البحث

عبارات مقترحة:

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

الشاكر

كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

فقه الجهاد في سبيل الله -2

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات كتاب الجهاد - الحكمة وتعليل أفعال الله
عناصر الخطبة
  1. فضل الجهاد في الإسلام .
  2. قوة الغدوة والروحة في سبيل الله .
  3. قوة الهجرة في سبيل الله .
  4. لماذا شُرع الجهاد في الإسلام؟ .
  5. ضرورة الإعداد لمجابهة الأعداء .
  6. عِظَم أجر الشهداء ومكانتهم ومنزلتهم. .

اقتباس

والجهاد في سبيل الله له الأهمية العظيمة في الإسلام, وهو من أفضل العبادات، وقد عدَّه بعض العلماء ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، وهو ذروة سنامه، وناشر لوائه، وحامي حماه، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به، به نال المسلمون العز، واستحقوا التمكين في الأرض، وبسبب تعطيله حصل للمسلين الذُّل والهوان والصغار، واستولى عليهم الكفار، بل تداعت عليهم أرذل أمم الأرض...

الخطبة الأولى:

الحمد لله مُعِز من اتقاه، ومُذِلّ من عصاه، قاصم الجبابرة، وقاهر القياصرة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي المنجية من المهالك، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا.

عباد الله: لا شك أن الجهاد ذروة سنام الدين، وسبيل عز المؤمنين، وهو أفضل عملٍ يتقرب به العبد لرب العالمين، بعد الإيمان به، فعن أبي ذر -رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله" [مسلم: 88].

إن منزلة الجهاد منزلة عظيمة لا يصل إليها إلا مَن عظمت الآخرة في نفسه، وهانت الدنيا في فكره، ورسخت محبة الله في سويداء قلبه، فعاش بالله، ولله، ومع الله، فيعيش حياة طيبة, وعلى هذه العقيدة الصحيحة ربّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فتسابقوا للجهاد، وواجهوا أعداء الله بثبات وإيمان، وحرصوا على الموت حرص غيرهم على الحياة، فنصر الله بهم الدين, وجعلهم أحياءً في الدارين, فهم أحياءٌ فوق الأرض بالعزةٍ والتمكين، وهم أحياءٌ تحت الأرض عند ربهم يرزقون.

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأمة عزّها في الجهاد، فمتى ما رفعت راية الجهاد كان عاقبتها النصر والعزة، وحليفها الغلبة والتمكين، ومتى ما استكانت ورضيت بالقعود وتركت الجهاد ضربت بالذلة، وتسلط عليها أعداؤها.

لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الركون إلى الدنيا والميل إليها، والإخلاد إلى الأرض والنكوص عن الجهاد في سبيل الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". [أحمد وأبو داود (3462) وصححه الألباني].

وإذا عرفنا فضل الجهاد والاستشهاد, فإن الجهاد لا بد له من إعداد واستعداد. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف: 10 - 13].

عباد الله: والجهاد في سبيل الله له الأهمية العظيمة في الإسلام, وهو من أفضل العبادات، وقد عدَّه بعض العلماء ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، وهو ذروة سنامه، وناشر لوائه، وحامي حماه، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به، به نال المسلمون العز، واستحقوا التمكين في الأرض، وبسبب تعطيله حصل للمسلين الذُّل والهوان والصغار، واستولى عليهم الكفار، بل تداعت عليهم أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلةَ إلى قصعتها، وأصبحوا مع كثرتهم غُثاءٌ كغُثاء السيل، نزع الله المهابةَ من قلوب أعدائهم ووضعها في قلوبهم، قال الله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 74].

عباد الله: إن الغدوة والروحة في سبيل الله فيها الأجر والثواب والقوة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ الله أوْ رَوْحَةٌ، خَيْـرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" [البخاري (2792) ومسلم (1880)]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَابُ قَوْسٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِـمَّا تَطْلُعُ عَلَيْـهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ" [البخاري (2793)].

