الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
علمتنا الأحداث: أن الأفراد يذهبون، والدول تسقط، وأن الدين يبقى، والمبادئ لا تموت. من كان يظن أن زعيم الأمس الذي يهتف باسمه، ويلهج بمدحه، أنه اليوم يصبح طريدًا مسلوب البلد والمال والمنصب. وحين يذهب فرد، فلا يعني هذا أن تذهب أمة, فكم من دولة حكمت قرونًا، وأفرادٍ حكموا عقودًا، ثم...
الخطبة الأولى:
معشر الكرام: أحداث متسارعة تمر بها أمة الإسلام هذه الأيام في أنحاء عديدة من دولها, مظاهراتٌ وثورات, صدامات واعتصامات, وأبرز ما في الأحداث سقوط أنظمة ظلت عقوداً تسوس الناس وتحكمهم, ثورات جياع وغير جياع, تغيراتٌ متسارعة, وأحداث متعاقبة, لا أحد يستطيع أن يتوقع ما سيحصل, والأمر كله يدبر في السماء.
وليس بنا اليوم تفصيل وسرد للأحداث، وتحليل للأخبار, فذاك مما خاض الناس فيه، فأكثروا واستمعوا ورأوا حتى ملّوا, ولكننا نقول: بأن أحداث اليوم ينبغي أن تكون منا على بال, ولا ينبغي أن تذهب إلا وقد أفدنا منها, ففيها عبرة لمن تأمل واعتبر, والعاقل من يعتبر بدروس الزمان, ومن يستفيد من أحداث الأمس واليوم لتصلح له حياة الغد, فدعونا اليوم نقف مع بعض مما علمتنا إياه الأحداث.
لقد علمتنا الأحداث -أيها الكرام- أن الدنيا لا تدوم على حال, ومن رام دوام الحال فقد تطلب المحال, وأن الدهر دول والأيام تتقلب, فرب عزيزٍ منيع غني رفيع أمسى كذلك، وأصبح ذليلاً فقيراً وضيعاً: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساءُ ويوم نسر: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251].
فالله يدفع بعض الناس ببعض, لتسير الحياة، وتتحقق السنن الربانية, ولولا سنة المدافعة، وسنة الخلفية، لظلت الأمور على ما هي عليه, ولولا سنة المدافعة لما زالت دولة، ولا تغير حاكم, ولما زالت ظلامة, والله بحكمته يعطي الملك لهذا، وينزعه من هذا, ليعلم الناس أنه لا مُلك كامل ولا مَلِك حقٌ، ولا مالك ملكاً مطلقاً إلا الله, فهو مالك الدنيا ومالك الآخرة, وغيره يملكون يوماً، ويُملكون دهراً: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26]، فتبارك الله مالك يوم الدين.
وعلمتنا الأحداث -عباد الله-: أن الأفراد يذهبون، والدول تسقط، وأن الدين يبقى، والمبادئ لا تموت, من كان يظن أن زعيم الأمس الذي يهتف باسمه، ويلهج بمدحه، أنه اليوم يصبح طريداً مسلوب البلد والمال والمنصب.
وحين يذهب فرد فلا يعني هذا أن تذهب أمة, فكم من دولة حكمت قروناً، وأفرادٍ حكموا عقوداً، ثم مضوا وانتهوا، وبقي الدين لن يضره أذى مؤذٍ، أو تطاول معتدٍ، ولن يضيره ذهاب ناصرٍ، ورحيل خادم.
وعلمتنا الأحداث: أن التاريخ يسجل ويدون، وإن لم ينطق اليوم, وأن المرء حين يذهب فلن يُذكر عنه في الدنيا إلا ما قدمه من أمرٍ لصلاح الدين والدنيا, أو عكس ذلك, وإطباق الناس على الثناء إنسان أو على ذمه لن يكون بعيداً عن الحقيقة، فالناس شهداء الله في الأرض.
