الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد حرص الإسلام على أن تكون العلاقة بين الزوجين قائمة على الرحمة والعطف، والتغاضي عن الأخطاء، ومعالجة ما يمكن علاجه من عوج عند أحد الزوجين، فشرع الله -جل جلاله- من الوسائل لمعالجة المشاكل الزوجية ما لو أخذ بها أهل الإسلام لسعدوا، ولاستقامت الأحوال، ولما رأينا إشغال المحاكم وغيرها بالقضايا الزوجية، ولما رأينا كثرة الخصومات والتدخلات التي قد يكون سببها توافه حقيرة لا قيمة لها ولا وزن، ولربما عُولجت هذه التوافه بالإغضاء والتحمل حتى تزول.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المؤمنون: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، فمن حقق التقوى جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب؛ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2- 3].
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف: 189]، ففي النكاح أنس وطمأنينة، وبسببه توجد الذرية، ويكثر أفراد الأمة، بسببه يتحقق غض البصر، وحفظ الفرج فهو عقد عظيم القدر يترتب عليه أحكام متعددة فيها مصالح للزوجين ومصالح للأمة أجمع.
أمر الله الأزواج بمعاشرة زوجاتهم بالمعروف، ليكون هذا البيت سعيدًا في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والعطف والرعاية، ويعرف كل من الزوجين حق الآخر.
ففي داخل هذا البيت تنشأ الطفولة، وتتقوى أواصر التكافل، ويتحمل كل واحد من الزوجين ما قد يصدر عن الآخر من تصرفات مجانبة للصواب، وإن كان على الزوج خاصة أن يتحلى بالصبر، وأن يتجاوز عن التقصير، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- موجهًا الحديث للزوج: "لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"، أو قال "رضي منها غيره" (رواه مسلم).
إن على الزوج أن يتقي الله في زوجته، وأن يعرف طبيعتها، وما جُبلت عليه من الضعف والعوج، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فان ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج"؛ فاستوصوا بالنساء خيرًا.
وفي رواية في الصحيحين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت وفيها عوج"، وفي رواية مسلم "وكسرها طلاقها".
لقد حرص الإسلام على أن تكون العلاقة بين الزوجين قائمة على الرحمة والعطف، والتغاضي عن الأخطاء، ومعالجة ما يمكن علاجه من عوج عند أحد الزوجين، فشرع الله -جل جلاله- من الوسائل لمعالجة المشاكل الزوجية ما لو أخذ بها أهل الإسلام لسعدوا، ولاستقامت الأحوال، ولما رأينا إشغال المحاكم وغيرها بالقضايا الزوجية، ولما رأينا كثرة الخصومات والتدخلات التي قد يكون سببها توافه حقيرة لا قيمة لها ولا وزن، ولربما عُولجت هذه التوافه بالإغضاء والتحمل حتى تزول.
إن من الأزواج -هداهم الله- من يظن أن التهديد بالطلاق أو إيقاع الطلاق هو الحل الصحيح للخلافات الزوجية والمشكلات الأسرية؛ فهو لا يعرف من أساليب العلاج وطرق الحل إلا هذا الحلال البغيض.
فتراه يذكِّر به ويهدِّد بإيقاعه في مدخله ومخرجه، وفي شأنه كله، وما علم بأنه بهذا قد اتخذ آيات الله هزوًا.
أيها المسلمون: إن على الزوج إذا أحس من زوجته عدم انقياد لأمره أو قيام بحقه؛ فعليه أولاً أن يبحث عن السبب، ثم يقوم بوعظها وتذكيرها بحق الزوج ومكانته، فإن لم يجدِ هذا الأمر ولم ينجح هذا الأسلوب فليهجرها في المضجع، وليعرض عنها في الفراش، فلعلها تراجع صوابها، ولعلها أن تعود إلى الطاعة، وإن لم يجدِ هذا الأسلوب فقد يكون في الخشونة والقسوة المعقولة قد يكون فيها شيء من علاج، وهو الضرب الخفيف غير المبرح، وذلك أن القسوة إذا كانت تعيد للبيت نظامه وتماسكه أو ترد للأسرة ألفتها ومودتها فهو خير من الطلاق والفراق.
هو علاج تأدبي مصلحي ليس للتشفي والانتقام، نعم ليس للتشفي ولا للانتقام، قال الله -عز وجل- عن هذه المراحل الثلاث: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء:34].
فهو سيُحاسب الزوج إن جار أو ظلم، فكل هذه الحلول يستعملها الزوج مع زوجته الناشز دون أن يتدخل أحد خارجي؛ فإن تطور الأمر وعظم الشقاق بين الزوجين فلقد أمر الله -جل جلاله- وهو الحكيم الخبير بالتدخل بينهما للإصلاح (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء:35].
فحينما يتطور الخلاف، ويشتد النزاع بين الزوجين؛ فإنه يختار من أقارب الزوج وأقارب الزوجة رجلان يتصفان برجاحة العقل والإنصاف، فينظران في القضية، ويقومان بالإصلاح وتسوية النزاع، وإذا خافت الزوجة الجور والإعراض من زوجها؛ فقد قال الله -جل ذكره- مرشدًا إلى العلاج (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128].
