الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | صالح المغامسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
إنَّ تدارس القرآن، وتدارس السنة من أعظم الطرائق الموصلة إلى بيان والوصول إلى العلم الشرعي البين، وفي جمعتنا هذه سنقف مع سورة مباركة من سور القرآن الكريم، وسوره كلها مباركة، ألا وهي "سورة الكهف"، نقف على بعض عظتها وجليل معانيها، وقد اتفقت كلمة أهل العلم على أن ما في القرآن من قصص ليس المراد منه أن يشغل الناس بأعاجيب القصص، وإنما المراد منه أن يقف الإنسان على ما فيه من عظات وآيات وعبر حتى يكون المسلم من ربه -جل وعلا- على بينة وعلى نور منه تبارك اسمه وجل ثناؤه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (.. خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى) [الأعلى: 2- 5].
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله بلَّغ عن الله رسالاته، ونصح به في برياته نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه. اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اتبع أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله : فإن تقوى الله -عز وجل- أعظم وصايا وأجل العطايا لا يستكبر عنها مؤمن، ويتقبلها كل مؤمن تقي نقي، هي وصية الله -عز وجل- للسابقين قبلنا، قال ربنا تبارك اسمه وجل ثناؤه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].
ثم اعلموا عباد الله أن الإسلام هو دين الله في الأرض كما هو دين الله -عز وجل- في السماء، قال الله جل ذكره (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) [آل عمران: 19]، وهذا الإسلام العظيم يبتلى بين الحين والآخر بكيد أعدائه وجهل بعض أبنائه..
أبيت اللعن ما أدركت ديني | ولو أدركته لرأيت دينًا |
فكم يعزى إلى الإسلام ذنب | وكل الذنب ذنب المسلمين |
وهذا كله يفرض على الأمة أن تسعى إلى بنيان نفسها عسكريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا حتى تكون قادرة على الأخذ براية هذا الدين العظيم الذي ختم الله به بعثة نبينا -صلى الله عليه وسلم- الرسالات، وأتم به عليه السلام النبوات.
ومن طرائق ذلك قيام الكليات والمؤسسات العلمية التي تعنى بالدراسات الإسلامية، وتتبنى المنهج الشرعي العلمي الواضح البين الذي يجمع بين بيان عظمة الإسلام وبيان سماحته وعلو كعبه؛ إذ لا يقبل الله -عز وجل- غيره (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
ذلكم المنهج القائم على اعتماد النقل والاعتداد، وإعمال العقل والإلمام بمقاصد الشرع المطهر، والدراية بحياة الناس وروح العصر وما يتطلبه نشر الإسلام فيه.
وإن إنشاء مثل هذه الكليات، وأن تفتح بصلاة جمعة، وأن يرعاها من منَّ الله عليهم بالوضع الاجتماعي القائم في الناس الذي لا يجهله أحد؛ كل ذلك من علامات التوفيق ومن قرائن وبراهين الوصول إلى البنيان السامق والحجج البالغة في إنشاء مجتمع رباني يعبد الله -عز وجل- وينشر دينه على علم، قال الله -عز وجل-: (وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران:79].
وعلى هذا فإن تدارس القرآن، وتدارس السنة من أعظم الطرائق الموصلة إلى بيان والوصول إلى العلم الشرعي البين، وفي جمعتنا هذه سنقف مع سورة مباركة من سور القرآن الكريم، وسوره كلها مباركة، ألا وهي "سورة الكهف"، نقف على بعض عظتها وجليل معانيها، وقد اتفقت كلمة أهل العلم على أن ما في القرآن من قصص ليس المراد منه أن يشغل الناس بأعاجيب القصص، وإنما المراد منه أن يقف الإنسان على ما فيه من عظات وآيات وعبر حتى يكون المسلم من ربه -جل وعلا- على بينة وعلى نور منه -تبارك اسمه وجل ثناؤه-.
سورة الكهف سورة مكية، سورة من العتائق الأول، أي من أوائل ما أنزل على نبينا -صلى الله عليه وسلم- افتتحها ربنا -جل وعلا- بحمد ذاته العلية قال ربنا فيها (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف:1].
