القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
حق ثابت لشخصين، فصاعداً في الأعيان، والمنافع . ومن أمثلته مشروعية الشركة، ومباركة الله لها إن لم يكن فيها خيانة . ومن شواهده الحديث القدسي عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْه - رفعه قال : " إن الله يقول : أنا ثالثُ الشريكَين، ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خانَه خرجْتُ من بينهما . " أبو داوود : 3383، وضعفه الأرناؤوط .
الشَّرِكَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ شَرِك، ومعناها: الاِخْتِلاطُ، يُقالُ: شَرِكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في البَيْعِ، يَشْرَكُهُ، شِرْكاً وشَرِكَةً، واشْتَرَكا وتَشارَكا، أيْ: خَلَطَ نَصِيبَهُ بِنَصِيبِهِ، وتأْتي الشَّرِكَةُ بِـمعنى الجَمْع بين شَيْئَيْنِ وضَمّ بَعْضِهِما إلى بَعْضٍ، يُقالُ: أَشْرَكْتُ فُلاناً معِي، أيْ: ضَمَمْتُهُ إلَيَّ.
يَرِد مُصْطلَح (شَرِكَة) في الفقه في كِتابِ الزَّكاةِ، باب: الـخُلْطَة في الزَّكاةِ، وفي كِتابِ الـجِهادِ، باب: قِسْمَة الغَنِيمَةِ، وفي كِتاب البَيْعِ، باب: الـمُساقاة، وباب: الـحَجْر، وفي كتاب الشُّفْعَةِ، باب: حَقُّ الـجارِ، وفي كتاب الوَقْفِ، باب: شَرْط الواقفِ، وفي كِتابِ القَضاءِ، باب: الدَّعاوَى.
شرك
حق ثابت لشخصين، فصاعداً في الأعيان، والمنافع.
* معجم مقاييس اللغة : 3/265 - الكليات : (ص 537)
* رد المحتار على الدر المختار : (2/343)
* كشاف القناع : (3/496)
* المطلع على ألفاظ المقنع : (ص 260)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (26/20)
* تهذيب اللغة : (10/13)
* العين : (5/293)
* لسان العرب : (10/448)
* تاج العروس : (27/223)
* المصباح المنير في غريب الشرح الكبير : (1/423)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (26/20)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 261) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّرْكَةُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، كَنِعْمَةٍ أَوْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، كَكَلِمَةٍ - وَيَجُوزُ مَعَ الْفَتْحِ أَيْضًا إِسْكَانُ الرَّاءِ - اسْمٌ مَصْدَرُ شَرِكَ، كَعَلِمَ: يُقَال: شَرِكَ الرَّجُل الرَّجُل فِي الْبَيْعِ وَالْمِيرَاثِ يَشْرَكُهُ شِرْكًا وَشَرِكَةً، خَلَطَ نَصِيبَهُ بِنَصِيبِهِ، أَوِ اخْتَلَطَ نَصِيبَاهُمَا. فَالشَّرِكَةُ إِذَنْ: خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ وَاخْتِلاَطُهُمَا، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَتِمُّ بِسَبَبِهِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - لِصِحَّةِ تَصَرُّفِ كُل خَلِيطٍ فِي مَال صَاحِبِهِ - يُسَمَّى شَرِكَةً تَجَوُّزًا، مِنْ إِطْلاَقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: فَالشَّرِكَةُ قِسْمَانِ: شَرِكَةُ مِلْكٍ وَشَرِكَةُ عَقْدٍ (1) .
أَمَّا شَرِكَةُ الْعَقْدِ فَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَيْهَا فِي قِسْمِهَا الْخَاصِّ بِهَا:
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمِلْكِ فَهِيَ أَنْ يَخْتَصَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ. وَالَّذِي فِي حُكْمِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَدِّدُ الْمُخْتَلِطُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ تَفْرِيقُهُ لِتَتَمَيَّزَ أَنْصِبَاؤُهُ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ وَغَيْرُهُمَا. فَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ، أَوِ الأَْرْضُ الْوَاحِدَةُ، مَثَلاً تَثْبُتُ فِيهَا شَرِكَةُ الْمِلْكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا اشْتَرَيَاهَا أَوْ وَرِثَاهَا أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمَا بِأَيِّ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ. وَكَذَلِكَ الإِْرْدَبَّانِ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَمْحِ وَالآْخَرُ مِنَ الشَّعِيرِ، أَوِ الْكِيسَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ ذَاتِ السِّكَّةِ الْوَاحِدَةِ، يُخْلَطَانِ مَعًا طَوَاعِيَةً أَوِ اضْطِرَارًا - كَإِنِ انْفَتَقَ الْكِيسَانِ الْمُتَجَاوِرَانِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ شَرِكَةِ الْمِلْكِ فِي الدُّيُونِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَلاَ يُمْلَكُ - وَتَمْلِيكُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، هُوَ فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ، إِسْقَاطٌ لاَ تَمْلِيكٌ.
وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ يُمْلَكُ، قَالُوا: بِدَلِيل أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الدَّائِنِينَ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الدَّائِنِينَ، حَتَّى لَيَتَعَذَّرُ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الشَّرِكَةِ إِلاَّ بِإِعْمَال الْحِيلَةِ - كَأَنْ يَهَبَ الْمَدِينُ لِقَابِضِ قَدْرِ نَصِيبِهِ مَا قَبَضَهُ، وَيُبْرِئَهُ الْقَابِضُ مِنْ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ.
أَمَّا غَيْرُ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، فَكَحَقِّ صَاحِبَيِ الدَّارِ فِي حِفْظِ نَحْوِ الثَّوْبِ تُلْقِيهِ فِيهَا الرِّيحُفَإِنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ، إِذْ يَمْلِكُهُ كِلاَهُمَا.
وَلَيْسَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ خِلاَفًا يُذْكَرُ فِي ثُبُوتِ شَرِكَةِ الْمِلْكِ، عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بَعْضُهُمْ بِاسْمِهَا بَل يَتَعَمَّدُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجْمَعُوهَا فِي تَعْرِيفٍ وَاحِدٍ مَعَ شَرِكَةِ الْعَقْدِ، كَمَا فَعَل بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ عَرَّفَ الشَّرِكَةَ مُطْلَقًا بِأَنَّهَا: (ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى جِهَةِ الشُّيُوعِ) . وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ عَرَّفَهَا كَذَلِكَ بِأَنَّهَا: (تَقَرُّرُ مُتَمَوَّلٍ بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ) .
تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْمِلْكِ
: أَوَّلاً: إِلَى شَرِكَةِ دَيْنٍ، وَشَرِكَةِ غَيْرِهِ.
