القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
من حكمة الله -عز وجل- وعدله: أنه فاضل بين عباده في الرزق والعطاء، فجعل منهم أغنياء، وجعل منهم فقراء، وجعل منهم أحراراً، وجعل منهم عبيداً، بسط على بعض، وضيق على آخرين، وكثر لبعض، وقلل على آخرين، وسع الرزق على من يشاء، وقتره على من يشاء، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، التي تعجز عقولنا عن إدراكها، وتقصر أفهامنا عن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى، ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه، فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر: 54 - 55]، وقال -سبحانه-: (وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
عباد الله: من حكمة الله -عز وجل- وعدله: أنه فاضل بين عباده في الرزق والعطاء، فجعل منهم أغنياء ومنهم فقراء، وجعل منهم أحراراً ومنهم عبيداً، بسط على بعض وضيق على آخرين، وكثر لبعض وقلل على آخرين، وسع الرزق على من يشاء وقتره على من يشاء؛ لما له في ذلك من الحكم العظيمة، التي تعجز عقولنا عن إدراكها، وتقصر أفهامنا عن الإحاطة بها، قال جل وعلا: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) [النحل: 71]. وقال -سبحانه-: (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) [الرعد: 26].
ومن أظهر الحكم وأجلاها في هذا التفضيل، هو: الابتلاء والتمحيص، يبتلي بعض عباده بالغنى والثراء، ليظهر الشاكر من الكافر، ويبتلي بعض عباده بالفقر ليظهر الصابر من الجازع، قال عز وجل: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35].
وقال عن سليمان: (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل: 40].
ونقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره أثراً عن الحسن البصري -رحمه الله- أخرجه ابن أبي حاتم -رحمه الله-: أن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري: "واقنع برزقك من الدنيا؛ فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق بلاء يبتلى به كلا؛ فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله".
وروي عن بعض السلف أنه قال: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر".
نعم -عباد الله- الغنى ابتلاء والفقر ابتلاء، ومن أدرك هذه الحقيقة وهذه الحكمة عرف كيف يتعامل مع هذا الابتلاء؛ فينجو من الخسران، ويدرك الفوز والأمان؛ فالغني يشكر الله -عز وجل- على ما خوله من المال، فيخرج حقوق هذا المال طيبة بها نفسه؛ لا يشوبه رياء ولا سمعة ولا يلحقه أذى ولا منة، يحميه من السرف والتبذير، ويحوطه بسياج من العلم الشرعي، وحسن التصرف والتدبير، ويعلم أنه ما أعطي هذا المال ليتكاثر به على إخوانه، ويتفاخر به على من دونه، ويؤذي به الناس، ويتسلط به عليهم، ويهينهم ويقهرهم به، ويصرفه في شهواته وملذاته؛ كلا، بل إنما أعطي هذا المال ابتلاء وامتحاناً وتذكيراً وتنبيهاً بأن المال له سلطان على النفوس، والغالب أن النفوس تضعف أمامه، فتقع في المحذور الذي ذكره الله -عز وجل- في كتابه في قوله جل وعلا: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6- 7]. وفي قوله -سبحانه-: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19 - 21]، وفي قوله -عز شأنه-: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 28].
وليعرف المسلم ما في المال من الحقوق والواجبات، وما ينبغي صرفه فيه من وجوه البر والخيرات، وأعظم الحقوق التي في المال الزكاة التي ذكرها الله -عز وجل- قرينة الصلاة في أكثر من موضع من كتابه العزيز.
وسوف أفرد الزكاة بخطبة مستقلة -ان شاء الله تعالى-.
ومن أجل القربات وأفضل الأعمال التي في هذا المال سوى الزكاة: الصدقة على الأسر الفقيرة؛ التي إن وجدت الفراش لم تجد الغطاء، وإن وجدت الغطاء لم تجد الفراش، وإن حصلت الغذاء لم تحصل العشاء، والتي تعاني معاناة عظيمة في أيام المواسم؛ كالعيدين؛ فلا تجد الثوب الجميل والكساء النظيف، والمركب المريح، وبداية الدراسة فيعوزها الحصول على أدوات الدراسة من كتب ودفاتر وأقلام وثيات وحقائب، وفصل الشتاء، فلا تجد ثمن الملابس الصفيقة والخفاف والجوارب ووسائل التدفئة، وإن وجدت ذلك أعجزها دفع قيمة فواتير الاستهلاك من كهرباء وهاتف وماء؛ فالصدقة على هذه الأسر من أعظم القرب، وأفضل الأعمال.
ومن ذلك -عباد الله-: المساهمة في بناء المساجد وملحقاتها، والتبرع لحلقات تحفيظ القرآن الكريم من رواتب للمدرسين وجوائز لحفظة كتاب الله، والتالين له، ووسائل نقل لهم، وتهيئة أماكن الترفيه لهم، وبناء الدور التي تعني بالمسنين، وذوي العاهات والعاطلين؛ فإن ذلك كله من أسباب نماء المال وحفظه، وإنزال البركة فيه، قال الله -عز وجل-: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276].