ولم تبدأ سورة في القرآن بأن حمد الله في أولها ذاته العلية إلا خمس سور، الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر، فهذه السور الخمس افتُتحت بحمد الله -جل وعلا- لذاته العلية.
ثم ذكر الله -عز وجل- فيها نبأ أصحاب الكهف، وأخبر أن نبأهم وإن كان غريبًا لكنه ليس أعجب آيات الله (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) [الكهف:9]، أي ليس خبرًا وقصة أصحاب الكهف والرقيم من أعظم آيات الله -جل وعلا-؛ لأن من كتب الحياة لفتية لم تسلب منهم الحياة، وإنما ناموا رقدة طويلة ليس هذا بأعجب وأعظم من قدرة الله -جل وعلا- على إحياء الموتى يوم القيامة من قبورهم، وقد سُلبت الحياة منهم بالكلية، لكن الله جعل نبأ أصحاب الكهف دليل على قدرته بعد ذلك على إحياء الموتى -تبارك اسمه وجل ثناؤه-.
فتية يكتب الله لهم أن يخرجوا ثم لما أراد الله بهم خيرًا جعل توحيد الله -جل وعلا- في قلوبهم، ولم يعطِ الله -جل وعلا- أحدًا عطية أعظم من إقامة توحيده في قلبه.
ولما كان خليل الله إبراهيم أعظم الموحدين نسب الله -عز وجل- الملة إليه قال ربنا (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ) [الحج: 78]، بل أمر الله نبينا وهو أفضل من إبراهيم أمره أن يتبع إبراهيم (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النحل:123]، لما كان في قلب إبراهيم من إقامة توحيد الله (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة:131].
فإقامة توحيد الله في القلب أعظم المناقب وأجل المنجيات، ولا يعلو على هذه العطية عطية أبداً، فرزق الله أولئك الفتية التوحيد في قلوبهم (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف:14].
ثم استغاثوا بربهم فأغاثهم فاتجهوا إلى كهف وناموا فيه، إنما يريدون الراحة ساعة من نهار فقال العلي الواحد القهار (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) [الكهف:11]، إنك إذا أردت أن توقظ أحدًا من نومه اليوم أحدثت صوتًا أو منعت صوتًا اعتاد عليه، فيستيقظ فضرب الله على آذانهم فبقوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعة.
ولا يعقل أن كهفًا في وادٍ يمكث ثلاثمائة سنة وأكثر، ولا يمر عليه أحد لا من الدواب ولا من بني آدم فحتى يكتب الله لهم البقاء في رقدتهم رزقهم الله -جل وعلا- الهيبة ومن توكل على الله كفاه.
الإنسان -أيها المبارك- لا يكون في حال هو فيها أضعف من أن يكون نائمًا يتسلط عليك من يريد أن يؤذيك، من يريد أن يسرقك حال نومك؛ لأن الإنسان وهو نائم راقد لا يدري عما حوله حتى قلم التكليف يرفع عنه.
فلما كانوا نائمين حفظهم رب العالمين، حفظهم من أن يأتيهم أحدٌ خارج الكهف قال -جل وعلا-: (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)، رزقهم الله الهيبة ناموا وأعينهم مفتوحة، فكل من دخل عليهم رأى هيبتهم إن كان إنسيًّا أو كان جنيًّا أو إن كان وحشًا ضاريًا، فيفر عنهم حتى يبقون على ما هم عليه.
هكذا حفظهم الله من كيد ما هو قادم، ثم حفظهم الله -جل وعلا- من الأرَضَة أن تتسلط عليهم فقال أكرم الأكرمين: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)، فالله -عز وجل- حكم بأن يقلبوا حتى لا تدب إليهم الأرضة، فتؤثر في أجسادهم ولا يقدر على هذا إلا الله، والأمر كما قال نبي الله يعقوب مما خلده الله في كتابه (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 64].
