع الصنائع 7 / 324، 325.
(25) البجيرمي على شرح منهج الطلاب 4 / 174، ونهاية المحتاج 7 / 325، ومغني المحتاج 4 / 77، وحاشية إبراهيم على الأنوار لأعمال الأبرار 2 / 426، وبدائع الصنائع 7 / 324، 325، وانظر الشرح الصغير 4 / 381.
(26) روضة الطالبين 7 / 308، والمغني لابن قدامة 8 / 56، والكافي لابن قدامة 4 / 94، وتحفة الفقهاء 3 / 148، وبدائع الصنائع 7 / 324، والفتاوى الهندية 6 / 29، والزرقاني 8 / 34، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص 256 ط الحلبي.
(27) بدائع الصنائع 7 / 324 - 325، ونهاية المحتاج 7 / 325، ومغني المحتاج 4 / 77.
(28) تكملة البحر الرائق 8 / 376، 382، وبدائع الصنائع 7 / 325.
(29) العناية بهامش فتح القدير 8 / 314 ط الأميرية، ودرر الحكام في شرح غرر الأحكام 2 / 106.
(30) المحلى 7 / 537 ط الإمام.
(31) حاشية ابن عابدين 5 / 373، وانظر الجوهر النيرة 2 / 219 ط ملتان - باكستان.
(32) تكملة البحر الرائق 8 / 382 وغنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام للشرنبلالي 2 / 106.
(33) مغني المحتاج 4 / 77، ونهاية المحتاج 7 / 325 - 326.
(34) غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام 2 / 106.
(35) الدر المختار 5 / 373، والجوهرة النيرة 2 / 219 ط باكستان، الحطاب والمواق 6 / 259.
(36) حاشية ابن عابدين 5 / 373.
(37) الفواكه الدواني 2 / 263، وكفاية الطالب الرباني 2 / 279 نشر دار المعرفة، ويراد بأجرة الطبيب ما يشمل ثمن الدواء كما في حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 279.
(38) الشرح الصغير 4 / 381.
(39) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 279 والفواكه الدواني 2 / 263.
(40) حاشية العدوي على الخرشي 8 / 35، ومنح الجليل 4 / 404، وانظر الحطاب 6 / 259، والشرح الصغير 4 / 383.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 68/ 18