العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - الحياة الآخرة |
الميزان -أيها المؤمنون- حق، وهو مما يجب على كل مكلف أن يعتقده، قال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: "ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب، وقراءة الكتاب والثواب والعقاب، والصراط والميزان"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله "خطبة الحاجة".
أما بعد:
معاشر المؤمنين: مما فُطر الناس عليه في هذه الدنيا: أن الله -تعالى- حكم عدل، لا يظلم الناس شيئًا، بل يوفيهم بأكثر مما لهم، ويتجاوز عن كثير من زلاتهم، إلا من أوبقته ذنوبه، فما تنفعهم شفاعة الشافعين -عافانا الله وإياكم من حالهم-.
ومن الأمور التي يعلم الخلق بها دقة العدل في المحاسبة والمجازاة: ما يكون يوم القيامة من العرض والحساب، ونصب الموازين كما يشاء الله -سبحانه-.
فالناس بعد صدورهم من الحوض يوقفون ليأخذوا صحفهم، ويروا ما عملوا في دار الابتلاء؛ كما قال جل ذكره: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6].
فتتطاير الصحف على الناس في ذلك الموقف العظيم، والناس يكادون أن يصعقوا من هول الموقف، فآخذ كتابه باليمين، وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره؛ كما قال سبحانه: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ) [الحاقة: 18- 20].
فهذه الصحف هي ما كانت الملائكة تكتبه على الخلق من خير وشر، وبينهما، ولا يعزب عنها شيئًا: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
في ذلك الموقف يفزع كل مخلوق إلى من يظن أن فيه نجاته، حتى إن الظالم لنفسه يحلف كذبًا أنه ما عمل باطلًا: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [المجادلة: 18].
حتى تشهد الجوارح والأعضاء بما عملت، فلا نكير ولا عتاب: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت: 19 - 20].
وقال: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يــس: 65].
وقال: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن: 39].
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضحك، فقال: "هل تدرون مم أضحك؟" قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول: بلى، قال: فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال: فيقول بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل".
معاشر المؤمنين: ألا فإن كلًا منا سوف يمر بهذا الموقف، وما منا من أحد إلا سيعرض على ربه ويكلمه، ويعرض عليه؛ كما جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولن له: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالًا، وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم" قال عدي: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة، فبكلمة طيبة".
وأخرج البخاري ومسلم قال ابن أبي مليكة: أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه، حتى تعرفه، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من حوسب عذب، قالت عائشة: فقلت: أو ليس يقول الله -تعالى-: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الإنشقاق: 8] ، قالت: فقال: "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك".
قال ابن أبي العز -رحمه الله تعالى-: "يعني أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم، وهو غير ظالم لهم، ولكنه تعالى يعفو ويصفح".
وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان جدال ومعاذير، وعرضة تطاير الصحف، فمن أوتي كتابه بيمينه، وحوسب حسابًا يسيرًا دخل الجنة، ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار".
قال ابن المبارك:
وَطَارَتِ الصُّحُفُ في الْأَيْدِي مُنَشَّرَة | فِيهَا السَّرَائِرُ وَالْأَخْبَارُ تُطَّلَعُ |
فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالْأَنْبَاءُ وَاقِعَة | عَمَّا قَلِيلٍ وَلَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ |
أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لَا انْقِطَاعَ له | أَمِ الْجَحِيمِ فَلَا تُبْقِي وَلَا تَدَعُ |
تَهْوِي بِسَاكِنِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ | إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا |
طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يُرْحَمْ تَضَرُّعُهُمْ | فِيهَا، وَلَا رِقَّية تُغْنِي وَلَا جَزَعُ |
لِيَنْفَعِ الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَه | قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا |
عباد الله: من أيقن بهذا دعته نفسه إلى الإقبال على الطاعة، وعلم أن هذه الدار دار عمل وابتلاء، وأن عليه كراما كاتبين يعلمون ما يفعل في سره وعلنه، بما وهبهم الله من الخصائص.
ألا فلنبادر إلى العمل الصالح، فإنا مبادرون، ولنخلص النية لرب البرية، فإنا محاسبون، وغدًا بأعمالنا مجزيون.
اللهم اجعلنا ممن يؤتى كتابه باليمين، واجعلنا في عداد الفائزين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين...
أما بعد:
معاشر المؤمنين: بعد أن يأخذ الناس كتبهم وصحائف أعمالهم، ينتقلون من ذلك الموقف إلى الموقف الذي بعده، ألا وهو: موضع الميزان الذي توزن به أعمال العباد؛ كما قال القرطبي: "قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها".
والميزان -أيها المؤمنون- حق، وهو مما يجب على كل مكلف أن يعتقده، قال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: "ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان".
وقال السفاريني: "والحاصل أن الإيمان بالميزان كأخذ الصحف، ثابت بالكتاب والسنة، والإجماع".
ولقد أنكرت المبتدعة كالجهمية وأضرابهم الميزان، فنادى بهم أهل السنة، وصاحوا بهم، وبينوا للناس ضلالهم؛ سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الميزان، فقال: "هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة".
أيها المسلمون: تكاثرت النصوص المثبتة للوزن يوم القيامة، ولا يأتي الزمن لعرضها كلها، فمن ذلك قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء: 47].
وقال: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) [القارعة: 6].
وقال: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105].
وأما نصوص السنة فدونكها؛ أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن".
أخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح، يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
معاشر المسلمين: في ذلك الموقف يوزن كل شيء له علاقة بالعبد، فالموزون يوم القيامة هو العمل، والصحف، والعبد نفسه.
مما يدل على صحة ذلك، ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان".
وما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
فهذا وزن الأعمال، وهو بمعنى وزن ثوابها.
ومما يدل على وزن الصحائف؛ ما أخرجه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلًا كل سجل مد البصر، ثم يقول الله -تبارك وتعالى-: هل تنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، ثم يقول: ألك عذر؟ ألك حسنة ؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة".
ومما يدل على أن العبد نفسه يوزن، ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105].
وما أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أنه كان يجني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله: "مم تضحكون؟" قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: "والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد".
قال ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث: "وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحًا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها -يعني الصحف-، وتارة يوزن فاعلها".
وقال ابن أبي العز: "فثبت وزن الأعمال، والعامل، وصحائف الأعمال".
معاشر المسلمين: لنعلم جميعًا أن العبرة ليست بكثرة الأعمال، ولكن بحسنها: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومنها أن ثقل ميزانه هناك بحسب تحمل ثقل عمل الحق في هذه الدار، لا بحسب مجرد كثرة الأعمال، وإنما يثقل الميزان باتباع الحق، والصبر عليه، وبذله إذا سئل، وأخذه إذا بذل".
ألا فلنتق الله، ولنحرص على إحسان العمل، والصبر، والمصابرة، فعما قليل ينتهي الأجل، ويكشف الغطاء: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
اللهم وفقنا لهداك واجعل...
اللهم وفقنا لاتباع السنة...
اللهم أعذنا من نزغات الشياطين، ونعوذ بك ربنا أن يحضرون...
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى...
اللهم انج المستضعفين...
ربنا آتنا في الدنيا...
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين...
سبحان ربك رب...