هذا ما يتعلق ببعض نبأ أصحاب الكهف، ذكر الله -عز وجل- في هذه السورة المباركة نبأ موسى والخضر وموسى كليم الله كان لون بشرته يميل إلى السمرة، ولهذا لما وقف بين يدي فرعون وأراه آية العصا أول الأمر، ثم أراه آية اليد، وكان موسى -عليه السلام- كما بينا يميل لون بشرته إلى السمرة فأدخل يده في جيبه، ويد موسى سمراء ثم نزعها فجأة كما قال رب العالمين (وَنَزَعَ يَدَهُ) قال ربنا بعدها (فَإِذَا) وهذه عند أصحاب الصناعة النحوية عند أئمة اللغة إذا الفجائية (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ) [الشعراء:33].
جرت عادة الناس أن من به عاهة من به نقص لا يحبون أن ينظروا إلى العضو الناقص فيه، ليس هذا ممن تفرح الأعين أن تراه؛ لأنهم يتمنون لأخيهم العافية، ولا يحبون أن يبتلوا، لكن موسى لما نزع يده كانت يده ذات نور وبهاء فتعلق أعين الناظرين، قال الله (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ).
هذا كليم الله وقف خطيبًا في بني إسرائيل، فلما وجلت القلوب وذرفت العيون من خطبته تبعه رجل من بني إسرائيل قال: "يا نبي الله! أفي الأرض أحد أعلم منك؟! فنسي موسى أن ينسب العلم إلى الله فقال: لا، فأوحى الله -عز وجل- أن لي عبدًا هو أعلم منك، قال أي: رب وأنى لي به، كيف أصل إليه؟ فأوحى الله -عز وجل- إليه أن يأخذ حوتًا في مكتل، وليس الحوت هذا طعامًا لموسى، ولكن فقدَه دليل على وجود ذلك الرجل.
فأخذ موسى حوتا في مكتل، وأخذ معه فتاه على الأرجح أنه يوشع بن نون، حتى بلغ مجمع البحرين التقى بالخضر بعد أن أضاع الطريق قال الله -عز وجل- في خبر هذا النبي العظيم قال: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، القائل الآن فتى موسى قال موسى: (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) قال ربنا: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [الكهف: 64- 65]، هذا نبي الله الأنبياء من أعظم سننهم عدم التكلف رجع من نفس الطريق الذي ذهب منه، ولم يحاول أن يبحث عن طريق آخر؛ لأن ذلك أغلب على أنه سيصل.
فقال ربنا عنهم (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا) نسبه الله نسبة أضافه تشريف إليه، (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف:65]، قدم الله الرحمة على العلم إن من أراد أن يعلم أبناءنا من أراد أن يعلم بناتنا من أعطي مسئولية من حاكم أو أمير أو مسئول أو مدير أو قائد جيش، أو غير ذلك أول الأمر الرحمة، ثم يقوِّم ما يريد تقويمه، ثم يعلم من يريد تعليمه، ثم يؤدب من يريد تأديبه، لكن لابد أن تكون الرحمة قائمة في قلوبنا لمن ولاه الله -عز وجل- إياهم.
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف:65]، تبعه موسى على شروط بينهما، وقع فيها من غرائب الأحداث ما وقع نقف على بعض الأحداث منها.
لما ركب السفينة أصحاب السفينة عرفوا الخضر ولم يعرفوا موسى؛ لأنه لم يكن من تلك الديار، فأركبوهما من غير أجر من غير ثمن، فموسى -عليه السلام- والخضر ركبا في السفينة من جملة الناس، وإذا بعصفور يأتي فينقر وهو واقف على طرف السفينة ينقر في البحر نقرتين، ثم ولى، فقال الخضر لموسى: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر".
وليس المقصود أن علم الله ينقص، ولكنَّ المقصود بيان نسبة علم موسى وعلم الخضر مجتمعين إلى علم الله -جل وعلا-، فعلم موسى وعلم الخضر مجتمعين نسبته بالنسبة لعلم الله كما وقع في منقار هذا العصور في الماء بالنسبة لماء البحر كله، فسبحان من وسع علمه كل شيء، وعليه رزق كل حي، وبين يديه يحشر العباد، وإليه يرجع الحكم والفصل لا رب غيره ولا إله سواه.