2 - أ - فَشَرِكَةُ الدَّيْنِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُسْتَحَقًّا لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ: كَمِائَةِ دِينَارٍ فِي ذِمَّةِ تَاجِرٍ تَجْزِئَةً لأَِصْحَابِ (الشَّرِكَةِ) الَّتِي يُعَامِلُهَا.
ب - وَشَرِكَةُ غَيْرِ الدَّيْنِ: هِيَ الشَّرِكَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْحَقِّ أَوِ الْمَنْفَعَةِ: كَمَا هُوَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلسَّيَّارَاتِ أَوِ الْمَنْسُوجَاتِأَوِ. . . الْمَأْكُولاَتِ فِي الْمَتْجَرِ الْمُشْتَرَكِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِحَقِّ شُفْعَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا بَاعَهُ ثَالِثُهُمَا، وَحَقِّ سُكْنَى الدَّارِ أَوْ زِرَاعَةِ الأَْرْضِ لِمُسْتَأْجِرِيهَا عَلَى الشُّيُوعِ وَلاَ خِلاَفَ لأَِحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّقْسِيمِ (2) .
ثَانِيًا - إِلَى اخْتِيَارِيَّةٍ، وَاضْطِرَارِيَّةٍ (جَبْرِيَّةٍ) :
3 - أ - فَالاِخْتِيَارِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِإِرَادَةِ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ: سَوَاءٌ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ أَمْ بِدُونِهِ، وَسَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ مُشْتَرَكًا مُنْذُ بِدَايَتِهِ، أَمْ طَرَأَ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا، أَمْ طَرَأَ الاِشْتِرَاكُ فِي الْمَال بَعْدَ الْعَقْدِ.
فَمِثَال مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ مُشْتَرَكٍ مُنْذُ الْبَدْءِ، مَا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ دَابَّةً لِلْجَرِّ أَوِ الرُّكُوبِ، أَوْ بِضَاعَةً يَتَّجِرَانِ فِيهَا. وَكَالشِّرَاءِ قَبُول هِبَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوِ الْوَصِيَّةُ أَوِ التَّصَدُّقُ بِهِ.
وَمِثَال مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ طَرَأَ اشْتِرَاكُهُ أَوِ اشْتِرَاكُهُ فِي الْمَال بَعْدَهُ، أَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ أَوْ قَبُول الْهِبَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ مِنْ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُشْرِكَ مَعَهُ آخَرَ، فَيَقْبَل الآْخَرُ الشَّرِكَةَ - بِعِوَضٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَمِثَال مَا كَانَ بِدُونِ عَقْدٍ مَا لَوْ خَلَطَ اثْنَانِ مَالَيْهِمَا، وَمَا لَوِ اصْطَادَ اثْنَانِ صَيْدًا بِشَرَكٍ نَصَبَاهُ، أَوْ أَحْيَيَا أَرْضًا مَوَاتًا.
ب - وَالاِضْطِرَارِيَّةُ، أَوِ الْجَبْرِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ دُونَ إِرَادَةِ أَحَدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ: كَمَا لَوِ انْفَتَقَتِ الأَْكْيَاسُ، وَاخْتَلَطَ مَا فِيهَا مِمَّا يَعْسُرُ - إِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ - فَصْل بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ لِتَتَمَيَّزَ أَنْصِبَاؤُهُ، كَبَعْضِ الْحُبُوبِ. أَمَّا إِذَا وَقَعَ الْخَلْطُ بِفِعْل أَحَدِ الشُّرَكَاءِ، دُونَ إِذْنِ بَاقِيهِمْ، فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْخَالِطَ يَمْلِكُ مَا خَلَطَهُ بِمَال نَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْل لِتَعَدِّيهِ، أَيْ فَلاَ شَرِكَةَ (3) .
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ لاَ خِلاَفَ فِيهِ إِلاَّ فِي مِثْل مَسْأَلَةِ: تَمَلُّكِ شَخْصٍ: مَال غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِبْدَادِ بِخَلْطِهِ بِمَال نَفْسِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزَانِ، أَوْ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ تَمْيِيزُهُمَا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ لِلآْخَرِ بَدَلُهُ، وَقَال بِذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَعَهُ جَمَاهِيرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال: إِنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ اعْتَمَدَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَعْدَ أَنْ قَيَّدُوهُ فِي الأَْوْجَهِ بِامْتِنَاعِ التَّصَرُّفِ فِيمَا مَلَكَ بِالْخَلْطِ، حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهُ لِصَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الَّذِي مَلَكَهُ كَذَلِكَ، لَوْ كَانَ مَلَكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ رِضَائِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِذِمَّتِهِ، فَأَوْلَى إِذَا مَلَكَهُ بِدُونِ رِضَاهُ.
وَمِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، مَنْ يُنْكِرُ هَذَا التَّمَلُّكَ الْقَسْرِيَّ، وَيَجْعَل الْمَال مُشْتَرَكًا: كَمَا هُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ، وَأَطَال فِي الاِنْتِصَارِ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَمَاهِيرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ (4) .
أَحْكَامُ شَرِكَةِ الْمِلْكِ:
4 - الأَْصْل أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَجْنَبِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِنَصِيبِ الآْخَرِ. لأَِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لاَ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً مَا، ثُمَّ لاَ مِلْكَ لِشَرِيكٍ مَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ آخَرَ. وَالْمُسَوِّغُ لِلتَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ الْمِلْكُ أَوِ الْوِلاَيَةُ (5) وَهَذَا مَا لاَ يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الْخِلاَفِ إِلَيْهِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَلِي:
5 - 1 - لَيْسَ لِشَرِيكِ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ التَّعَاقُدِيَّةِ: كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالإِْعَارَةِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ هَذَا. فَإِذَا تَعَدَّى فَآجَرَ، مَثَلاً، أَوْ أَعَارَ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ فَتَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، فَلِشَرِيكِهِ تَضْمِينُهُ حِصَّتَهُ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ (6) .
6 - 2 - لِكُل شَرِيكٍ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِشَرِيكِهِ، أَوْ يُخْرِجَهُ إِلَيْهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى أَيِّ نَحْوٍ، وَلَوْ بِوَصِيَّةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لاَ يُوهَبُ دُونَ قِسْمَةٍ، مَا لَمْ يَكُنْ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا. وَسَيَأْتِي اسْتِثْنَاءُ حَالَةِ الضَّرَرِ. هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ. وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَحَل وِفَاقٍ - إِلاَّ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ سَائِغَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْل الْعِلْمِ بِإِطْلاَقٍ: كَمَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ لاَ تَجُوزُ - بِمَعْنَى عَدَمِ إِثْبَاتِ مِلْكٍ نَاجِزٍ - فَالْهِبَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ عَلَى الإِْفْرَازِ ثُمَّ التَّسْلِيمِ (7) .
