البحث

عبارات مقترحة:

الحليم

كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

الشاب الصادق كعب بن مالك رضي الله عنه، بين ضغط الابتلاء وحسن البلاء (2/2)

العربية

المؤلف عمر بن عبد الله المقبل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. أهم الدروس والعبر في قصة كعب بن مالك وصاحبيه .
  2. تأملات في حديث كعب بن مالك .
  3. فضيلة الصدق والصدقة .

اقتباس

والملاحظ أن كعباً -رضي الله عنه- لم يَسأل ليراجع في هذا القرار الصعب، بل سأل: هل الأمر بمفارقتها مؤقتاً أم بطلاقها؟ فهو مستعد لأن يفعل ذلك كله! الله أكبر! مَنْ لي بجيلٍ كهذا الجيل الذي ربّاه محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! ولنقارن بين هذا الأمر وبين أوامر ونواهي كثيرة تطرُق أسماعنا كثيرًا مِن أمره -صلى الله عليه وسلم- ونهيه، ولا تحرّك في البعض ساكناً! بل إن بعضنا ربما استمرأ الذنبَ فلم يحرّك فيه ألمَاً وندماً؛ لأنه اعتاد عليه!

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله....، أما بعد:

فكنتُ في الجمعة الماضية قد أشرتُ إلى جملةٍ من الدروس والعبر في قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم- حين تخلفوا عن غزوة تبوك، ومما مرّ بنا من دروسها وعبرها:

- الحذر من التسويف في المبادرة للعمل الصالح.

- وأن المؤمن - إذا أخطأ - يؤثِر رضا الله والصدق معه، ولو خسر رضا الناس فترةً من الزمن.

- وأن على من أوتي بياناً وفصاحةً أن يسخّرها في بيان الحق، وكشف الباطل.

- وأن الإنسان - مع ضغط الواقع - قد يجد مَن يزيّن له - ولو بحسن نية - أن يترك الحق، أو يقول الباطل؛ فليحذر اللبيب من ذلك.

- وأن من لطف الله بعبده أن يكون معه في مصابه أحدٌ؛ ليخفّ عليه الأمر، وليكونوا عوناً له على تجاوز الأزمة.

- ومما مرّ بنا: ما كان عليه الصحابة من تعظيم أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث هجروا الثلاثة ولم يكلّموهم خمسين ليلة، مع أن فيهم من هو من أحب الناس إليهم!

- وأن على من تاب أن يقطع صلتَه بكل ما يعينه على المعصية، كما فعل كعب رضي الله عنه بخطاب الغسّاني.

واليوم نختم حديثنا عن بعض دروس تلكم القصة العظيمة –لأن دروسها لا تكفيها خطبة أو خطبتان-، ولكن نمرّ على ما تيسر منها:

7 - يقول كعب -رضي الله عنه-: "حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحيُ، قيل لي: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك! فقلتُ: أُطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها، فلا تقربنها، قال: فأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر... فلبثتُ بذلك عشر ليال، فكَمُل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا".

هذا - أيضاً - من البلاء؛ فلقد اجتمع على كعب وصاحبيه هجْرُ الناس عموماً، والأمر بمفارقة أزواجهم! و(إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء) (سنن ابن ماجه ح(4031)، سنن الترمذي ح(2396) وقال: حسن غريب) كما سبق.

والملاحظ أن كعباً -رضي الله عنه- لم يَسأل ليراجع في هذا القرار الصعب، بل سأل: هل الأمر بمفارقتها مؤقتاً أم بطلاقها؟ فهو مستعد لأن يفعل ذلك كله! الله أكبر! مَنْ لي بجيلٍ كهذا الجيل الذي ربّاه محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! ولنقارن بين هذا الأمر وبين أوامر ونواهي كثيرة تطرُق أسماعنا كثيرًا مِن أمره -صلى الله عليه وسلم- ونهيه، ولا تحرّك في البعض ساكناً! بل إن بعضنا ربما استمرأ الذنبَ فلم يحرّك فيه ألمَاً وندماً؛ لأنه اعتاد عليه!

8 - قال كعب -رضي الله عنه-: "ثم صليتُ صلاة الفجرَ صباح خمسين ليلة، على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله –عز وجل- منا، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت علي الأرض بما رَحُبت؛ سمعت صوت صارخٍ أوفى على سَلْع -جبل- يقول بأعلى صوته: يا كعبُ بنُ مالك أبشر! قال: فخررت ساجداً وعرفتُ أن قد جاء فرَج...! وركضَ رجلٌ إليّ فرساً، وسعى ساعٍ مِن أسلم قِبَلي، وأوفى الجبل، فكان الصوتُ أسرعَ من الفرس، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يبشرني؛ فنزعتُ له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرتُ ثوبين فلبستهما".