مما وقَع أن الخضر عمد إلى لوح في السفينة فنزعه، فغضب موسى وهو نبي قيادي لا يقبل أن يرى المنكر ويسكت قال (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)، ولكن بيَّن له الخضر بعد ذلك لماذا خرقها فقال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [الكهف:79]، والمعنى تبقى لهم سفينتهم وهي معيبة خير من أن يفقدوا السفينة بالكلية، فالدين جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يتأتى لكل أحد أن ينال كل ما يريد.
لكن ينبغي أن يُعلم أن قوام حياة الفرد يقوم على الورع وقيام حياة الدول والأمم إنما يقوم على المصالح، فلا يمكن أن نطالب من يتولى القيادة العامة كما نطالب به من يتولى سياسة نفسه، وقياد ولده، فالأصل في هذا الورع، لكن الأمر العام يغلب فيه جانب درء المفاسد وجلب المصالح مع تقوى الله -عز وجل- وإقامة شرعه ودينه.
والمراد بعض ما وقع لموسى -عليه السلام- مع الخضر، ثم دخل قرية، وكان أهلها من اللؤم بمكان -عافانا الله وإياكم- فأبوا أن يضيفوهما، فعمد الخضر إلى جدار كأنه يريد أن يسقط فأقامه، فأنكر موسى ذلك الصنيع فقال (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)! هؤلاء لا يستحقون أن تُحسِن إليهم ونحن بحاجة إلى مال نقتات منه (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78].
قال له عن هذا الجدار: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ) أي تحت الجدار (كَنزٌ لَّهُمَا)، ولكنهما لا يعلمان عنه (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)، وهذا فحوى الخطاب أن الله –تعالى- بصالح الآباء يحفظ الأبناء، فإذا الله -عز وجل- بصلاح الأب يحفظ الابن، فكيف بحفظ الله -عز وجل- للأب الصالح نفسه، هذا من باب أولى وأحرى.
وقد قالوا: "إن محمد بن كعب القرظي أحد أئمة التفسير أُعطي مالاً، أُعطي هدية من أحد الولاة فقبلها، لكنه لما أخذها أنفقها، قيل له: هلا أبقيتها لولدك؟ قال: أجعل المال هذا زخرًا لي عند الله، وأجعل الله زخرًا لولدي"، وهذا من الفقه في الدين، والعلم بالطريقة المثلى التي يحفظ الله -عز وجل- بها العباد، وينجي الله تعالى خلقه.
مما جاء في خبر سورة الكهف قول الله -عز وجل- (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) [الكهف:83].
ونبأ ذي القرنين جاء به بعد نبأ موسى؛ لأن كلاهما كان في سفر، إلا أن موسى كان يطلب العلم وذا القرنين كان يريد أن يبسط سلطان الله في الأرض، فاجتمع في نبل الغاية في شرف المقصد، ومما وقع لذي القرنين أن الله -عز وجل- علمه كيف يساس الناس وإنما يُساس الناس بأن يُثاب المحسن ويُعاقب المسيء، قال الله -عز وجل- له (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا) ذكر الله -عز وجل- له (إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) [الكهف: 86- 87].
ولما ذكر الصالحين قال: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) [الكهف:88]، ولا يمكن أن يقام أمر الناس إلا بأن يثاب المحسن وأن يعاقب المسيء وإلا لا يمكن أن يقام مقام لملك أو حكم أو عمل كائنًا من كان.
الله -عز وجل- ذكر ذاته العالية فقال: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) على هذا يُساس الناس، وبه تُقام حياة الأمم.
ومما وقع لذي القرنين أنه مر على قوم قد بلغوا من قلة الفهم ما بلغوا (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف:94]، فقبل لكنه لم يقبل عطيتهم لضعفهم (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، فبنى ذلكم الردم على قوم يأجوج ومأجوج، ويأجوج ومأجوج من نسل يافت بن نوح -عليه السلام-، والله أعلم بمكانهم.
ومهما قال الناس: إن طرائق العلم الحديثة لم تبقِ شيئًا من الأرض إلا اطلعت عليه، هذا محال، أخبر الله في قرآنه وأخبر نبينا -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه الصحيحة المرفوعة إليه إجماعًا أنهم موجودون، وقطعًا لن يستدل عليهم أحدٌ؛ لأنه لو استدل عليهم أحد لخرجوا ولو خرجوا لخالف ذلك سُنة رسول الله فيهم، ولا أحد يقدر أن يخالف سنة الله، لكن الإنسان يرى هذا في نفسه كم من رجل يمكث دهرًا يبحث عن نظارته وهي على عينيه! وكم من يبحث عن قلمه وهو في جيبه! وكم من يبحث عن نعله وهو يلبسه! فإذا وقع هذا لك في نفسك فهو يقع للأمم.
