المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحكمة وتعليل أفعال الله |
إنَّ في الجهاد في سبيل الله رفعاً لذُلِّ الأمةِ المسلمة، وما فتئ المسلمون -منذ غابت عنهم هذه الفريضةُ الإسلامية- يتمرغون في أوحال الذلِّ والتبعية، ويسومهم العدوُّ سوء العذاب، وتلك -وربي!- واحدةٌ من أعلام نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وهو القائل: "إذا تبايعتم بالعينة -وهي نوع من الربا-، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط اللهُ عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجِعُوا إلى دِينكم" رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح ..
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وكان فيما أنزل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم بأن الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله أعظم تجارة تحصل بها النجاة من عذاب الله، وهي سبيل لمغفرة الذنوب، ودخول الجنان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:10-13].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رغَّب في الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام، وجاءت شريعتُه معلية لمنازل المجاهدين في سبيل الله، فقال: "وأخرى يُرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كلِّ درجتين كما بين السماءِ والأرض"، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله، الجهادُ في سبيل الله" رواه مسلم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35]،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
أيها المسلمون: الحديث عن الجهاد في سبيل الله حديثٌ عن معالي الأمور، وإن كرهَته النفوس، كما قال ربنا: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
إنه حديث عن تحرير الفرد والأمة من عبودية الشهوات، واستنقاذٌ للنفوس من الوَهْنِ والجبن والخور، وهو طريقٌ إلى نشر الدين وإرهاب العدوِّ، ومَدِّ رواق الإسلام في أنحاء المعمورة، وتخليص الأمة من ذُلِّ التبعية، وبه يتميز أهل الإسلام والكفر، وينكشف المنافقون وأهل الريب ومَن في قلوبهم مرض.
وما فتئَ القرآنُ ينزلُ معظِّماً للجهاد وتحذر آياتُه من التباطؤ عن الخروج لسبب من الأسباب، أو عائق من العوائق الأرضية، ويقول -جل ذكره-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].
ونظراً لتأخر النفوس أحياناً عن الجهاد لسبب من أسباب الدنيا، فقد جاء العوضُ في رَوحةٍ أو غدوةٍ في سبيل الله كبيراً وغير متكافئ مع متاع الدنيا، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو روحةٌ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها" رواه البخاري. فإذا كان هذا في الغدوة والروحة، فما الظنُّ بما هو أعظم من ذلك من درجات الجهاد؟.
أجل، لقد أعلنها محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- على الملأ، وأقسم، وهو الصادق الأمين، برغبته في الجهاد وفضل الشهادة في سبيل الله يوم أن قال: "والذي نفسي بيده! لولا أنَّ رجالاً من المؤمنين لا تطيبُ أنفسُهم أن يتخلَّفوا عنِّي ولا أجدُ ما أحملُهم عليه، ما تخلَّفتُ عن سريةٍ تغدو في سبيل الله! والذي نفسي بيده لوددتُ أنِّي أُقْتَلُ في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" رواه البخاري.
وفي (صحيح البخاري ومسلم)، واللفظ له، عن أنس -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أحدٍ يدخلُ الجنة يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيءٍ، غيرُ الشهيد، فإنه يتمنَّى أن يرجعَ فيُقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامةِ" متفق عليه.
عباد الله: لا بد من إحياء شعيرة الجهاد في النفوس، ولا بد من العلم أن الجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان، وتطوعه بالجهاد في سبيل الله أفضل من تطوع الحج والعمرة وعمارة المساجد، قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة:19-20].
ومن هنا تسابق المؤمنون إلى ميادين الجهاد، ورغبوا في الشهادة، ولا غرابة أن يُلقي أحدُهم بتمرات كانت معه ويقول: لئن أنا بقيت حتى آكلَ هذه إنها لحياة طويلة!.
ولا غرابة -كذلك- أن يتسابقوا إلى المرابطة في الثغور وهم يسمعون المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رباط يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامِه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقُه، وأمِنَ الفتَّان" رواه مسلم؛ ولهذا قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: لأن أُرابِط ليلةً في سبيل الله أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة القدرِ عند الحجرِ الأسودِ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضلُ من صلاة التطوع. اهـ.