عباد الله: ولقد علمتنا الأحداث أن من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس, وتلك أحرف قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتجلت في هذه الأحداث, فكم من امرئ سعى بكل ما أوتي ليرضي عباد الله, والشأن كل الشأن في أن نرضي الله وإن سخط الخلق, ولن يخاف المرء عيلة ولا غيلة إذا كان الله معه.
وحين نستجلب رضا الشرق والغرب, ونسخط الله، فالله بالمرصاد، وسيسخط ويسخط الخلق عنك, والتاريخ والأحداث على ذلك شاهدة.
وعلمتنا الأحداث: أن اليهود والنصارى ليس لهم صديق, وأنهم لن يرضوا عن المرء مهما قدّم حتى يكون من أهل ملتهم, ومن يظن أن اليهود والنصارى يرضيهم عنه بعض التنازل, أو التضييق على الدين فهو مخطئ, فالجميع يعرف ما فعله زعيم تونس من حرب على الدين وأهله، وعلى كل معالمه, حتى غدا الحجاب جريمة، والصلاة تهمة، وقُتل العلماء، وسجن الصالحون، وضيق على المؤمنين, وحين احتاج لعدوه، وطلب وده، خذله وقلاه، وفي القرآن: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120]، فهل نعي الأمر -أيها الكرام-؟
وعلمتنا الأحداث: أن الأمن نعمة لا يعرف قدرها حتى تفقد, وأن الديار التي يفقد فيها الأمن تصبح كالسماء إذا فقدت نجومها، وكالأرض إذا زالت جبالها الراسيات, وأنه لا يمكن أن تستقيم معيشة، وتطيب حياة، ويصلح وضع إلا بوجود الأمن, ولا أمن إلا بإيمان, ولا إيمان إلا باستقامة على الدين، وتجنب للظلم والعدوان: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
وعلمتنا الأحداث -أيها الكرام-: أن الشباب قوة وطاقة ينبغي أن يعتنى بها لتوجه للخير, فالشباب هم قادة الغد، وأمل المستقبل, وهي حقبة من العمر قابلة؛ لئن تكون وقوداً للشر والإفساد، أو جذوةً في طريق النور، وإصلاح البلاد والعباد.
وإن الأمم يوم أن لا تستثمر طاقاتِ شبابها، فهي عرضة للاشتعال والانفجار، فكم من الحضارات قامت على أكتاف الشباب؟ وكم من الأمجاد رفعت؟ وفي ذات الوقت فكم من الاندفاعات من الشباب حصلت؟ وبه تعلم أن قوة الشباب هي أحوج ما تكون إلى حكمة الشيوخ، لتهذب المسيرة، وتصحح الوجهة.
وعلمتنا الأحداث أيضاً: أن ما ينعق به الليراليون، وما ينادي له العلمانيون، من أن إحلال الحريات، وإبعاد الدين عن حياة الناس، لينعم الناس بالعيش الرغيد -كما يقولون-: أن ذلك كلام عارٍ من الصحة, فلم يكن في البلاد الإسلامية أشد علمنة، وإحلالاً لنظم الغرب، وإبعاداً لتعاليم الدين مما كان عليه النظام في تونس, حتى كانت مضرب مثل الليبرالين, وكانت أمنيتهم أن تكون بلادنا كما الحال هناك, وهاهي الليبرالية تسقط أمام الملأ, وينبذ الناس تلك السياسة, وبرغم الحرب لمعالم الإسلام طوال عقود يعود الناس اليوم للصلاة والأذان، وتعود عدد من النساء للحجاب, ولن تصلح دول الإسلام إلا بالإسلام، فبه عزت، وبالتخلي عنه ستظل مطأطأة رأسها، ذليلة لعدوها.