وفي هذا من الفقه - أيها الإخوة -:

·  استحبابُ المبادرة إلى نقل البشارة عند وجود سببها.

·  وفيه: سجود الشكر عند حصول نعمة دينية أو دنيوية.

·  وفيه: إهداء المبشِّر بهدية ولو كانت قليلة، وتعظُم الهديةُ بعظم البشارة.

9- قال كعب -رضي الله عنه-: "فآذن - أي أعْلَمَ - رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الناسَ  بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر،... فانطلقت أتأمم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، يتلقاني الناسُ فوجاً فوجاً، يهنئوني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبةُ الله عليك".

إنه جيلٌ يعرف قيمةَ التوبة! لذا هنّأوه بها، ولم تكن التهنئةُ فردية أو محدودة، بل هي أفواجٌ وأفواجٌ تهنئ هؤلاء الثلاثة! وحُق لهم والله، فلقد كان امتحاناً صعباً استمر خمسين ليلةً، مشحونةً بالهمّ والحزن والهجر من الناس، بل من أخصّهم.

10 - قال كعب -رضي الله عنه-: "حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحوله الناس، فلما سلمتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: «أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمُّك»! قال فقلت: أمِن عندك يا رسول الله؟ أم من عند الله؟ فقال: «لا، بل من عند الله»، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سُرَّ استنار وجهُه، كأن وجهه قطعة قمر.

·  لنتأمل - يا عباد الله - في قوله -صلى الله عليه وسلم- «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك»! ففيها دليلٌ على أن الميلاد الحقيقي للإنسان هو ميلادُ القلب والروح، وليس ميلاد البدن، فميلاد البدن يشترك فيه الإنسانُ والحيوان، أما ميلادُ القلب والروح بالتوبة؛ فهذه لا يوفَّق لها كلُّ أحد، والموفّق مَن سعى في هذا الميلاد كلّما وَجَد سببَه.

·  وفي هذا - أيضاً - ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- مِن فرحٍ بهذا الميلاد الجديد لأصحابه الثلاثة، وبهذا النجاح الباهر لهم في هذا الابتلاء، وبظهور ثمرةٍ من ثمار تربيته -صلى الله عليه وسلم- لهم؛ حيث ثبتوا وصدقوا ولم يكذبوا، وصدق الله إذْ يقول: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم


الخطبة الثانية:

الحمد لله ....، أما بعد:

11- قال كعب -رضي الله عنه-: "فلما جلستُ بين يديه -صلى الله عليه وسلم- قلت: يا رسول الله! إن مِن توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمسِك بعضَ مالك؛ فهو خير لك» قال: فقلت: فإني أُمسِك سهمي الذي بخيبر.

وفي هذا من الفقه والتربية:

· أن على الإنسان ألا تستغرقه الساعةُ الحاضرة، فيتصدق بكلِّ ماله، أو ينذر نذراً لا يطيقه، أو غير ذلك مما يصدر مِن بعضِ الناس لحظة الفرح أو الحزن.

· أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشَده إلى حفظ بعض ماله؛ لأن المال عصَب الحياة، وقد يحتاج إليه فيضطر للاستدانة أو السؤال؛ وكلاهما مرغوب عنه شرعاً إلا عند قيام سببه.

12 - قال كعب -رضي الله عنه-: "وقلت: يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقاً ما بقيت، قال: فوالله ما علمتُ أن أحدًا من المسلمين أبلاه اللهُ في صدق الحديث -منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا- أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي".

وهكذا المؤمن - يا عباد الله - يترجم نعمةَ الله عليه بشكرها وحفظها، كم من إنسان وقع في معضلة، أو معصية، وكاد ينكشف سترُ الله عليه؛ فأضمر في نفسه -بل ربما أفصح وصرّح وأقسم- أن يترك تلك المعصية حين نجّاه الله منها، فلما بردت حرارةُ الموقف عاد إلى ما كان عليه! وما هكذا تُشكر نِعمُ الله.

13 - قال كعب -رضي الله عنه-: فأنزل الله عز وجل: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...) حتى بلغ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 117 - 119].

 قال كعب: "والله ما أنعم اللهُ عليَّ مِن نعمة قط -بعد إذ هداني الله للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، وقال الله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 95، 96]".

وهكذا شأنُ المؤمن؛ يَذكر نِعمَ الله ليتحرك قلبُه ولسانُه وجوارحُه بالشكر.

وإن مِن نعمة الله على عبده وأسباب ثباته على الحق: أن يُريَه ثمرةَ صبره وثباته في الدنيا قبل الآخرة، حين يرى مصارعَ الظالمين والكاذبين.

اللهم اسلكنا في عبادك الصادقين، وألهمنا شكر نِعَمك، وأعِذنا من زوالها.