الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الزهد |
لك أن تتصور فرحه, وهو يخلف النار, فيلتفت وإذا به يرى النار يحطم بعضها بعضاً, تلظى وتستعر, وتزفر وتشهق, أقوام فيها يتساقطون, وفئامٌ فيها يعذبون, لسانها ينادي العصاة, ولهبها يطول البعيد, وحرّها يحرق القريب, هو تجاوز كل هذا, تجاوز الصراط, الذي...
الخطبة الأولى:
كثيرة هي المواضيع التي تستحق الحديث, هموم دنيا وقضايا دين, مستجدات ونوازل, وسير وتراجم, اعتقاد وإيمان, وأخلاق وآداب, كل هذا مهم, لكني اليوم لن أحدثكم عن كل هذا, لن أحدثكم عن الدنيا وما فيها, ولن أحدثكم عن الموت ولا القبر وما فيه, بل ولن أحدثكم كذلك عن البعث ولا الحساب, ولا الميزان ولا الصراط, لن أحدثكم عن كل هذه الأمور برغم أنها تستحق الحديث, وإنما اليوم سأحدثكم عن ذلكم الرجل, الذي فاز فوزاً عظيماً, وربح ربحاً مبيناً, أتدرون من هو؟
إنه من خلف وراءه الأهوال, وتجاوز الأخطار, فليس من أمامه ما يهمه أو يقلقه.
أتدرون من هو؟
إنه ذلكم الإنسان الذي حطت قدمه على البقعة التي تكون بعد النار.
إنه من مرّ الصراط وجاوزه, قالو مرةُ لرجل من الصالحين: "مالنا نراك لا تبتسم؟ فقال: كيف أبتسم وأمامي الصراط".
ولسان حاله إذا جاوزت الصراط فحُقَّ لي التبسم والفرح, وحقاً فبذلك فليفرح المؤمنون.
أرعني سمعك -يا مبارك- ودعني أحدثك عن ذلك الرجل, ماذا سيمر به؟ وأذكر لك معالم, نؤمل من ربنا أننا سنمر بها وسنعايشها, وهو سبحانه ذو الكرم والإحسان.
تمر بالمرء أسباب كثيرة تفرحه, ولكن الفرح ناقص مادام ليس بدائم, بمر به صور من الفوز, لكنه فوز قاصر.
أما الفوز الحق, فهو فوز من زحزح عن النار وأدخل الجنة, كما قال ربنا -سبحانه-, لك أن تتصور فرحه, وهو يخلف النار, فيلتفت وإذا به يرى النار يحطم بعضها بعضاً, تلظى وتستعر, وتزفر وتشهق, أقوام فيها يتساقطون, وفئامٌ فيها يعذبون, لسانها ينادي العصاة, ولهبها يطول البعيد, وحرّها يحرق القريب, هو تجاوز كل هذا, تجاوز الصراط, الذي كم ستزل به من قدم, ولم يكن من أمامه إلا الجنة, والله إنه لشعورٌ لا يدانى وموقف من أروع المواقف للمسلم.
فإذا تلفت ومن حوله المؤمنون, جمعهم الله في قنطرة, كي تصفى القلوب قبل الجنة, قال صلى الله عليه وسلم: "يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ" [أخرجه البخاري].
في هذه القنطرة يقف الله المؤمنين كي تتصافى النفوس, وتزول كل ضغينة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47].
بعد ذلك يسير القوم وهم متجهون للجنة, فيهم الأنبياء والصالحون والشهداء, ويتقدمهم خاتم الرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-, وأملنا بربنا أننا حينها مع القوم, تتسابق خطاهم, وتتسارع أقدامهم, فما أروعه من مشهد إذا قربوا من الجنة, وما أهيبها من حالة إذا لاح لهم بابها, أترى المرء حينها يسرع أم يمشي؟ وكيف يحتمل التأخر وهو يرى أبواب الجنةِ أمامه, لا تلوموه فهل لنا من طِلبة أعظم من الجنة؟ وهل من بُغية أشرفَ منها؟
ولكن القوم إذا وصلوا الباب وجدوه موصداً, فيتقدم محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الباب ليطرقه فبالله ما هيئة ذلك الباب؟ كيف صفته؟ فيأخذ النبي بحلقته, فيطرقه والأسماع من ورائه مطرقة, ينتظرون ماذا سيقال؟ ومن سيفتح؟ قال صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرتُ لا أفتحُ لأحدٍ قبلَك" [أخرجه مسلم].