وقال عليه الصلاة والسلام: "ما نقصت صدقة من مال".
بل إن هذا العمل الصالح فيه إبراز وإظهار للتكافل الاجتماعي في الإسلام، وفيه إدخال السرور والسعادة على الأسر الفقيرة، وفيه تقوية للخير، وإضعاف للشر، وهذا في الدنيا.
ولو تعلمون -عباد الله- ما في الصدقة؛ التي سلمت من الأذى والمنة، ومن الرياء والسمعة من الأجر العظيم في الآخرة لتسابقتم إليها وتنافستم فيها؛ من ذلك مضاعفة الأجر، ومنها أن الصدقة تدفع ميتة السوء، ففي سنن الترمذي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء".
ومنها أن المتصدق يكون يوم القيامة في ظل صدقته.
ومنها أن عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث كما في الحديث الصحيح، وذكر منها: "صدقة الجارية"؛ فأي عاقل يرغب عن هذا العمل الصالح الجليل الذي هذه ثمراته ومنافعه في الدنيا والآخرة.
لولا ما علق بالنفوس من الشوائب، واعتراها من العوارض التي تصد الإنسان عن هذا العمل الجليل، وتنسيه فضله وثمرته ونفعه، شيطان يدعو إلى البخل والإمساك عن الصدقة في وجوه الخير والبر، ويخوف الناس من الفقر والعوز إذا هم أنفقوا أموالهم في سبيل الله، ونفس أمارة بالسوء، وهوى متبع، وقرناء سوء يزينون لقرينهم ترك الصدقة، والبذل في وجوه البر والاحسان، مع أنك تلاحظ من هؤلاء البذل الباهظ والإنفاق الكثير في شهوات أنفسهم وأهليهم، ولا يكترثون بما أنفقوا قليلاً أو كثيراً، ولا يخافون الفقر والجوع، يسافر أحدهم إلى بلاد خارجية ويصحب معه أهله، فينفق في هذه السفرة أموالاً كثيرة تعد بالآلاف، ينفقها بطيبة نفس، يقيم أحدهم وليمة عرس، فيجعلها في أحد الفنادق أو القصور ذات الأجور المرتفعة، ولا يقيم لذلك وزناً، ولا يكترث بما أنفقه فيها، يقيم حفلة بمناسبة تخرج، أو حصول على مرتبة، أو شفاء من مرض، أو قدوم غائب، أو خروج سجين، أو قدوم مولود فينفق فيها اموالاً باهضة، ولا يسأل عن ذلك ولا يكترث به يدعو أميراً أو وزيراً أو كبيراً بجاهه أو ماله، فيصنع مأدبة تكلفه مالاً كثيراً فلا يكترث لذلك، ولقد حدثني صاحب معرض لبيع السيارات: أن رجلاً جاء إليه مصطحباً معه ابنه فسأل عن سيارة تساوي مائة وخمسين ألفاً، فسأله صاحب المعرض: لمن السيارة؟ فقال: لابني هذا، قال فتأملت ابنه الذي معه، فإذا علامات السفه عليه، فتعجبت من ذلك، فقلت له: اشتر سيارة أقل ثمناً؟ فقال: إن ابني هذا يريد سيارة -وذكر نوعها- تساوي ثلاثمائة ألف وأنا أريد أن أرضيه بسيارة تساوي الثمن الذي ذكرت.
هذا ما حصل -عباد الله- لو أن هذا وأمثاله دعي إلى الصدقة على أسر فقيرة أو الإنفاق في مشاريع خيرة لأحجم عن الإنفاق، وتعلل بعلل واخترع أسباباً واهية تمنعه من البذل والإنفاق، وإن أنفق أنفق شيئاً يسيراً، يقل أضعافاً كثيرة عن ما ينفقه في شهوات نفسه أو مجاملة أو رياء وسمعة أو من أجل مصلحة دنيوية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن هذا العمل الصالح يحتاج منا إلى مجاهدة للنفس، ومغالبة للهوى، ومعصية للشيطان؛ فالله -سبحانه وتعالى- يدعو إلى ما فيه غنانا وعزنا وفلاحنا وفوزنا، والشيطان وأولياؤه يدعون إلى ما فيه فقرنا وذلنا وخسارتنا وهلاكنا؛ فلنجاهد أنفسنا على هذا العمل الصالح، وليبشر من جاهد نفسه في ذات الله بأن الله -عز وجل- سوف يهديه إلى ما فيه خيره وصلاحه، ويعينه ويسدده، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
عباد الله: استمعوا إلى هذا الحديث الذي نطق به الخليل محمد بن عبدالله -عليه الصلاة والسلام- وتأملوه، قال عليه الصلاة والسلام: "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتني، ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس".
فلنتق الله -عز وجل- ونجاهد النفس والشيطان والهوى، ودعاة الشر والأذى.
اللهم بارك لنا في أموالنا وأولادنا وأعمارنا. اللهم وفقنا لفعل الخيرات، وجنبنا الوقوع في السيئات. اللهم اجعلنا من عبادك المتصدقين المنفقين، وأجرنا من خزي يوم الدين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.