فالله -عز وجل- منع الناس أن يصلوا إليهم بقدرته حتى يأتي اليوم الذي يخرجون فيه قال الله في سورة الأنبياء (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ) [الأنبياء:96]، ربنا قال بعدها (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) أي لا يكون خروجهم إلا قرب قيام الساعة، ويخرجون بعد نزول المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-.
فيفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور لا لخوف، لكن العاقل لا يقابل من يغلب على الظن أنه لا يقدر عليه؛ فإن وحي السماء يأتيه "لقد أخرجت عبادًا ليس لأحد بهم قدرة"، فلا يقابلهم عيسى والمؤمنون الذين معه، وإنما يخرجون إلى جبل الطور، ثم يدعو عليهم فيصيبهم النغف في رقابهم فيموتون جميعًا موتة رجل واحد، ثم يدعو عيسى فينزل الله مطرًا بعد أن يبعث الله طيرًا تحملهم إلى البحر، فتبقى الأرض نتنة من زخمهم وريحهم، فينزل الله مطرًا ليس لأهل زرع ولا ضرع، وإنما لتغسل الأرض من نتنهم، ثم ينزل عيسى والمؤمنون الذين معه فيأمر الله الأرض أن تخرج بركتها.
ولكن.. لماذا تخرج بركتها؟ أنت الآن لو ذهبت في غدوة مع أقرانك، مع أهلك، فأنت في أول النهار تشحّ عليهم بالماء والطعام؛ خوفًا من أن يقصر بك الطعام والماء في آخر نهارك، لكن إذا جاء آخر النهار وعزمتم على ترك المكان، وآذنتم بالرحيل، تعطي من شاء ما يشاء؛ لأنه لا بقاء لكم، فلا حاجة للماء، وبعض الماء يُسكَب.
فكذلك الأرض إذا دنت الساعة تخرج بركتها؛ لأنه لن يكون هناك أناس بعد ذلك يعمرونها، فتحتاج الأرض أن تبقي على شيء لهم.
ثم يأذن الله -عز وجل- بمرور الأيام والليالي حتى لا يبقى على الأرض أحد -عياذًا بالله- يعرف الله، هؤلاء شرار الأرض -لا بلغنا الله وإياكم ذلك اليوم- عليهم يأمر الله ملكًا يقال له إسرافيل أن ينفخ في الصور، فيقوم الأشهاد ويحشر العباد بين يدي ربهم.
بلغنا الله وإياكم عفوه ورضاه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى.
ختم الله سورة الكهف بقوله -جل وعلا- (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف:105]، الميزان حق، ويكون هذا بعد أن يحشر العباد، والميزان له كفتان كفة توضع فيها الحسنات، وكفة توضع فيها السيئات.
واختلف العلماء ما الذي يوزن؟ فقال بعض العلماء الذي يوزن العبد نفسه صاحب العمل واحتجوا بهذه الآية (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)، وقال آخرون إنما الذي يوزن العمل، ودليلهم حديث البطاقة، وقال آخرون: إنما الذي يوزن صحائف الأعمال لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والحمد لله تملأ الميزان".
والأرجح -والعلم عند الله- أنه يُوزَن صاحب العمل، والعمل، وصحائف عمله؛ جمعًا بين الأحاديث، وكما قلنا العلم عند الله، لكن دلت السنة على أن أعظم ما ترجح به كفة العبد يوم القيامة -رجلاً كان أو امرأة- أمران:
الأمر الأول: حُسن خُلقه، قال عليه الصلاة والسلام: "ليس شيء في الميزان أثقل من حُسن الخلق"، المؤمن يألف ويؤلف، يحب أهله وإخوته وإخوانه ومن معه يحب لهم الخير، يقيل العثرة، يقبل العذر، يغض الطرف، يحسن إلى الناس، يأمن معه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فهذا حُسن خُلق عظيم، ثقيل في الميزان.