7 - 3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ - فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرَرِ الآْتِيَةِ - بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ حَالَةً وَاحِدَةً: هِيَ حَالَةُ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ دُونَ شُيُوعٍ - لِبَقَاءِ كُل مَالٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ عَسُرَ تَمْيِيزُهُ، أَوْ تَعَذَّرَ: سَوَاءٌ كَانَ اخْتِلاَطًا عَفْوِيًّا، أَمْ نَتِيجَةَ خَلْطٍ مَقْصُودٍ مِنْ جَانِبِ الشُّرَكَاءِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَيْ حَالَةِ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ دُونَ شُيُوعٍ: لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ لِيَصِحَّ بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ، مَا دَامَ الْمَال شَرِكَةً بَيْنَهُمَا لَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ (8) .
وَسِرُّ التَّفْرِقَةِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ، حَيْثُ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْبَيْعِ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ عَلَى إِذْنِهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا، حَيْثُ لاَ يُوجَدُ هَذَا التَّوَقُّفُ، أَنَّهُ فِي حَالَةِ شُيُوعِ الْمَال بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ - بِسَبَبِ إِرْثِهِمَا إِيَّاهُ، أَوْ وُقُوعِ شَرِكَتِهِمَا فِيهِ بِسَبَبٍ آخَرَ يَقْتَضِي هَذَا الشُّيُوعَ: كَشِرَائِهِمَا إِيَّاهُ مَعًا، أَوْ إِشْرَاكِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ فِيهِ بِحِصَّةٍ شَائِعَةٍ - يَكُونُ كُل جُزْءٍ فِي الْمَال الْمُشْتَرَكِ - مَهْمَا دَقَّ وَصَغُرَ - مُشْتَرَكًا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَبَيْعُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ جَائِزٌ لِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِهِ، إِذْ لاَ مَانِعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ وَتَسَلُّمِهِ فَإِنَّ الإِْفْرَازَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ التَّسْلِيمِ - وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ نِزَاعَ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ ذَاتًا كَالدَّابَّةِ، وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعُ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ كُلَّهَا، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَانَ كَالْغَاصِبِ، وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، بِالنِّسْبَةِ لِحِصَّةِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ: حَتَّى إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ كَانَ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ حَقُّ الرُّجُوعِ بِضَمَانِ حِصَّتِهِ عَلَى أَيِّ الشَّخْصَيْنِ شَاءَ: الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
أَمَّا النَّصِيبُ غَيْرُ الشَّائِعِ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ، فَبَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ - إِلاَّ أَنَّهُ الْتَبَسَ بِغَيْرِهِ أَوْ تَعَسَّرَ فَصْلُهُ. وَهَذَا الاِلْتِبَاسُ أَوِ التَّعَسُّرُ لاَ يَمْنَعُ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلَى الشَّرِيكِ، إِذَا بَاعَهُ إِيَّاهُ، وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُ هَذِهِ الْقُدْرَةَ وَيُنَافِيهَا إِذَا بَاعَ النَّصِيبَ لأَِجْنَبِيٍّ عَنِ الشَّرِكَةِ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ أَوْ تَسَلُّمُهُ، إِلاَّ مَخْلُوطًا بِنَصِيبِ هَذَا الشَّرِيكِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ (9) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: (إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي حَيَوَانٍ مَثَلاً بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ: فَلَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ وَسَلَّمَ الْجَمِيعَ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَانَ ضَامِنًا عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ. لأَِنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمُودَعِ فِي الأَْمَانَةِ، وَهَذَا إِذَا وَضَعَ يَدَ الأَْجْنَبِيِّ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، وَلاَ يَلْزَمُ عَدَمُ صِحَّةِ الْبَيْعِ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ: لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ شَرِيكُهُ حَاضِرًا، سَلِمَ الْبَيْعُ لَهُ، وَتَقَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ غَائِبًا، رَفَعَ أَمْرَهُ إِلَى الْحَاكِمِ، وَيَأْذَنُ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَوَضْعِ مَال الْغَائِبِ تَحْتَ يَدِهِ) . (10)
حَالَةُ الضَّرَرِ:
8 - بَيْعُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِي الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، أَوِ الثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ، لاَ يَجُوزُ. وَيَعْنُونَ بَيْعَ الْحِصَّةِ فِي ذَلِكَ مُنْفَرِدَةً عَنِ الأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ: فَإِنَّهُ إِنْ شَرَطَ هَدْمَ الْبِنَاءِ، وَقَلْعَ الْغِرَاسِ، فَلاَ يَتَأَتَّى دُونَ هَدْمِ وَقَلْعِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ - لِمَكَانِ الشُّيُوعِ - وَذَلِكَ ضَرَرٌ لاَ يَجُوزُ. وَلأَِنَّ شَرْطَ بَقَائِهِمَا إِنَّمَا هُوَ شَرْطُ مَنْفَعَةٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ زَائِدَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الْبَيْعِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ، مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ أَيْضًا، لِمَكَانِ الرِّبَا، إِذْ هِيَ زِيَادَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْعِوَضِ (11) . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ: فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ أَوَانَ قَطْعِهِ فَبِدُونِ إِذْنِ الشَّرِيكِ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحِصَّةِ لأَِجْنَبِيٍّ؛ لِلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ حِينَئِذٍ، إِذْ سَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ مَا اشْتَرَاهُ، وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ إِلاَّ بِقَطْعِ حِصَّةِ هَذَا الشَّرِيكِ (12) .
9 - (13) ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ فِي حُضُورِ الشَّرِيكِ، لاَ يَنْتَفِعُ شَرِيكُهُ الآْخَرُ بِالْمَال الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ بِدُونِ الإِْذْنِ يَكُونُ غَصْبًا، وَيَدْخُل فِي الإِْذْنِ: الإِْذْنُ الْعُرْفِيُّ.
فَإِذَا رَكِبَ الشَّرِيكُ الدَّابَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ حَمَل عَلَيْهَا، بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ هَزِلَتْ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا، ضَمِنَ حِصَّةَ. شَرِيكِهِ فِي حَال التَّلَفِ، وَضَمِنَ نَقْصَ قِيمَتِهَا فِي حَالَةِ الْهُزَال.
