البحث

عبارات مقترحة:

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

الحق

كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

سرية بئر معونة

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. ثبات الصالحين من الأمم الماضية على دينهم .
  2. خبر بئر معونة ومقتل القُراء وكرامات بعضهم .
  3. قنوت النبي الكريم ودعاؤه على قاتليهم .
  4. دروس مستفادة من قصة بئر معونة .

اقتباس

وإن كان المؤمنون يحزنون لما أصاب الأمة المسلمة من الضعف والمهانة، ومن تسلط الكافرين عليها، وشماتة المنافقين بها؛ فإن هذا الحزن قد أصاب خيار الأمة؛ ولكنه ما فتَّ في عضدهم، ولا وهَّن عزيمتهم، ولا أضعفهم عن القيام بحق الله تعالى عليهم من الإيمان والدعوة: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)) [الأحزاب].

أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس: في زمن الهوانِ والانكسارِ، وعندما تحيط المصائب والنكبات بالمسلمين، ويتسلط عليهم أعداؤهم من كفار ومنافقين؛ فإن الواجب على المسلم في مثل تلك الأحوال أن يعتني بصلاح قلبه، ورباطةِ جأشه، وثباتِه على دينه، وقوتِه في الحق؛ لئلا يزيغَ مع الزائغين، ويهلك مع الهالكين.

ومما يُعين على ثبات القلب، وسلامته من الفتنة، وصبره على البلاء: مطالعة أخبار الثابتين على الحقِّ، المستسلمين لأمر الله تعالى وحُكْمِه، الراضين بقضائه وقدَره، المقِرِّينَ بِعِلْمِهِ وحكمته، الموقنين بوعده ونصره؛ فإنَّ سِيَرَ هؤلاءِ الرجال تدفع المسلمَ إلى التأسِّي بهم في ثباتهم ويقينهم.

وكم في تاريخ الأمة المسلمة من رجال واجهوا المحن والبلايا بالثبات والصبر، واليقين بوعد الله تعالى ونصره، حتى وافتهم المنايا وهم لم يبدلوا دينهم، أو ينتكسوا على أعقابهم، حالهم كحال الصالحين من أتباع النبيين والمرسلين الذين حكى القرآن قصصهم، وأمر الله تعالى بالتأسي بهم في ثباتهم وصبرهم.

وإن كان المؤمنون يحزنون لما أصاب الأمة المسلمة من الضعف والمهانة، ومن تسلط الكافرين عليها، وشماتة المنافقين بها؛ فإن هذا الحزن قد أصاب خيار الأمة؛ ولكنه ما فتَّ في عضدهم، ولا وهن عزيمتهم، ولا أضعفهم عن القيام بحق الله تعالى عليهم من الإيمان والدعوة: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ) [الأنعام:33-34].

ولما توقَّفَ الصحابةُ -رضي الله عنهم- عن مقاتلة المشركين في أحُدٍ بعدما سمعوا الصارخ يصيح بأن محمداً قد قتل عاتبهم الله تعالى، وعذلهم على فرارهم وتركهم القتال، فقال -سبحانه- يخاطبهم: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].

ثم أخبر -سبحانه- عن أحوال الأنبياء السابقين، ومدح ثباتهم على الحق رغم ما أصابهم من عظيم المحنة والبلاء، والقتل والتشريد، فقال سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146].

قال قتادة: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا) أي: بقتل نبيهم، (وَمَا اسْتَكَانُوا) أي: فما ارتدوا عن نصرتهم، ولا عن دينهم أنْ قاتلوا على ما قاتَل عليه نبي الله تعالى، حتى لحقوا بالله، وما ذلوا لعدوهم، وما كان قولهم في حال شدتهم: (إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [آل عمران:147-148].

وثواب الدنيا الذي آتاهم الله تعالى إياه هو النصر والظفر وحسن العاقبة، فجمع لهم بين المثوبتين، ونالوا الحسنيين، نسأل الله تعالى أن يجعلنا كذلك، وأن يلحقنا بهم، إنه سميع مجيب.

أيها الإخوة: وكما ثبت قوم صالحون من الأمم الماضية على دينهم فإن رجالاً صالحين من هذه الأمة ثبتوا كذلك؛ ففي شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة، وقعت حادثة لجمع من خيار الصحابة وقرائهم، رضي الله عنهم وأرضاهم، لقوا فيها ربهم، وهم ثابتون على دينهم، موقنون بوعد ربهم لهم.

إنهم جمعٌ من الصحابة بلغوا سبعين صحابياً، كانوا من زُهَّادِ الصحابة، ومن خيار المسلمين وفُضَلائِهم، كان الصحابة يسمُّونهم القراءَ؛ لكثرةِ قراءتهم للقرآن، وتهجدهم به في الليل.

كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلُّون بالليل، ويضعون الماء في المسجد للمسلمين، ويطعمون فقراء الصحابة من طيب كسبهم؛ جرت عليهم محنةٌ عظيمة، وابتلاء كبير، وغدر بهم المشركون، فثبتوا على دينهم حتى لقوا الله تعالى غير مبدلين ولا مغيرين.