أيها المسلمون: إنَّ في الجهاد في سبيل الله رفعاً لذُلِّ الأمةِ المسلمة، وما فتئ المسلمون -منذ غابت عنهم هذه الفريضةُ الإسلامية- يتمرغون في أوحال الذلِّ والتبعية، ويسومهم العدوُّ سوء العذاب، وتلك -وربي!- واحدةٌ من أعلام نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وهو القائل: "إذا تبايعتم بالعينة -وهي نوع من الربا-، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط اللهُ عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجِعُوا إلى دِينكم" رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
ومن هنا يَفْرُقُ أعداءُ الملِة من الجهاد، ويتخوفون كثيراً من المجاهدين الصادقين، ولذا يَعمدون إلى تشويه صورة الجهاد، ورمْي المجاهدين بأبشع الألقاب، وتكاد صيحاتُ المجاهدين وتكبيرهم تقطع أنياط قلوبهم، وإن كان استعدادهم ضعيفاً.
وإذا لم يُستغرب هذا من الأعداء، فإن المؤسف والمستغرب حقاً أن تروج مثلُ هذه الشائعات في بلاد المسلمين، وتتسلل هذه الأفكار المحبطة للجهاد والمشوهة لصورة المجاهدين عند بعض أبناء المسلمين، ويتردد في الإعلام العربي والإسلامي مفاهيم خاطئة عن الجهاد وأهدافه، وعن المجاهدين وصولاتهم.
عباد الله: والجهادُ في سبيل الله طريقنا إلى العز والتمكين في الدنيا، وهو طريقٌ موصل للجنة ونعيمها في الآخرة فـ "الجنَّةُ تحت بارقةِ السيوف"و"الجنَّةُ تحت ظلالِ السيوفِ" رواه البخاري.
تُرى، كم نُحدث أنفسنا بالجهاد، وهل نتخوف على أنفسنا من النفاق حين لا نغزو ولا نحدث أنفسنا بالغزو؟ وفي الحديث الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث نفسَه بالغزو، مات على شعبةٍ من نفاقٍ". قال عبد الله بن المبارك:" فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" رواه مسلم. وقال غيره: والظاهر الموافق للسنة الصحيحة عمومُ ذلك، ولا دليل على هذا التخصيص.
ومن هنا -معاشر المسلمين- تبدو خطورة تناسي الجهاد، وعدم تحديث النفس به، ويرحم الله أقواماً وأمماً كانت تنام وتستيقظ على أخبار الجهاد، وترابط الشهور؛ بل الأعوام، في الثغور لحماية أمة الإسلام، ونشر دين الله ما بلغ الليل والنهار.
وفي سنن المرسلين وسِيَرهم -عليهم السلام- هممٌ عالية للجهاد، وفي (صحيح البخاري): باب من طلب الولد للجهاد، وفيه ساق الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال سليمان بن داود -عليهما السلام-: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأةٍ، أو تسعٍ وتسعين، كلهنَّ يأتي بفارس يجاهدُ في سبيله، فقال له صاحبُه: قل: إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشقِّ رجلٍ، والذي نفسُ محمدٍ بيده! لو قال: إن شاء الله؛ لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون.
وهنا فائدة: قال الحافظ ابن حجر: قوله (باب من طلب الولد للجهاد) أي: ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجرٌ، وإن لم يقع ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء:95-96]. نفعني الله وإياكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده بالقلب واللسان، وبالسيف والسنان، حتى أتاه اليقين، وأقرَّ الله عينه بنصرة الدين، اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
عباد الله: ولا ريب أن الجهاد يكون بالنفس، والمال، والقلبِ، واللسان، قال ابن القيم -رحمه الله-: والتحقيقُ أن جنس الجهاد فرضُ عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع. اهـ
أيها المسلمون: وليس يخفى أن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها، وقد جاء النص عليه في الجهاد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "والله أعلم بمن يجاهد في سبيله" رواه البخاري.
وجاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجلُ يقاتل للذِّكر، والرجلُ يقاتلُ ليُرى مكانُه، فمَن في سبيل الله؟ قال: "مَن قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله" رواه البخاري.
ومن هنا يكون الحديث عن الجهاد الذي ترفع به راية الإسلام وينشر به العدل، ويحقَّق به حكمُ الله في الأرض، ويُذلُّ به الكفار، وتطهر به الأرضُ من الظلم والجور، ويُخلى بين الناس وعبوديتهم لرب العالمين؛ وليس الجهادُ الذي تُزهق به الأرواح بغير حق، أو تُدمر به الممتلكات بغير علم ودون فائدة، أو تُرفع به الرايات العميَّة، أو يكون ميداناً للشهرة، أو تبرز فيه العصبيات والإقليميات الضيقة.