وَإِذَا زَرَعَ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ بَنَى فِيهَا، وَشَرِيكُهُ حَاضِرٌ، دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ، طُبِّقَتْ أَحْكَامُ الْغَصْبِ: فَتَنْقَسِمُ الأَْرْضُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهِ قَلْعُ مَا وَقَعَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَضَمَانُ نَقْصِ أَرْضِهِ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ قَدْ أَدْرَكَ أَوْ كَادَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إِلاَّ ضَمَانُ نُقْصَانِ الأَْرْضِ، دُونَ قَلْعِ الزَّرْعِ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الَّذِي زَرَعَ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ نِصْفَ الْبَذْرِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا لأَِنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ إِنْ كَانَ الزَّرْعُ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ، وَإِلاَّ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُصِرَّ عَلَى قَلْعِ الزَّرْعِ مَتَى كَانَتِ الْقِسْمَةُ مُمْكِنَةً.
وَهُنَا لِلشَّافِعِيَّةِ ضَابِطٌ حَسَنٌ: الشَّرِيكُ أَمِينٌ إِنْ لَمْ يَسْتَعْمِل الْمُشْتَرَكَ، أَوِ اسْتَعْمَلَهُ مُنَاوَبَةً - لأَِنَّهَا إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ - وَإِلاَّ: فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَعَارِيَّةٌ، أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ فَغَصْبٌ. وَمِنَ الاِسْتِعْمَال حَلْبُ الدَّابَّةِ اللَّبُونِ (14) .
10 - (15) فِي حَالَةِ غَيْبَةِ الشَّرِيكِ أَوْ مَوْتِهِ، يَكُونُ لِشَرِيكِهِ الْحَاضِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمُشْتَرَكِ انْتِفَاعًا لاَ يَضُرُّ بِهِ (16) .
11 - (17) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا احْتَاجَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ إِلَى النَّفَقَةِ - سَوَاءٌ لِلتَّعْمِيرِ، أَمْ لِغَيْرِهِ - كَبِنَاءِ مَا تَخَرَّبَ، وَإِصْلاَحِ مَا وَهَى، وَإِطْعَامِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَكِنْ نَشِبَ النِّزَاعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ: فَأَرَادَ بَعْضُهُمُ الإِْنْفَاقَ، وَأَبَى الآْخَرُونَ - فَفِي الْحُكْمِ تَفْصِيلٌ؛ لأَِنَّ الْمَال إِمَّا قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ أَوْ غَيْرُ قَابِلٍ:
أ - فَفِي الْقَابِل لِلْقِسْمَةِ: كَالدَّارِ الْفَسِيحَةِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلاِسْتِغْلاَل وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ، لاَ إِجْبَارَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ الْمَال لِيَقُومَ بِإِصْلاَحِ مَالِهِ وَالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ - اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُمْتَنِعُ، عَلَى خِلاَفِ الْمَصْلَحَةِ، وَصِيًّا أَوْ نَاظِرَ وَقْفٍ (كَمَا فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ وَقْفَيْنِ مَثَلاً) فَإِنَّهُ يُجْبَرُ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَال الْمُشْتَرَكُ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ، أُجْبِرَ الشَّرِيكُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّ امْتِنَاعَهُ مُفَوِّتٌ لِحَقِّ شَرِيكِهِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِهِ وَذَلِكَ كَمَا فِي نَفَقَةِ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كَرْيِ نَهْرٍ، أَوْ مَرَمَّةِ قَنَاةٍ أَوْ بِئْرٍ، أَوْ إِصْلاَحِ آلَةِ رَيٍّ، أَوْ سَفِينَةٍ، أَوْ حَائِطٍ لاَ يَنْقَسِمُ لِضِيقِ عَرْصَتِهِ (مَوْضِعِ بِنَائِهِ) أَوْ لِحُمُولَةٍ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْحُمُولَةُ كُلُّهَا لِغَيْرِ طَالِبِ الْعِمَارَةِ إِلاَّ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ مَالُوا إِلَى الْقَوْل: بِأَنَّ الْجِدَارَ الْوَاسِعَ الْعَرْصَةِ مُلْحَقٌ هُنَا بِمَا لاَ يَنْقَسِمُ؛ لِتَضَرُّرِ الشَّرِيكِ فِيهِ بِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي إِصْلاَحِهِ وَتَرْمِيمِهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ مُوَافَقَةً تَكَادُ تَكُونُ تَامَّةً، وَيَزِيدُونَ أَنَّ الشَّرِيكَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ كُلَّهَا لِمَنْ يَقُومُ بِالنَّفَقَةِ اللاَّزِمَةِ. وَلَمْ يَجْتَزِئُوا بِبَيْعِ مَا يَكْفِي لِسَدَادِ هَذِهِ النَّفَقَةِ، مَنْعًا لِضَرَرِ تَكْثِيرِ الشُّرَكَاءِ، وَلاَ بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَحْدَهُ، دُونَ لُجُوءٍ إِلَى الْبَيْعِ (كَمَالَمْ يَلْجَئُوا إِلَيْهِ فِي الْحِصَّةِ الَّتِي هِيَ وَقْفٌ، وَمَنَعُوهُ إِذَا كَانَ ثَمَّتَ مَا يُغْنِي عَنْهُ: مِنْ رِيعٍ لَهَا مُتَجَمِّعٍ، أَوْ أُجْرَةٍ مُتَاحَةٍ بِسَبَبِ وُجُودِ رَاغِبٍ فِي الاِسْتِئْجَارِ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ مَثَلاً) مَعَ أَنَّهُ قَدْ قِيل عِنْدَهُمْ بِكُلٍّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ. أَمَّا حَيْثُ لاَ يُوجَدُ مَا يُغْنِي فِي الْحِصَّةِ الْمَوْقُوفَةِ عَنِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهَا تُبَاعُ كُلُّهَا - كَغَيْرِ الْمَوْقُوفَةِ - مَنْعًا لِكَثْرَةِ الأَْيْدِي، كَمَا اسْتَدْرَكَهُ النَّفْرَاوِيُّ عَلَى بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْوَقْفَ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرَكُ جَمِيعُهُ وَقْفًا، وَحِينَئِذٍ يَقُومُ الطَّالِبُ بِالنَّفَقَةِ اللاَّزِمَةِ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي مَا يَخُصُّ الْحِصَّةَ الأُْخْرَى مِنْ غَلَّتِهَا.
وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ إِجْبَارَ الشَّرِيكِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الإِْصْلاَحِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ مُحَقَّقٌ: وَقَدْ مَثَّلُوهُ بِإِصْلاَحِ الْعُيُونِ وَالآْبَارِ - حَتَّى لَقَدْ رَفَضُوا قَوْل مَنْ قَال مِنْهُمْ بِالإِْجْبَارِ إِذَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْعُيُونِ أَوِ الآْبَارِ زَرْعٌ، أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ. وَرَأَوْا أَنْ يَقُومَ بِالإِْصْلاَحِ الشَّرِيكُ الَّذِي يُرِيدُهُ، ثُمَّ يَحُول بَيْنَ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ وَبَيْنَ كَمِّيَّةِ الْمَاءِ الزَّائِدَةِ - الَّتِي نَتَجَتْ مِنْ عَمَلِيَّةِ الإِْصْلاَحِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا يَخُصُّهُ مِنَ النَّفَقَاتِ، وَلَوْ ظَل كَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ.