فتفتح الأبواب, وتشرع المصاريع, وأي أبوابٍ هذه, قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى".
وقال عتبة بن غزوان -رضي الله عنه-: "لقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام" [أخرجه مسلم].
فإذا فتح الباب لاحت الجنة للناظرين, فرأوا ما فيها من خير ونعيم, واستقبلتهم الملائكة بالبشر والسلام, والتحية والإكرام: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73]، صوت حسن، وخطاب لطيف، ورب رحيم.
فتدخل الجموع وهم متماسكون, كلٌ يريد أن يدخل, والأبواب عظيمة تحتمل, قال صلى الله عليه وسلم: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا -أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ- مُتَمَاسِكُونَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ" [متفق عليه].
هناك وعند الأبواب يعرف أصحاب الصيام فضل عملهم إذ تعبوا في الهواجر, فلهم بابٌ بهم خاص, لا يزاحمون فيه, قال صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد" [متفق عليه].
فتدخل الجموع, وتتلقاهم الولدان, كالؤلؤ والمرجان, وصفهم الرحمن بأروع بيان: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان: 19 - 20].
ويتجه كل امرئ لمنزله لا يضل, وهل رأيت أحداً يتوه عن مسكنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفس محمدٍ بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا" [أخرجه البخاري].
حياة بلا نوم, نعيم بلا بؤس, خلود بلا موت, شبابٌ بلا هرم, صحة بلا سقم, ومآكل متعددة, وفواكه نضيجة, وأنهار بمشارب متنوعة, قصور بلبِنٍ من ذهب ولبن من فضة, طينها مسك أذفر, وحصبها لؤلؤٌ وياقوت وجوهر, وتربتها الزعفران: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46].
هناك سترى القصر المشيد، والنهر المطرد، والزوجة الحسناء الجميلة.
هل أحدثكم عن خيام الجنة التي وصفها المصطفى -عليه السلام- بأنها من لؤلؤة مجوفة، طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها في كل زاوية أهلون لا يرى هؤلاء هؤلاء؟
هل أحدثكم عن أشجار الجنة التي يسير الراكب ذا الجواد السريع المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها؟
هل أحدثكم عمن عاش في دنياه أبلغ البؤس وبغمسة واحدة في الجنة ينسى كل غمّه وبؤسه؟
هل أحدثكم عن الحور الحسان المبرأة من الأكدار, اللاتي جعل الله فيهن من الجمال ما لا يستطيع أن يصفه واصف؟
بل هل أحدثكم عن رؤية وجه الله -سبحانه-, حين يكشف الحجاب, وسماع حديثه حين يقول لعباده: أين عبادي الذي أطاعوني بالغيب ولم يروني أشهدكم أني قد غفرت لكم ورضيت عنكم؟
هناك سترى كل هذا, هناك ستجالس أصحابك على الأرائك والسرر، وستتحدثون عن بعض ذكريات الدنيا, ستقولون: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور: 26- 28].
سيقول بعضكم: (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات: 51 - 53] فيقال له ولمن معه: (قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) [الصافات: 54].
أتريدون أن تطلعوا على النار, فيطلع فيرى صاحبه في وسط الجحيم, فيخاطبه قائلاً: (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات: 56 - 57]، ثم يقول لصحبه في الجنة: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات: 58- 59]، حقاً إن ذلكم لهو الفوز العظيم, ولمثل ذلك اليوم فليعمل العاملون.