وملخصُ خبرهم: أن أبا براء عامر بن مالك المدعو "ملاعب الأسنَّة" قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فدعاه إلى الإسلام، فأبى أن يسلم ولم يَبْعُد، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجدٍ رجوت أن يستجيبوا لك، ويتبعوا أمرك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أخاف عليهم أهل نجد"، فقال: أنا جارٌ لهم أن يعرض لهم أحد.

فبعث معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين من الأنصار شببةً يسمون القراء، وأمَّر عليهم المنذرَ بن عمرو الساعدي، فلما نزلوا ببئر معونة عسكروا بها، وسَرَّحَوا ظهرهم، وبعثوا حرامَ بن ملحانَ -رضي الله عنه- بكتاب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعن حراماً بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه، ورأى الدم، قال حرام: فزتُ ورب الكعبة!.

ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جِوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَّية ورِعْلٌ وذكوان، فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقاتلوا حتى قُتِلوا عن آخرهم إلا كعبَ بن زيد بن النجار فإنه ارتُثَّ بين القتلى، أي حمل من أرض المعركة جريحاً، فعاش حتى قتل يوم الخندق.

وكان عمرو بن أمية الضمْري والمنذر بن عقبة بن عامر في سَرْح المسلمين، فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذرُ فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأُسر عمرو بن أمية الضَمْري، فلما أخبر أنه من مضر جزَّ ابن الطفيل ناصيته، وأعتقه عن رقبةٍ كانت على أمه.

وقد وقعت كرامة لأحد القتلى رآها عدو الله عامر بن الطفيل، فقد جاء في صحيح البخاري ان ابن الطفيل لما أسر عمرو بن أمية الضَمْري أشار إلى أحد القتلى فقال: من هذا؟، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فُهيرة، فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع. وجاء في رواية أخرى أن قاتله أسلم وقال: دعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فُهيرة.

وقد تأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- لمقتلهم حتى قال أنس -رضي الله عنه-: فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجَدَ على شيء ما وجد عليهم؛ فقد كان عددهم يوازي عدد قتلى أحد، إضافة إلى أنهم من القرَّاء العبَّاد، وقد قتلوا غدراً وغيلة.

ولذلك دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على قَتَلَتهم شهراً كاملاً؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه خبر مقتل أصحابه وغدر بني سليم بهم قنت شهراً يدعو في الصبح على أحياءٍ من أحياء العرب، على رِعْلٍ وذكوانَ وعُصَّيه وبني لِحْيَان.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو عليهم، على حي من بني سليم، على رعل وذكوان وعصيَّة، ويؤمِّن مَنْ خَلْفَه. رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

وقد أخذ العلماء من ذلك مشروعية القنوتِ في الصلوات الخمس في النازلة العظيمة تنزل بالمسلمين، كما أخذوا مشروعية الدعاء على المشركين المحاربين، وهذا فيه ردٌّ على من زعم أن الدعاء للمشركين بالهداية أولى من الدعاء عليهم بالهلاك والعذاب؛ كما يردده بعض مَن لا علم عنده من الصحفيين وأشباههم، ينتقدون من يدعون عليهم. وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لِيَتْرُكَ الأولى إلى غيره.

والهَدْيُ النبوي في ذلك هو أكمل الهدي، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو لهم ويدعو عليهم، وموجبات الدعاء عليهم التي وجدت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- موجودةٌ في عصرنا هذا، وهي عداوتهم لأهل الإسلام.

وأحكام ديننا ومعاملتنا مع غيرنا قد جاء تفصيلها في الكتاب والسنة، فلا نحتاج في معرفتها إلى آراء جهلة، وأهواءِ ذوي هوىً لا يعرفون شريعة الله تعالى، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا على أهل الأحزاب بالنار وبالزلزلة والهزيمة، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً" أخرجه الشيخان، وقال: "اللهم اهزمهم وزلزلهم" أخرجه الشيخان، ودعا على أهل مُضَرَ بالجوع، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "اللهم اشدد وطأتَكَ على مضر، اللهم سنين كسني يوسف" رواه الشيخان.

ودعا على أحياء من العرب، ودعا على أشخاص من صناديد المشركين سماهم بأسمائهم ولَعَنَهم في دعائه كما روى الشيخان؛ فكل ذلك مشروع، ومن هديه وسنته المحفوظة، وقد بوب البخاري -رحمه الله تعالى- على هذه الأحاديث بقوله: باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة.

ولو ظن أنه إن دعا عليهم يدعون على المسلمين فإنه لا يترك الدعاء عليهم لأجل ذلك؛ لما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا"، وفي لفظ: "يُستجاب لنا فيهم، ولا يُستجابُ لهم فينا" أخرجه مسلم وأحمد، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: ففيه مشروعية الدعاء على المشركين ولو خشي الداعي أنهم يدعون عليه.