نَعَمْ سِيَاقُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ هُنَا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، (لَكِنَّهُمْ نَصُّوا - فِي مَوْضِعِهِ - عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْحَيَوَانَ لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ) : ذَلِكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْقَاضِي السُّلْطَةَ نَفْسَهَا إِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مِلْكًا خَاصًّا، وَامْتَنَعَ مَالِكُهُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ - غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّهُمْ زَادُوا إِعْطَاءَ الْمَالِكِ خِيَارَ ذَبْحِ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ حَتَّى إِذَا رَفَضَ هَذَا وَذَاكَ أَيْضًا نَابَ عَنْهُ الْقَاضِي (18) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ إِلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى التَّعْمِيرِ وَالإِْنْفَاقِ مَعَ شَرِيكِهِ؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَصِيَانَةً لِلأَْمْلاَكِ عَنِ التَّعْطِيل، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الصَّلاَحِ. وَقَوْلٌ بِعَدَمِ الإِْجْبَارِ لأَِنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ بِالنَّفَقَةِ أَيْضًا، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ، أَوْ وُجْهَةُ نَظَرٍ، ثُمَّ كُل مَا لَيْسَتْ لَهُ رَوْحٌ. . فَلَيْسَتْ لَهُ فِي نَفْسِهِ حُرْمَةٌ يَسْتَحِقُّ الإِْنْفَاقَ مِنْ أَجْلِهَا، وَلاَ فِي تَعْطِيلِهِ إِضَاعَةُ مَالٍ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، إِذْ لاَ يَعُدُّونَ التَّرْكَ مِنْ هَذِهِ الإِْضَاعَةِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ فِعْلٍ إِيجَابِيٍّ: كَأَنْ يَقْذِفَ الشَّخْصُ بِمَتَاعِهِ إِلَى الْبَحْرِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ أَقْوَى دَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ الْجُورِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَسْتَثْنِي النَّبَاتَ وَيُلْحِقُهُ بِالْحَيَوَانِ. وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، بِأَنَّ الأَْمْرَ يُوَكَّل إِلَى الْقَاضِي: فَإِنْ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ إِلاَّ الْعِنَادَ أَجْبَرَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (19) .
رُجُوعُ الشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَنْفَقَ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَل بِالنَّفَقَةِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا يَنْقَسِمُ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، فَمُتَبَرِّعٌ لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَنْفَقَ - لاَ مِثْلاً وَلاَ قِيمَةً؛ لأَِنَّ لَهُ بِالْقِسْمَةِ مَنْدُوحَةً عَنْ ذَلِكَ. إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ خَافَ تَلَفَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، أَوْ نُقْصَانَهُ، إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ لِنَقْلِهِ مِنْ مَكَانِهِ - كَمَا لَوْ تَعَطَّلَتِ الشَّاحِنَةُ بِالْمَال الْمُشْتَرَكِ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ، كَبَادِيَةٍ مَثَلاً - فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى نَقْلِهِ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى شَرِيكِهِ.
أَمَّا فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ: فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي " الأَْشْبَاهِ " الْقَوْل بِرُجُوعِ الْمُنْفِقِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَأَنَّهُ - إِنْ أَمْكَنَ - يُؤَجِّرُ الْعَيْنَ وَيَسْتَوْفِي مِنْ أُجْرَتِهَا مِثْل النَّفَقَةِ الَّتِي أَنْفَقَهَا - إِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْقَاضِي - أَوْ قِيمَةَ مَا أَجْرَاهُ مِنْ أَوْجُهِ الإِْصْلاَحِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْقَاضِي (20) .
وَالشَّرِيكُ الَّذِي يَسْتَقِل بِالإِْنْفَاقِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ وَدُونَ إِذْنٍ مِنَ الْقَاضِي، لاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَبَرِّعٌ، حَتَّى فِي مَوْضِعِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي النَّفَقَةِ، قِيَاسًا عَلَى الَّذِي يَقْضِي دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِي حَالَةِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ، إِذَا أَنْفَقَ الشَّرِيكُ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَى شَرِيكِهِ، بِنَاءً عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي الَّذِي يَقْضِي دُونَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ - أَعَنَى رِوَايَةَ اسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَمَّرَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الرَّحَى الْمُشْتَرَكَةَ بِإِذْنِ شُرَكَائِهِ أَوْ مَعَ سُكُوتِهِمُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِحِصَصِهِمْ مِمَّا أَنْفَقَهُ فِي ذِمَمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ إِنْفَاقُهُ مَعَ إِبَائِهِمْ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ فِي ذِمَمِهِمْ وَلَكِنْ يَسْتَوْفِي مِنَ الْغَلَّةِ ثُمَّ مَا يَفْضُل مِنَ الْغَلَّةِ فَهُوَ لَهُمْ جَمِيعًا (21) . الدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ:
13 - هُوَ كُل دَيْنٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِشَرِيكَيْنِ فَأَكْثَرَ. كَمَا لَوْ بَاعَ الشَّرِيكَانِ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ دُونَ تَحْدِيدِ ثَمَنٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا؛ أَمَّا لَوْ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدَّيْنِ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا اخْتَلَفَ السَّبَبُ، وَانْتَفَى الاِشْتِرَاكُ فِي الدَّيْنِ: وَذَلِكَ كَالدَّيْنِ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَى مُشْتَرٍ وَاحِدٍ ثَمَنًا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَدَارٍ، أَوْ قِطْعَةِ أَرْضٍ يَمْلِكُهَا اثْنَانِ مَا دَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلٍّ، وَإِنْ أَخَذَ عَلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ صَكًّا وَاحِدًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ. فَهَذَا دَيْنٌ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ بِسَبَبَيْنِ. لاَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، بِرَغْمِ اتِّحَادِ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي وَالصَّكِّ. فَلاَ سَبِيل لأَِحَدِ الْبَائِعَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، إِذَا تَقَاضَى مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا.
وَمِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا كُل دَيْنٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِشَرِيكَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَهُوَ مَا كَانَ عِوَضًا عَنْ مَالَيْنِ غَيْرِ مُشْتَرَكَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ اسْتُحِقَّ عَنْهُمَا بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ: كَدَارٍ لِهَذَا وَدَارٍ لِذَاكَ، بَاعَاهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ إِجْمَالِيٍّ لَهُمَا، دُونَ أَنْ يُمَيَّزَ فِيهِ ثَمَنُ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، لاَ بِبَيَانِ مِقْدَارٍ - كَسِتِّمِائَةٍ لِهَذَا وَأَرْبَعُمِائَةٍ لِذَاكَ - وَلاَ بِتَحْدِيدِ صِفَةٍ، كَنُقُودٍ فِضِّيَّةٍ لِهَذَا وَذَهَبِيَّةٍ لِذَاكَ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَاالتَّمْيِيزِ يُنَافِي اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ: بِدَلِيل أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ أَنْ يَقْبَل الْبَيْعَ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ، وَيَرْفُضَهُ فِي نَصِيبِ الآْخَرِ، مُعْتَذِرًا بِأَنَّ هَذَا الثَّمَنَ أَوْ ذَاكَ الْوَصْفَ لاَ يُنَاسِبُهُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّيْنُ مُشْتَرَكًا. إِلاَّ أَنَّهُ فِي حَالَةِ التَّمْيِيزِ بِبَيَانِ تَفَاضُل الاِسْتِحْقَاقَيْنِ، إِذَا زَال التَّفَاضُل بِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَادَ الدَّيْنُ مُشْتَرَكًا.
وَزَادَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اشْتِرَاطُ أَنْ لاَ يَكُونَ التَّمْيِيزُ فِي الْمِقْدَارِ أَوِ الصِّفَةِ قَائِمًا أَصْلاً، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْعَقْدِ (22) .
قَبْضُ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ كُل دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مَثَلاً، إِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا - وَلَوْ كَانَ الْمُؤَدِّي كَفِيل الْمَدِينِ، أَوْ مُحَالاً عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مَقْبُوضٌ عَنِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَلِلَّذِي لَمْ يَقْبِضْ - وَيُسَمُّونَهُ الشَّرِيكَ السَّاكِتَ - أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ، بِنِسْبَةِ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ لِيَتَمَلَّكَهُ، وَيَرْجِعَ هُوَ بِحِصَّتِهِ فِيهِ عَلَى الْمَدِينِ رُجُوعًا مُقَيَّدًا بِعَدَمِ التَّوَى، حَتَّى إِذَا تَوِيَتْ عَلَى الْمَدِينِ، كَأَنْ مَاتَ مُفَلِّسًا، عَادَ بِهَا عَلَى الْقَابِضِ، إِذْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا كَانَ يَرْجُو سَلاَمَتَهُ، وَشَرْطُ السَّلاَمَةِ فِي مِثْلِهِ مَفْهُومٌ عُرْفًا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ الدَّيْنُ دَيْنَ مُعَاوَضَةٍ كَأَلْفٍ هِيَ ثَمَنُ دَارٍ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، أَمْ دَيْنَ إِتْلاَفٍ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الأَْلْفُ قِيمَةَ زَرْعٍ لَهُمَا ضَمِنَهُ قَالِعُهُ أَوْ مُحْرِقُهُ، أَمْ غَيْرُهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِيرَاثًا وَرِثَاهُ عَنْ مُوَرِّثٍ وَاحِدٍ، أَوْ بَدَل قَرْضٍ أَقْرَضَاهُ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا عَنِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا عَنْ حِصَّةِ الْقَابِضِ وَحْدَهُ، إِلاَّ إِذَا وَقَعَتْ قِسْمَةُ الدَّيْنِ بَيْنَ الدَّائِنَيْنِ، وَهَذَا لَمْ يَحْصُل، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُل، لِمَعْنَيَيْنِ:
15 - أَوَّلُهُمَا: أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لاَ يُمْكِنُ تَمْيِيزُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ، فَلاَ تُتَصَوَّرُ فِي الدَّيْنِ إِذَنْ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تَخْلُو مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لأَِنَّ كُل جُزْءٍ فَرَضْنَاهُ فِي الْمَال الْمُشْتَرَكِ، مَهْمَا صَغُرَ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ. فَلَوْ صَحَّحْنَاهَا بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، لَكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ اشْتَرَى مَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ مِنْمِلْكِ صَاحِبِهِ فِي الدَّيْنِ، بِمَا تَرَكَهُ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ هُوَ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل بَيْعِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ (الَّذِي لَمْ يَقْبِضْ) أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَدِينِ؛ فَلأَِنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّةِ هَذَا الْمَدِينِ، وَلَيْسَتْ لِهَذَا الْمَدِينِ وِلاَيَةُ دَفْعِهِ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِهَذَا الدَّفْعِ (23) .
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْقَابِضِ ابْتِدَاءً، كَانَ عَيْنُ حَقِّهِ فِيمَا قَبَضَهُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ: فَلَيْسَ لِلْقَابِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَيُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِثْل الدَّيْنِ أَمْ أَجْوَدَ أَمْ أَرْدَأَ؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ الْجِنْسُ وَاحِدًا فَاخْتِلاَفُ الْوَصْفِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ لاَ يُنَافِي أَنَّ الْقَبْضَ عَنِ الدَّيْنِ: وَلِذَا يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى قَبُول الأَْجْوَدِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَقْبُوضُ عِنْدَ الْقَابِضِ بِسَبَبٍ مَا كَضَيَاعٍ، أَوْ تَلَفٍ، أَوْ دَفَعَهُ لِلْغَيْرِ فِي مُعَاوَضَةٍ، أَوْ ضَمَانٍ، أَوْ تَبَرُّعٍ، فَإِنَّهُ - فِي غَيْرِ حَالَةِ تَلَفِهِ بِيَدِ الْقَابِضِ دُونَ تَعَدٍّ مِنْهُ - يَكُونُ قَدْ فَوَّتَ عَلَى شَرِيكِهِ حِصَّتَهُ فِيهِ، وَمِنْ حَقِّ هَذَا الشَّرِيكِ إِذَنْ أَنْ يُضَمِّنَهُ إِيَّاهَا. وَفِي حَالَةِ عَدَمِ التَّعَدِّي لاَ تَضْمِينَ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْفَوَاتُ كُلُّهُ عَلَى الْقَابِضِ، وَنَصِيبُ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي الدَّيْنِ يَظَل كَامِلاً فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
أَمَّا إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْقَابِضِ بَعْدَ تَوَاءِ حَقِّهِ عِنْدَ الْغَرِيمِ (الْمَدِينِ) فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مِثْل هَذَا الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ، دَيْنًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْقَطَ تَعَلُّقَ حَقِّهِ بِعَيْنِ الْمَقْبُوضِ، إِذْ خَلَّى بَيْنَ الْقَابِضِ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ، وَعَدَل إِلَى مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ (24) .