أيها المؤمنون: وفي فترات العز والقوة للمسلمين ترفع راياتُ الجهاد، ويبرز القادة المجاهدون، وكلما خيم الضعف في الأمة توارت رايات الجهاد وقلَّ المجاهدون.
ومنذ أن بدأ محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- جهاده للأعداء، وراية الجهاد مرفوعةٌ على أيدي خلفائه الراشدين من بعده حتى انساح الإسلام في مشرق الأرض ومغربها، وجاءت الدولة الأموية والعباسية، لتكملا مسيرة الفتح الإسلامي، وهكذا الدولة الأيوبية والمماليك وغيرها من دول الإسلام. وحينها كان الإسلام عزيزاً، والعدوُّ مقهوراً، وأهل الكتاب الذين لا يدينون دين الحقِّ يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
ومع قوة المسلمين وغلبتهم وتحريرهم البلاد وقلوب العباد كان العدلُ قائماً، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً.
ومن روائع عدل المسلمين ما تناقلته كتب التاريخ، أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين استُخلِفَ وَفَدَ عليه قومٌ من أهل سمرقند ورفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمرُ إلى عامله أن ينصِّب لهم قاضياً ينظرُ فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جُمَيع ابن حاضر الباجي، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء، فكره أهل سمرقند الحرب، وأقرُّوا المسلمين، فأقاموا بين أظهرهم! اه.ـ
ولا عجب أن يؤدي هذا العدلُ من المسلمين إلى انتشار الإسلام فيما وراء النهر وغيرها من بلاد الله.
تُرى ما الذي حلَّ بالمسلمين حتى تراجعوا عن مراكز القيادة، ولم يتركوا الجهاد فقط، بل تخطفهم العدوُّ وغزاهم في قعر دارهم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]. ومن لم يَغْزُ غُزي، ومن لم يدع إلى الخير دُعيَ للشر!
أمة الإسلام! ومع فترات الضعف التي تمر بها الأمة المسلمة أحياناً فهي أمة خير، وذات رحم وَلود، بل وذات رسالةٍ خالدةٍ، وقد يفتر جيلٌ أو يتراخى أهلُ عصرٍ، ثم يبعث الله جيلاً آخر أكثر قوة وشجاعة، فينصر الله بهم الدين، ويَكبت الأعداء، ويفضح المنافقون.
ومن سمات هذه الأمة أن الجهاد فيها ماضٍ إلى يوم القيامة، ومع البَرِّ والفاجر، وذلك بخبر الذي لا ينطق عن الهوى حين قال: "الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة، والأجرُ والمغنم" رواه البخاري.
واستنبط العلماء من الحديث: بشرى بقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن مَنْ لازم بقاء الجهاد بقاءَ المجاهدين وهم المسلمون.
أيها المسلمون: ونحن نرى اليوم كم أرهبت حركات الجهاد –وإن كانت متواضعة- أعداء الله، فأطفال الحجارة في فلسطين، هددوا كيان العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكم أَرعب الأفغان والشيشان من بعدهم روسيا الشيوعية، على الرغم من فارق العددِ والعُدَّة، وهكذا الأمر في البوسنة والهرسك وكوسوفا، وكشمير والفلبين وغيرها من بلاد المسلمين، واليوم في داغستان جهادٌ يثير مخاوف الروس ومَنْ حولهم. ونسأل الله أن يُمكِّن للمسلمين وينصر المجاهدين الصادقين، ويذلَّ الكفرة ويهزمهم أجمعين.
عباد الله: والجهادُ بالمال معناه أن تدفع مالاً يستعين به المجاهدون في سبيل الله في نفقتهم ونفقة عيالهم، وفي شراء الأسلحة وغيرها من معدات الجهاد، وفضله عظيم، وقد ذكره الله في كتابه مقدماً على الجهاد بالنفس، مما يدل على أهميته ومكانته عند الله.
وفي (سنن ابن ماجه): (باب التغليظ في ترك الجهاد)، ساق الحديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن لم يغزُ، أو يجهِّرْ غازياً، أو يخلُف غازياً في أهلهِ بخيرٍ، أصابَهُ اللهُ سبحانه بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامة" صحيح ابن ماجة.
ألا فحدثوا أنفسكم معاشر المسلمين بالجهاد، وربُّوا ناشئتَكُم على حُبِّه، وعلِّموهم الرماية وركوب الخيل، وأعينوا المجاهدين الصادقين بأموالكم ودعواتكم، اللهم ارفع راية الجهاد، وأزل به ما انتشر من البلاء والفساد.