وكما كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته الدعاء على المحاربين من المشركين فإن من سنته أيضاً الدعاء للمسالمين منهم بالهداية إذا كان يرجو إسلامهم، ويطمع في هدايتهم؛ كما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه دعا لدوس، كما في الحديث المتفق على صحته، ودعا لأم أبي هريرة -رضي الله عنهما-، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم وأحمد، وقد بوب البخاري على ذلك بقوله: باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وقوله: (ليتألفهم) مِن تفقُّه المصنِّف، إشارة منه إلى الفَرق بين المقامين، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم؛ فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم، ويكثرُ أذاهم، والحالة الثانيةُ حيث تُؤمَنُ غائلتهم، ويُرجى تألفهم، كما في قصة دوس.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يثبتنا على الحق المبين، وأن يكفينا شر الكافرين والمنافقين، إنه سميع مجيب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واثبتوا على دينكم حتى تلقوا ربكم؛ ففي ذلك النجاة من عذاب الآخرة، والفوزُ بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزُّمر:61] .

أيها الإخوة المؤمنون: تنطوي حادثة سرية بئر معونة، وما حصل للمسلمين فيها من عظيم الابتلاء على دروس مهمة، جديرٌ بالمسلم أن يتأملها، ويستفيدَ منها، ولاسيما في وقتٍ تعظم فيه المحن، وتشتد الأزمات.

فهذه الحادثة تبين بجلاء حقيقة المشركين، وشدة عداوتهم للمؤمنين، وغدرهم بهم حينما تسنح فرصة للغدر، كما تُبْرِزُ حجمَ الابتلاء الذي ابتلي به هؤلاء النخبة من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد خرجوا يُعلمون الناس القرآن، فقُتلوا خيانةً وغدراً.

وما كاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- يكفكفون دموعهم على شهداء أحد حتى ابتُلُوا بقتل سبعين آخرين في هذه الحادثة المؤلمة، وليس بين الحادثين إلا قريباً من ثلاثة أشهر؛ فابتلاء يعقبه ابتلاء، وامتحان في إثر امتحان للطائفة المؤمنة، وليس المسلمون في هذا العصر بأكرم على الله تعالى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته الكرام -رضي الله عنهم- الذين ابتلوا أشدَّ الابتلاء، ومن أراد ثواب الآخرة صبر على ابتلاءاتِ الدنيا. والابتلاءُ سنة ماضية يجريها الرب تبارك وتعالى على الأنبياء وأتباعهم.

ومن أهم الدروس التي يحتاجها المسلم في هذا الزمن من تلك الحادثة: ثباتُ هذه العصابة المؤمنة على دينهم حتى لقوا الله تعالى، وكان أشدَّ شيء حرصوا عليه وهم يلقون الله تعالى أن يبلغوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويبلغوا إخوانهم رضاهم عن الله تعالى بما أكرمهم به من الكرامة والشهادة، وبما أسبغ عليهم من الرضا عنهم، حتى قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضِينَا عنكَ، ورَضِيتَ عنا. وفي رواية قالوا: ربنا أخبر إخواننا بما رضينا ورضيت عنا فأخبرهم عنهم، والرواية الأولى أخرجها مسلم، والثانية البخاري.

إنهم ما نالوا هذا الرضا عن الله تعالى إلا لأنه -سبحانه- أرضاهم، وقد استحقوا هذا الرضا برحمة الله تعالى، ثم بسبب ثباتهم على دينهم رغم المحنة والبلاء، حتى بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل ذلك، وما كان لهم من هَمٍّ إلا أن يعلم إخوانهم مصيرهم، ورضى الله تعالى عنهم؛ حتى يثبتوا على دينهم مهما كانت الصوراف والتبعات؛ ذلك أن رضا الله تعالى يستحق كل تضحية.

وثمة ملاحظة لابد أن نفطن لها، وهي أن الخوف على الأنفس لا يُسوِّغ وقف الدعوة إلى الله تعالى؛ فإذا ما عظُم مكرُ الكافرين، وافتراء المنافقين على عباد الله المؤمنين، وآذوهم بسبب دعوتهم إلى الله تعالى؛ فإن ذلك ليس عذراً صحيحاً لتعطيل الدعوة، حتى ولو كان في ذلك مظنة ذهاب النفوس، فقد رأينا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان خائفاً في بداية الأمر من إرسال هذه السرية، وصرح بخوفه عليهم من الغدر؛ ولكنه غلَّب جانب مصلحة الدعوة، وتبليغِ الدين للناس على جانب الخوف على أصحابه، فكان ما كان من أمر الله تعالى وقدره.

فإذا كان الخوف على النفوس لا يسوِّغُ وقف الدعوة إلى الله تعالى وتعطيلها، فما دونه من باب أولى، كالخوف على الجاه والمال وغيره.

ألا فاتقوا الله ربكم، واثبتوا على دينكم، وادعوا إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ حتى تلقوا الله تعالى فيرضى عنكم وترضوا عنه، وذلك الفوز العظيم.

وصلوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم بذلك ربكم...