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ فِي الْمَقْبُوضِ مِنَ الْقَابِضِ، يَكُونُ مَا بَقِيَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ بَيْنَهُمَا - كُلٌّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُ، وَهِيَ نَفْسُ نِسْبَةِ حَقَّيْهِمَا فِي الدَّيْنِ الأَْصْلِيِّ.
هَذَا الْحُكْمُ، أَعْنِي كَوْنَ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا أَطْلَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: سَوَاءٌ أَجَّل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ فِي الدَّيْنِ أَمْ لَمْ يُؤَجِّل؛ لأَِنَّ هَذَا التَّأْجِيل مِنْ أَحَدِهِمَا لَغْوٌ عِنْدَهُ، إِذْ هُوَ يَتَضَمَّنُ الْقِسْمَةَ - بِدَلِيل أَنَّ الْحَال غَيْرُ الْمُؤَجَّل، وَصْفًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَحُكْمًا؛ لاِمْتِنَاعِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمُؤَجَّل دُونَ الْحَال.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنَّ التَّأْجِيل يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ فَإِنْ أَجَّل أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ اسْتَقَل الْقَابِضُ بِمَا قَبَضَ خِلاَل الأَْجَل إِلَى أَنْ يَحِل؛ لأَِنَّ الأَْجَل يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّأْجِيل صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا، إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، فَيَنْفُذُ قِيَاسًا عَلَى الإِْبْرَاءِ، بَل لَيْسَ هُوَ إِلاَّ إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا، فَيُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ. فَإِذَا حَل الأَْجَل، اعْتُبِرَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الآْخِرُ قَدْ قَبَضَ مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا بِحِصَّتِهِ فِيهِ، إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَإِلاَّ ضَمَّنَهُ إِيَّاهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِمَنْ أَخَّرَ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْحَال أَنْ يُشَارِكَ مَنْ لَمْ يُؤَخِّرْ فِيمَا يَقْبِضُهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَاسْتَثْنَوْا مَا إِذَا كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، وَتَلِفَ الْمَقْبُوضُ، وَلَمْ يَحِل الأَْجَل بَعْدُ (25) .
وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ تَقْرِيرِ ابْنِ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَهُ خَاصَّةً، بَل مِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِصَرِيحِ الْعِبَارَةِ، كَمَا فَعَل الْقَاضِي (26) .
مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ: (مَا يُعَادِل الْوَفَاءَ) :
16 - هُنَاكَ أَشْيَاءُ تُعَادِل الْوَفَاءَ بِالدَّيْنِ، كُلًّا أَوْ بَعْضًا. إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ مِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ مِنْ دَائِنٍ بِعَيْنِهِ؛ لأَِنَّهُ اقْتِضَاءٌ لِلدَّيْنِ مَعْنًى: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ مَدِينِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بِدَيْنٍ لَهُ لاَحِقٍ - كَأَنْ بَاعَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ، أَوْ آجَرَهُ، أَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا، صَالَحَهُ عَنْ دَيْنِهِ بِشَيْءٍ مَا، أَوْ رَهَنَهُ بِهِ رَهْنًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ، أَوْ أَتْلَفَ لَهُ الدَّائِنُ شَيْئًا، أَوْ غَصَبَهُ إِيَّاهُ فَهَلَكَ عِنْدَهُ، أَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ عَيْنًا اشْتَرَاهَا مِنْهُ شِرَاءً فَاسِدًا، بِتَلَفِهَا أَوْ خُرُوجِهَا مِنْ يَدِهِ.
وَمِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الإِْقْبَاضِ وَالْقَضَاءِ، لاَ الْقَبْضِ وَالاِقْتِضَاءِ: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ لَهُ سَابِقٍ، إِذِ الْقَاعِدَةُ: أَنَّ. الدَّيْنَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا قِصَاصًا يَكُونُ الثَّانِي قَضَاءً لِلأَْوَّل؛ لأَِنَّ الأَْوَّل كَانَ وَاجِبَ الْقَضَاءِ قَبْلَهُ - كَمَا لَوْ اشْتَرَيْتَ مِنْهُ شَيْئًا وَقَبَضْتَهُ، ثُمَّ أَتْلَفَهُ عَلَيْكَ قَبْل أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ.
وَمِنْهَا مَا لاَ مُقَاصَّةَ فِيهِ أَصْلاً، بَل هُوَ بِمَثَابَةِ الإِْتْلاَفِ: كَهِبَةِ الدَّيْنِ وَالإِْبْرَاءِ مِنْهُ، أَوْ لَيْسَ بِإِتْلاَفٍ، وَلَكِنْ لاَ يُسَلَّمُ لِلْمُوفِي بِهِ مَا يَحْتَمِل الشَّرِكَةَ فِيهِ: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِهِ مَهْرًا لَهَا، أَوْ عَنْ ذِمَّةِ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ بِجَعْلِهِ بَدَل صُلْحٍ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ - قَتْلاً أَوْ غَيْرَهُ، كَمَا لَوْ شَجَّ الْمَدِينُ مُوضِحَةً: لأَِنَّ الْعَقْدَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَقَعَ عَلَى نَفْسِ الدَّيْنِ - فَمُلِكَبِعَيْنِهِ، ثُمَّ سَقَطَ - لاَ عَلَى شَيْءٍ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَوِ الْجَانِي، حَتَّى تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَيَصْدُقُ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَقْبَل الشَّرِكَةَ، وَهُوَ مَا الْتَزَمَاهُ فِي ذِمَّتَيْهِمَا: وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ بِضْعَ الْمَرْأَةِ، وَسُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الْجَانِي، كِلاَهُمَا لاَ يَقْبَل الشَّرِكَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْل ذَلِكَ فِي الإِْجَارَةِ إِذَا قُيِّدَتْ بِنَفْسِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيل الْمَال الْمُطْلَقِ (27) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَوْفَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ شَرِيكَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ - بِمَعْنَى أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ هَذَا الرُّجُوعِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الدَّيْنِ - إِلاَّ فِيمَا هُوَ لَوِ اقْتَضَاهُ وَقَبَضَ فِي الْمَعْنَى، حَيْثُ يُسَلَّمُ لِلْقَابِضِ شَيْءٌ يَقْبَل الشَّرِكَةَ، لاَ فِيمَا هُوَ قَضَاءٌ أَوْ إِتْلاَفٌ.
إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي حَالَةِ الصُّلْحِ - وَقِوَامُهُ الْمُسَامَحَةُ وَالتَّغَاضِي - يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِيمَا عَدَاهُ مِمَّا يَعْتَمِدُ الْمُمَاكَسَةَ وَالتَّشَاحَّ: كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ: فَإِنَّ فِي حَالَةِ الْبَيْعِ مَثَلاً، يَكُونُ لِلشَّرِيكِ بِالنِّصْفِ أَنْ يَرْجِعَ بِالرُّبُعِ عَلَى شَرِيكِهِ الَّذِي اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَدِينِ، وَأَنْ يُلْزِمَهُ بِذَلِكَ، إِذْ لاَ غَبْنَ فِيهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَدَّخِرَ وُسْعًا فِي الْحُصُول عَلَى مَا يُعَادِل أَوْ يَفُوقُ الثَّمَنَ الَّذِي يَدْفَعُهُ. وَلاَ شَأْنَ لِلشَّرِيكِ الرَّاجِعِ بِمَا اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّقَاصُّ بَيْنَ هَذَا الثَّمَنِ وَمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْبَائِعِ - نَعَمْ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَجْعَلاَ هَذَا الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَهُمَا، وَهِيَ صَفْقَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ: كَأَنَّ الشَّرِيكَ الرَّاجِعَ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِرُبُعِ الدَّيْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي.
أَمَّا فِي حَالَةِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى شَرِيكِهِ الَّذِي صَالَحَ عَنْ نَصِيبِهِ بِشَيْءٍ مَا، لَمْ يَمْلِكْ إِلْزَامَهُ بِرُبُعِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِمَّا حَصَل عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، لِبِنَائِهِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَمَا قُلْنَا. بَل يَكُونُ لِلشَّرِيكِ الصَّالِحِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِعْطَائِهِ رُبُعَ الدَّيْنِ، وَإِعْطَائِهِ نِصْفَ الشَّيْءِ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ (28) .
إِذَا أَبْرَأَ أَحَدُ الدَّائِنَيْنِ مَدِينَهُمَا مِنْ بَعْضِ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ بَاقِي حِصَّتِهِ، وَلِلآْخَرِ حِصَّتُهُ كَامِلَةً: فَإِذَا وَقَعَ لَهُمَا قَبْضُ شَيْءٍ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ قِسْمَتَهُ بَيْنَهُمَا - إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنِ الإِْبْرَاءِ - تَكُونُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ: أَيْ نِسْبَةِ مَا بَقِيَ لِلْمُبْرِئِ إِلَى تَمَامِ حِصَّةِ الآْخَرِ، أَوْ كَمَا يَقُولُونَ " تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ السِّهَامِ ". وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الإِْبْرَاءُ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ - لِصِحَّةِ الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَبْضِ. فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا مَثَلاً، لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، فَأَبْرَأَ أَحَدُهُمَا الْمَدِينَ مِنْ مِائَةٍ، فَمَا بَقِيَ لِلْمُبْرِئِ إِنَّمَا هُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَا لِصَاحِبِهِ، فَتَكُونُ قِسْمَةُ مَا يَقْبِضُهُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
أَمَّا إِذَا وَقَعَ هَذَا الإِْبْرَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى التَّسَاوِي، فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ حَقَّيْهِمَا عِنْدَهَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَدِينُ عَلَى مُبْرِئِهِ بِالْمِائَةِ الَّتِي أُبْرِئَ مِنْهَا وَهَذَا مَوْضِعُ وِفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ صِحَّةَ الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (29) .
__________
(1) رد المحتار 2 / 343. والمغني 5 / 3.
(2) رد المحتار 3 / 343، وفتح القدير 5 / 12 - 14، وتنوير الأبصار وشروحه 3 / 362 - 363، والفواكه الدواني 2 / 171، ونهاية المحتاج 5 / 14، ومطالب أولي النهى 3 / 509.
(3) رد المحتار 3 / 344، والإتحاف بأشباه ابن نجيم 448.
(4) نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 14، 184 و 187، وبلغة السالك 2 / 165 و 213، 319، 320، وبداية المجتهد 2 / 319، ومغني المحتاج 2 / 292، والشرقاوي على التحرير 2 / 109، والمغني لابن قدامة 5 / 410، ومطالب أولي النهى 3 / 494.
(5) بدائع الصنائع 6 / 65، ورد المحتار 3 / 343.
(6) المادة 1075 من المجلة، وحواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216، ونهاية المحتاج 5 / 2، 185، ومطالب أولي النهى 3 / 494.
(7) رد المحتار 3 / 346، وفتح القدير 7 / 123، والعناية على الهداية 7 / 121، بداية المجتهد 2 / 329، البجيرمي على المنهج 3 / 216.
(8) رد المحتار 3 / 346، 367، ومغني المحتاج 2 / 13، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 83.
(9) البهجة على التحفة 2 / 216.
(10) حواشي نهاية المحتاج 5 / 83، ومغني المحتاج 2 / 13، وحواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216.
(11) الدر المختار مع ابن عابدين 3 / 345.
(12) رد المحتار 3 / 346، ومغني المحتاج 2 / 189، والبهجة على التحفة 2 / 209، 216.
(13)
(14) المراجع السابقة، والشرقاوي على التحرير 2 / 113.
(15)
(16) ملا مسكين على الكنز 2 / 208، والعناية على الهداية 8 / 380 ومغني المحتاج 2 / 189. والبجيرمي على المنهج 3 / 15، الخرشي 4 / 278، والمغني 5 / 36.
(17)
(18) ابن عابدين 3 / 366، والخرشي 4 / 372، وبلغة السالك 2 / 173 - 174، والفواكه الدواني 2 / 108 - 109.
(19) الشرقاوي على التحرير 2 / 347، 348 دليل الطالب 250 - 251، ومغني المحتاج 2 / 190، والمغني لابن قدامة 5 / 45، 49، 50.
(20) رد المحتار 3 / 364 - 366 - 367.
(21) رد المحتار 3 / 367 - 368، والخرشي 4 / 273 - 274، ومغني المحتاج 2 / 210، والمغني لابن قدامة 5 / 47، 88.
(22) تبيين الحقائق 5 / 45، والعناية على الهداية مع فتح القدير 7 / 47.
(23) بدائع الصنائع 6 / 65، وتبيين الحقائق 5 / 46، والفتاوى الهندية 2 / 340، ونهاية المحتاج 5 / 14، والخرشي على خليل 4 / 404، ومغني المحتاج 4 / 426، والشرح الكبير مع المغني 5 / 124.
(24) الفتاوى الهندية 2 / 337، والأتاسي على المجلة 4 / 42، وبدائع الصنائع 6 / 65 - 66.
(25) المراجع السابقة وتبيين الحقائق 5 / 47، 48، ومطالب أولي النهى 3 / 507.
(26) مطالب أولي النهى 3 / 509.
(27) تبيين الحقائق 5 / 47.
(28) بدائع الصنائع 6 / 66 - 68، ومجمع الأنهر 2 / 317 - 318، وتبيين الحقائق 5 / 45 - 48.
(29) المراجع السابقة.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 20/ 26