والعلاج بالصلح والإصلاح، وليس بالطلاق ولا بالمخالفة، وقد يكون العلاج بالتنازل عن بعض الحقوق المالية أو الشخصية محافظة على عقدة النكاح ومصلحة الأولاد.
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) خير من الشقاق والنزاع والجفوة والنشوز والترافع للمحاكم وإفشاء الأسرار وتدمير الأسر وتفريق الأولاد، فإن تعذرت الوسائل السابقة، فإن الطلاق هو الحل الأخير، وهو رحمة من الله -عز وجل- للزوجين حينما تتعذر الحياة الزوجية وتصبح مصدرًا للقلاقل والمشاكل العظيمة، فهذا الزوج يبحث له عن زوجة أخرى وهي تنتظر الحياة السعيدة مع زوج آخر.
قال اللطيف الخبير: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [النساء:130].
الطريق الشرعي -يا عباد الله- يكون عند الحاجة إليه؛ طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها عنده في بيته حتى تنقضي عدتها؛ لقول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1]، أي: طلقهن وهن طاهرات من الحيض والنفاس، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجعها فله ذلك، ويُشهد على مراجعتها.
أما إذا انقضت عدتها قبل أن يراجعها بأن طهرت من الحيضة الثالثة؛ فإنها لا تحل له إلا بعقد جديد.
هذه هي الطريقة الشرعية في الطلاق والمراجعة، أما الطلاق البدعي المحرم فهو أن يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو في الطهر الذي جمعها فيه، أو يجمع الثلاثة عليها دفعة واحدة بأن يطلقها ثلاثًا في وقت واحد ولفظ واحد، فكل هذه الأحول مخالفة لطلاق السنة، وهي عمل محرم.
وكذلك أن يحلف بالطلاق فهذا أيضًا محرم، وكل من خالف الشرع وتخبط في الأحكام الشرعية بجهل فلا بد أن يندم، وأن يتحسر فتفوته فرصة المراجعة، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لا يطلق أحد للسنة فيندم".
ألا فلنتقِ الله عباد الله، ولنستمسك بديننا، ولنتعلم ما ينفعنا، وأن نربي أنفسنا على الحلم والأناة، والصبر والتحمل، وأن نحرص على العمل بالسنة؛ فإن هذا هو الفوز والفلاح.
وفقني الله وإياكم لما يرضيه، ورزقنا العلم النافع والعمل الصالح؛ إنه جواد كريم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، اللهم صلّ وسلم عليه على آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من أسباب طرح هذا الموضوع ما أستقبله من كثرة الأسئلة من الرجال، بل وأحيانًا من النساء، وقد علمت بأن غيري من طلبة العلم يُسألون عن الطلاق حتى في هذا اليوم وقبل الصلاة، وأنا وقت إعداد هذه الخطبة يتصل أحدهم يسأل عن مسألة طلاق وقعت له.
مما يدل على تساهل الأزواج في إيقاعه عند أتفه الأسباب، والواجب على من وقع منه الطلاق ألا يسأل كل أحد؛ فإن هناك مَن لا يُحسن مسائل الطلاق، والواجب أن يتصل المسلم بدار الإفتاء أو بدر القضاة في المحاكم؛ وذلك لأسباب كثرة متعدد ليس هذا موضع بسطها.
شأن الطلاق عظيم كبير -يا عباد الله-، وليس كل من أعلن عن رقم جواله أو صار معبرًا للرؤيا أو خطيبًا أو راقيًا يُحسن الكلام في جميع مسائله.
والواجب علينا جميعا أن تُبنى بيوتنا على العلم؛ أن نعمل استشارة الناصحين، ومعالجة الحياة الزوجية بوسائل الإصلاح والتفاهم والإقناع؛ فإن لم تنفع هذه الوسائل ولم تجدِ فالطلاق هو الحل.
ولكن يكون طلاقًا على السنة كما سبق.
أيها المسلمون: اتقوا الناس في الطلاق، لا تتخذوا آيات الله هزوًا، ولا يجوز أن تجعل الطلاق سلاحًا لتهديد الزوجة به في مناسبة وبدون مناسبة، ومن الناس من يحلف بالطلاق عند البيع والشراء، وعند قدوم الضيف وعند أموره كلها، وهذا عمل محرم لا يجوز.
وحتى من تلفظ بالطلاق هازلاً وقع منه الطلاق، وقد روى الترمذي وابن ماجه عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثلاث جِدهن جِد، وهزلهن جِد؛ النكاح والطلاق والرجعة".
ولا يجوز إفساد المرأة على زوجها لكي يطلقها، فقد روى أبو داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس منا من خبَّب امرأة على زوجها".
ومن الناس من إذا طلق زوجته أهمل الأولاد، وضيَّعهم، فلا نفقة ولا كسوة ولا تربية ولا توجيه، وهذا تضييع للأمانة وإهمال للأولاد، ومنهم من يضار طليقته ويوثق بها من التهم ما هي منه بريئة، وقد تفعل المطلقة ذلك، فتتهم طليقها بتهم كاذبة.
ألا فليتق الله هؤلاء؛ فإن الأمر عظيم، وإن اللسان سيُسأل عن كل ما تلفظ به.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين أجمعين، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.