هناك في الجنة تفاوت, فلا سواء بين من سكن الفردوس, ومن سكن أدنى المنازل, فربض الجنة ليس كأعلاها, وليس من نال الأعلى كمن نال الأدنى, وفي كل الجنة خير: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء: 21]، قال المولى سبحانه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]، ثم قال من بعد ذلك: (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) [الرحمن: 62]، وكم بين الجنتين من تباين في النعيم؟ قال عنه صلى الله عليه وسلم: "جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما" [متفق عليه].
لا يستوي المقربون مع أصحاب اليمين, لا يستوي الشهداء والصالحون والأنبياء مع غيرهم, كله جنة, ولكن شتان بين منزلة ومنزلة, في الجنة منازل يراها أهل الجنة كما نرى نحن الآن النجمة الغابرة في الأفق, رَفعتهم أعمالهم بفضل ربهم, جدّوا وهجروا الراحة, وتصبروا عن المعاصي وصبروا على الطاعات, فظفروا برضى الله وجنة عرضها الأرض والسماوات: "إن أَهلَ الجنة لَيَتَرَاءون أَهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدرى العابر من الأُفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسى بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلينَ" [متفق عليه].
فمن صاحب الهمة العلية الذي يعمل لمثل تلك المنازل؟
إنهم ليسوا بأنبياء, ولكنهم يجاورون الأنبياء, فما أعظمه من جوار, وما أعلاها من همم, عَرَفتْ قدر الدنيا فما بها اغترت, وقدمت لحياتها وعملت ولربها أرضت, فذلكم هو الفوز الحق والربح في زمن الخسران.
أَجِدُ الحديثَ هنا لا بد أن يقف, وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
معشر المسلمين: ماذا تظنون من يحدّث عن الجنة ذاكرٌ لكم؟ ماذا يجلي من النعيم؟ وماذا يذكر؟ ماذا يبرز؟ وماذا يذر؟ وأنى له أن يحيط بالخُبر؟ وفي الخبر: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
ويكفي ما في القرآن من آي ترغب, وما في السنة من حديث يصف, لو حين القلوب ووعت النفوس, لن أفيض في هذا ولن أستطيع, إنما أقص عليكم خبر آخر رجلٍ يدخل الجنة, إنه رجل ذكر خبره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين حيث قال: "آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا زَحْفًا فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يَا ابْنَ آدَمَ، لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَا، يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا، فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابُ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا انفهقت له الجنة, وسمع أَصْوَاتَ أَهْلِها".
وهنا تتوقف المشاعر, فأي نفس تحتمل أن تبقى خارجها, وهي ترى الناس في الجنة يغدون ويروحون, يتمتعون ويتنعمون, وهي تعلم كرم ربها ورحمته، فيعود الرجل تارةً أخرى قائلاً لربه: "أي ربٍ أدخلني الجنة؟ فَيَقُولُ الله له: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ الملك -سبحانه-: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ".
وفي لفظ آخر: أن الله يقول له: "أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا" [أخرجه مسلم].
هذه الجنة -يا طلاب الجنة-, هذا طرف يسير مما ورد فيها, وكفى بذكرها لنا واعظاً ولنفوسنا زاجراً, فهل من مشمر؟ هل من مشمر لنيلها, ومن مسابق لسكنى قصورها, ووصل حورها, وللظفر بأعالي منازلها؟
الجنة ليست صعبة المنال, إلا على البطّال, هي قريبةٌ لكن من العامل, بينك وبينها -يا مبارك- أن تحث الخطى وتحزم النفس وتأطرها على الإحسان، فتصبر على طاعة الرحمن، وتتصبر عن العصيان.
بينك وبينها روح تخرج, ونَفَسٌ يتوقف, وموت ينزل, ثم تكون بعده في عداد أصحاب الآخرة, وينتهي زمن امتحانك, وينفتح لك باب المغيبات, قبرٌ وبرزخ وحساب, ثم بعثٌ ونشورٌ وصراط, ثم نعيمٌ أو عذاب, فيا ربح من عمل في يومه، واستعد لغده, ونجح في امتحانه, فأسكنه المولى دار المقامة, فنسى همه وعناءه وأحزانه: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر: 34 - 35].