الخالق
كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن العظات كثيرة وأعظمها كتاب الله العظيم فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم. قال تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فأحضر قلبك عند تلاوته وسماعه، واحضر حضور من يخاطبه من تكلم به سبحانه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ..
الحمد لله القائل في كتابه المبين (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات :55] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده. -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين..
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وتذكروا؛ فإن الله سبحانه أثنى على الذين يتذكرون بآياته. ويتعظون بما يرون وما يسمعون من أيامه؛ فقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) وقال: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) كما وصفهم بأنهم أهل خشيته فقال: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) وإلى جانب ذلك وصف الذين لا يؤثر فيهم التذكير بأحط الصفات فقال: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) [الصافات 12: 13] وقال: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) [الأعلى 11: 12] وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) [الكهف:57]
عباد الله: إن العظات كثيرة وأعظمها كتاب الله العظيم فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم. قال تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق :45] فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فأحضر قلبك عند تلاوته وسماعه، واحضر حضور من يخاطبه من تكلم به سبحانه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق :37]
فقوله: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) المراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً) أي حي القلب. وقوله: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له. وقوله: (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي شاهد القلب حاضر غير غائب. فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو الإصغاء. وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معاني الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر؛ حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
ومن العظات البالغة الموت قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) [الرحمن 26: 27] (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء: 87] والآيات في التذكير بالموت كثيرة.
وكذا الأحاديث؛ ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم- "أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت".
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بمافيه، جاء الموت بما فيه".
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: "أما بعد: فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله عز وجل فيه للحكم والقضاء بينكم؛ فخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض، واشترى قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وخوفاً بأمن.
ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفكم بعدكم الباقون. كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين. في كل يوم وليلة تشيّعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد قد خلع الأسباب. وفارق الأحباب. وسكن التراب. وواجه الحساب. مرتهناً فقيراً إلى ما قدم. غنياً عما ترك. فاتقوا الله قبل نزول الموت بكم. كأن الموت فيها على غيركم قد كتب. وكأن الحق فيها على غيركم قد وجب. وكأن الذي تشيعون من الأموات سفر عما قليل إليكم راجعون. تّبوئونهم أجداثهم. وتأكلون تراثهم كأنكم مخلدون بعدهم.
تنسون كل واعظة وتأمنون كل حادثة. وكأنكم لا تعقلون".
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء. وخذ من صحتك لمرضك. ومن حياتك لموتك" رواه البخاري.
قال جماعة من العلماء في معنى هذا الحديث: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها، ولا تغتر بها؛ فإنها غرارة خداعة، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله وبالله فاستعن.
ومن العجب كل العجب أن العبد يصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور. سرور الدنيا كأحلام نوم، أو كظل زائل. إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أو أياماً. ساءت أشهراً وأعواماً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً. ما حصَّل العبد فيها سروراً إلا خبأت له أضعاف ذلك شروراً.
قال ابن مسعود: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحاً. إلا ملئ ترحاً. قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صيف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها".
خطب بعض العلماء فقال: أما بعد: فإن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر؛ فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرِجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، وختم خبطته.
مر سليمان بن داود عليهما السلام في موكبه والطير تظله، والجن والإنس عن يمينه وشماله، فمر عابد من عباد بني إسرائيل فقال: والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً. فسمع سليمان كلمته فقال: تسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود. ما أعطي ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى. من تفكر في الدنيا علم أنها دار رِحلة؛ فجمع للسفر رَحْلَه، ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر، ثم إلى دار الإقامة الأبدية؛ فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات؛ إن كان من أهل الجنة، أو دار العذاب الأبدي، إن كان من أهل النار.
واسمعوا هذه القصة العجيبة: روى الإمام أحمد عن يزيد بن ميسرة قال: " كان رجل ممن مضى جمع مالاً فأوعى -يعني: كان لا ينفق منه- ثم أقبل على نفسه وهو في أهله فقال: أنعم سنين. فأتاه ملك الموت فقرع الباب في صورة مسكين. فخرجوا إليه فقال: ادعوا لي صاحب الدار. فقالوا: يخرج سيدنا إلى مثلك؟! ثم مكث قليلاً ثم عاد فقرع الباب وصنع مثل ذلك. وقال: أخبروه أني ملك الموت فلما سمعه سيدهم قعد فزعاً وقال: لينوا له الكلام. قالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟ قال: لا. فدخل عليه فقال: قم فأوص ما كنت موصياً، فإني قابض نفسك قبل أن أخرج. قال: فصرخ أهله وبكوا. ثم قال: افتحوا الصناديق وافتحوا أوعية المال. ففتحوها جميعاً، فأقبل على المال يلعنه ويسبه. يقول: لعنت من مال أنت الذي أنسيتني ربي وشغلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي. فتكلم المال فقال: لا تسبني. ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتك. ألم ير عليك من أثري وكنت تحضر سدد الملوك والسادة فتدخل. ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون. ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتزوج. ويخطب عباد الله الصالحون فلا يزوجون. ألم تكن تنفقني في سبيل الخبث فلا أتعاصى. ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك. وأنت ألوم مني. إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب، فمنطلق ببر ومنطلق بإثم. فهكذا يقول المال فاحذروا".
أيها المسلمون: إنكم وسّعتم المساكن وزخرفتم الفلل، وكدستم الأموال فاحذروا العاقبة. تذكروا ظلمة اللحود، وضيق القبور، وأهوال يوم القيامة والمنصرف من المحشر؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار. واسمعوا نداء ربكم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ* إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر5: 8]
إذا أردت أن تعرف انصراف الناس عن عمل الآخرة فانظر إلى كثرة من يذهب إلى الأسواق، وقلة من يذهب إلى المساجد.
ابن آدم: أوتيت صحة في الجسم وبسطة في الرزق وفسحة من الوقت؛ فماذا قدمت لآخرتك؟
إن كثيراً من الناس يقول: كم قيمة السلعة الفلانية. ولا يقول: كم قيمة الساعة من العمر. كم قدمت من الحسنات. بأي عمل ألقى ربي.
فاتقوا الله -أيها الناس- واسمعوا إلى هذا الإعلان الرباني: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20]