والجهاد في سبيل الله يستلزم إعداد النفقة في سبيل الله وكثرتها، قال الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261]، وقال -جل وعلا-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 262]. وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: "هذه في سبيل الله"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلها مخطومة" [مسلم(1892)].

وقد يضطر المجاهد في سبيل الله لترك وطنه والهجرة في سبيل الله وله في ذلك قوة وأجر، وزياد فضل، وعلو مرتبة، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 100].

ومن عجز عن الجهاد فجهز غازياً أو خلفه في أهله بخير, كان له بذلك أجر كبير وقوة، فعن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ الله بِخَيْـرٍ فَقَدْ غَزَا" [البخاري(2843) ومسلم(1895)].

فكل شيء في الجهاد في سبيل الله تعالى مكتوب للعبد من خروجه حتى رجوعه، قال الله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120]، وكل هذه الأعمال جزاؤها موفور لهم، إذا أخلصوا فيها لله، ونصحوا فيها، ففي هذه الآيات أشد ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، والآثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير. وعن أبي عبس عبد الرحمن بن جبر -رضي الله عنه -قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ الله فَتمَسَّهُ النَّار" [البخاري (2811)].

كما إن الرباط في سبيل الله فيه القوة والأجر،  فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ الله خَيْـرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْـهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْـجَنَّةِ خَيْـرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْـهَا، وَالرَّوْحَةُ يَـرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ الله أوِ الْغَدْوَةُ، خَيْـرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْـهَا" [البخاري(2892)]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْـرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْـهِ عَمَلُـهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُـهُ، وَأجْرِيَ عَلَيْـهِ رِزْقُهُ، وَأمِنَ الْفَتَّانَ" [مسلم(1913)].

إن الجهاد يعين على قوة الصيام في سبيل الله فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ الله بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً" [البخاري(2840) ومسلم(1153)].

فالتمسوا -أيها الإخوة- أبواب الأجر والخير، والله نسأل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يحرر مقدساتنا، وينصر ضعفاءنا، ويحيينا بالجهاد في سبيله، ويرزقنا الشهادة في سبيله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الملك المنتقم الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبعه بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله ربكم، وآمنوا به، وأخلصوا له العمل، واعلموا أن الإسلام لم يشرع الجهاد عبثًا، ولا لتحقيق أهداف شخصية، أو مطامع مادية، أو مآرب سياسية، أو لبسط نفوذ وتوسيع الرقعة، ولا لإزهاق النفوس وسفك الدماء، والتسلط على الناس واستعبادهم، وإنما شرع تحت راية راشدة سديدة، ولأهداف جليلة، وغايات نبيلة، نذكِّر بأهمها بعد ذكر هدفه الأساس.

أما هدف الجهاد الأساس فهو تعبيد الناس لله وحده، وإعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وتخليص العباد من عبادة الطواغيت والأوثان لعبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 193].

ويتبع هذا أهداف سامية أخرى منها رد اعتداء المعتدين على المسلمين: قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190].

ومنها: إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائق، ويروا نظام الإسلام مطبقاً ليعرفوا ما فيه من عدل وإصلاح للبشر، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 193].

وكذلك حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190]، ومن أجل ذلك شرع الرباط على الثغور لحماية دولة الإسلام من المتربصين بها.

وأيضاً تأديب المتمردين والناكثين للعهود المنتهزين سماحة الإسلام وأهله، قال تعالى في حق من نقضوا العهود والمواثيق: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة: 12، 13].

وشُرع الجهاد لإزالة الظلم وإعادة الحقوق إلى مستحقيها، والدفاع عن الأنفس والحراسات والأوطان والأموال، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) [الحج: 39، 40].

وشرع الجهاد لإذلال الكفار، والانتقام منهم، وإضعاف شوكتهم، وإغاظتهم، قال الله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60] وقال –سبحانه-: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 14].