والأمر الثاني أن يكون قد أقام التوحيد حقًّا في قلبه، قال عليه الصلاة والسلام: "يخلص الله رجلاً من أمتي يوم القيامة ينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، فيقول الله -عز وجل- له: أتنكر مما ترى شيئًا؟ قال: لا يا رب"، يعني يعترف بأنه صنع كل ما في هذه السجلات، "أتنكر مما ترى شيئًا؟ قال: لا يا رب، فيقول الله -عز وجل- له: إن لك عندنا بطاقة فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، فيقول هذا العبد: أي رب! وما تجدي هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فتوضع السجلات في كفة والبطاقات في كفة"، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فرجحت البطاقة، وطاشت السجلات، ولا يثقل مع اسم الله شيء".
إن العبد يُرزَق الخير إذا عرف عظمة الله الواحد القهار، الله -عز وجل- خالق وما سواه مخلوق، والله -عز وجل- رازق وما سواه مرزوق، والله -عز وجل- حي حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، وغيره حياته سبقها عدم ويلحقها زوال (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26- 27].
وجهه –تعالى- أعظم الوجوه (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:103]، وسعت رحمته كل شيء.
جاء في الأثر عن رجل يقال له حاتم كان يعيش في خراسان، وأراد أن يحج، فكلما عزم على الحج خاف على بناته، فقالت له ابنته الكبرى: "يا أبتِ حُجَّ وكِلْ أمرَنا إلى الله"، فأخذ بقولها وغادرهم وذهب إلى مكة.
ما أمسوا إلا والصبية يتضاغون يصيحون عند قدم أختهم التي أشارت على أبيها أن يذهب، فبينما هم على هذه الحال، وبيتهم في أطراف البلدة دخل أمير أصابه العطش في موكبه على خيله، فحشم الأمير سألوهم: هل من ماء؟ والماء يوجد في بيوت الأغنياء وبيوت الفقراء، فأعطوهم ماء فدخل الأمير ليشرب وهو يشرب جال بطرفه في البيت، فمن أساس البيت عرف فقرهم، فلما فرغ وحمد الله، أخرج لهم صرة فيها دنانير، لو مكث أبوهم دهرًا ما جمعها، فأعطاهم صرة فيها دنانير ومضى. فقالت الفتاة الكبرى العارفة بربها: "هذا مخلوق نظر إلينا فرحمنا، فكيف بنظر أرحم الراحمين إلينا".
إنه لا يهلك على الله إلا هالك، والله يقول عن ذاته العلية (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156]، وقد جاء في الحديث الشفاعة أنه يشفع النبيون قبل ذلك يأتي المؤمنون إلى ربهم يسألونه أن يشفعوا فيمن دخل النار من أهل التوحيد، والله -عز وجل- حرَّم على النار أن تأكل على المسلم أعضاء السجود، فيأتون هؤلاء، فيُخرجون من كتب الله لهم أن يخرجوا.
ثم يقول هؤلاء: "ربنا! لم يبقَ فيها ممن أمرتنا أحد، فيقول الله -عز وجل-: أخرجوا من في قلبه مثقال دينار من إيمان، فيعودون وقد حرم الله صورهم على النار، أي: أن النار لا تأكل أصحاب الشفاعة، فيخرجون مَن في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم يقولون: أي رب لم يبقَ فيها أحد ممن أمرتنا، فيقول الله: أخرجوا من كان في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان، فيخرجون فلا يبقى في النار إلا أقوام أقل من ذلك، فيقول رب العزة: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فيضع -جل وعلا- يده في النار فيخرج أقوامًا قد امتُحشوا صاروا حممًا، ثم يلقيهم في نهر يقال له نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في السيل، ثم يأمر لهم بالجنة وتوضع على رقابهم الخواتيم ويقال هؤلاء عتقاء الرحمان، أدخلهم الله الجنة من غير عمل عملوه ولا خير قدموه".
هذه بعض ما أخبر الله -عز وجل- عنه من رحمته، اللهم إنا نسألك من مقامنا هذا أن تشملنا برحمتك..