ولقد علمتنا الأحداث -أيها الفضلاء- معنى قول الله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 14]، فكم تجبر بعض الناس على الخلق؟ كم أذلوهم ومن حقوقهم منعوهم؟ كم حاربوا الدين وظنوا أنهم خالدين, نسوا أن الله يرى، وأنه بالمرصاد، وأن من عادى لله ولياً فقد آذن ربه بالحرب، فمن يقف لحرب الله؟
علمتنا الأحداث: أن ليل الظلم لا بد أن يزول, وأن دعوات المظلوم يسمعها السميع, وأن الظلم عقوبته قد ترى في الدنيا، وقد تستبقى في الآخرة, وإذا كان الظلم شديد فأشد ما يكون منه ظلم الناس في دينهم.
ولقد علمتنا الأحداث: أن تغير واقع المسلمين ليس بالبعيد, فكم تسمع من كلمات التثبيط عند البعض حين يسمع عن من يتكلم عن انتصار الدين, وتراه يستبعد هذا بحجة صعوبة التغيير, لكن المسلم يقينه أن الله إذا أراد أمراً قضاه.
علمتنا الأحداث: أن من ركن إلى غير ربه خُذل, وأن من خذل مسلماً خذله الله في الدنيا والآخرة، كم خُذل أهل غزة يوم الحصار, وتدور الدوائر, ويُخذل اليوم من خذل إخوانه بالأمس.
عباد الله: ولقد علمتنا الأحداث: أن المرء قد يذل بسبب ذنب، وتحل به عقوبته بعد حين, ورضي الله عن أبي الدرداء، فقد روى عنه جبير بن نفير، وقال: "لما فُتِحَتْ قبرص فُرِّقَ بين أهلِها، فبكَى بعضُهم إلى بعضٍ، ورأيتُ أبا الدرداء جالِساً وحدَه يبكي، فقلتُ: يا أبا الدرداء ما يُبْكيك في يومٍ أعَزَّ الله فيه الإسلامَ وأهلَه؟ قال: وَيْحَك يا جُبَيْر، ما أهْوَنَ الخلقَ على الله إذا هم ترَكُوا أمرَه! بَيْنَا هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهِرةٌ لهم الملك؛ تركُوا أمرَ الله؛ فصاروا إلى ما تَرَى!".
والأحداث علمتنا: أن الفتنة قد تكون نائمة، فإذا اشتعلت فإن إطفاءها ليس باليسير؛ لأنها تخرج من سيطرة العقلاء.
وعلمتنا الأحداث: أن الناس أحوج ما يكونون إلى ولي أمرٍ يسوسهم، ويقيم مصالحهم، ويحفظ الأمن فيهم, وأن فقدان الولي يفتح الباب لكل صاحب شرّ, وبه تعرف سبب تأكيد أهل السنة على طاعة الولي المسلم، وعدم الخروج عليه.
وبعد: فتلك أمور مما ينبغي أن نستفيدها من الأحداث.
أدام الله الأمن في بلاد المسلمين, وأصلح أحوالهم، ويسر أمورهم، ودبّرهم على ما فيه الخير في دينهم ودنياهم.
الخطبة الثانية:
فإن الأمم لا تزال منيعة قوية متماسكة، والدولَ تظل عزيزة حتى يحصل النقص والخلل منها لا من أعدائها, فالأمم إذا حصل فيها الاستبداد, وسوء اختيار الأعوان, وحلّ الظلم العام والخاص, وفسد الاقتصاد, وضعفت الرقابة, ولم يميز الناس العدو من الصديق, وتخلى الناس عن الدين، فإن الخلاف والانشقاق، والسقوط والزوال، هو الأمر المتوقع, والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وإن الأمر الذي لا بد أن يكون بالحسبان هو أن ذهاب طاغية لا يلزم منه الخلاص من البلاء والفتنة، إن لم يرجع الناس إلى دين الله، فقد يخلفه مثله أو شرٌّ منه، فما أحوج الناس في كل مكان إلى توبةٍ صادقة، وعودة إلى الله خالصة، ليرفع الله البلاء، ويكشف الغمة، وفي القرآن: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96]، ثم قال: (وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
والضمانة من الهلاك هي وجود المصلحين المؤثرين في الأمة: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
اللهم أصلح أحوال المسلمين.