عباد الله: ما أصبر المجاهدين على طحن المعارك، ووهج السنابك، إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وارتفع الغبار، وصخت المسامع، وكفى ببارقة السيوف فوق رؤوسهم فتنة، لما رأى الله من صبرهم وثباتهم وصدقهم وعطائهم أحسن لهم الجزاء، وأوفر لهم العطاء، ومنحهم من كرمه فضلا ووفاء.

فكل جرح غائر ودم مهراق يسيل في سبيل الله, فالمسك من نسماته يوضع، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل كَلْم يُكْلَمه المسلم في سبيل الله، يكون يوم القيامة كهيئتها، إذ طعنت، تفجر دمًا، اللون لون الدم، والعَرْف عَرْف المسك" [البخاري(237)]، فهل رأيت دماء تفوح شذًا وعبيرًا؟ لما هانت عليهم الأرواح في سبيل خالقها هوّن عليهم خروجها, فأخرجها من أبدانهم كالقطرة من في السقاء.

وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة, ولا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمسّ القرصة؛ سكنت أرواحهم في الدنيا رياض الإيمان، تنعم في ظلالها، وتأكل من ثمارها، فلما فاضت إلى بارئها أودعها عليا الجنات، وأسكنها عنده وحسبك به شرف ومكانة؛ إذ يقول سيد العالمين من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة"، فقال: "هل تشتهون شيئًا؟" قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتْرَكُوا من أن يَسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا" [مسلم (1887)].

فلا -والله- ما ماتوا إذ فاضت منهم الأرواح، ولا انقطعت أرزاقهم إذ قطعهم سيف المنون، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169]، عزوا على ربهم فنالوا محبته ورغبوا عن ديناهم فعوضهم جنته، يفزع الناس ولا يفزعون، ويحزن الناس ولا يحزنون, (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 101، 103].

عباد الله: والجهاد يمنح العبد قوة الشهادة أو الموت في سبيل الله: قال الله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169]،  وقال الله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران: 157]، وقال الله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 74]، وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج: 58، 59].

لقد عرض الرحمن سلعته، وأقام في سوق الإيمان تجارته، فسبق إليها المخلصون فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم، وأفلس عن ثمنها الخاسرون حكمته من الله وعدلاً، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

قد اختبرهم في محبته، فزعموا جميعًا أنهم أحق بها وأهلها, فسألهم على دعواهم بالبرهان، فانكشف عنهم اللثام, وظهر من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين.

إذا اشتبكت دموع في خدود

تبين من بكى ممن تباكى

فأعلمهم ربهم انه لا يحظى بمحبته المدعون، بل اصطفي لها رجالاً يطيرون على متن الجهاد مع كل هيعة وفزعة يقولون: "يا لبيك يا لبيك", (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: 4].

وما أعظم ثواب الشهيد في الجهاد في سبيل الله، فعَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ" [الترمذي(1663) وصححه الألباني].

من أجل ما ذكرنا من الفضائل، وما يملأ الأسفار من الشمائل, جعل الله تعالى الجهاد في سبيله ذروة سنام الإسلام، وعنوان مجده وعزته، وعلوه ورفعته.

ثم غفلت أمتنا عن ذلك حتى صفدت خيول الجهاد فما عادت تركض، وأسكتها خنوع الجبناء فما عادت تصهل، وطمست معالم الحقيقة، وانطفأت بارقة السيوف وعلاها الصدأ، ولبست الأمة ثوب الذل والعار، وسلمت قيادها وزمامها للفجار والكفار, عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما تولى خلافة الأمة قال: "لاَ يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي اللهِ إِلاَّ ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْذُّلِ" [قال ابن كثير إسناده صحيح].

نسأل الله أن يعز أمة الإسلام ويقويها بالجهاد في سبيله، ورد صولة المعتدين، وقمع الحاقدين، ونسأل الله أن يجعلنا من الصالحين المجاهدين في سبيله.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.