السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
حديثنا بعد تقوى الله، في سعادة دنيا المرء وأخراه، عبارة جميلة، وكلمة عذبة... تلهج بها الألسنة، وتبتهج بها الأفئدة، وهي أمنية كل مسلم ومسلمة، كنز كبير، وعطاء كثير، على الكبير والصغير، إنها: "العافية".
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل العافية منة وارفة، أحمده -سبحانه- ألبس من شاء العافية الوافية، وأشهد أن لا إله إلا الله يملك عافية الدنيا والآخرة.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من لبس العافية، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة.
أما بعد عباد الله: حديثنا بعد تقوى الله، في سعادة دنيا المرء وأخراه، عبارة جميلة، وكلمة عذبة... تلهج بها الألسنة، وتبتهج بها الأفئدة، وهي أمنية كل مسلم ومسلمة، كنز كبير، وعطاء كثير، على الكبير والصغير، إنها: "العافية".
وما أدراك ما العافية؟! هي العيشة الرضية الهنية، والسعادة الأبدية، والراحة الروحانية، لا عيش أهنأ منها، ولا لباس أحسن من لباسها، من أفضل النعم، وأهنأ العطاء والكرم.
إذا فُقدت عُرفَت، وإذا دامت جُهلت؛ بالعافية لذة الحياة والناس، وثوبها أجمل لباس، أهنأ عطية، وأفضل قسمة مرضية، الألسنة بها ولها داعية: "الله يهب لك العافية"، و"الله يعطيك العافية".
العافية تاج الأصحاء، وأنس السعداء، ومنة الصلحاء؛ العافية السلامة الدائمة للأجسام والأديان والأمراض اللازمة والطارئة.
العافية لا تصلح الدنيا إلا بها، ولا العيش والأمن إلا في أجوائها؛ بالعافية ينال المرء كل مطلوب، ويسعد في كل مرغوب، ولعظم منزلتها وشرف مكانتها | جاء سؤالها مع الأذكار، في الأوراد والمساء والصباح والإبكار، فكان -عليه الصلاة والسلام- لا يدع سؤالها |
روى أبو داود والنسائي وابن ماجة: لم يكن يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا"، "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي"، فلاحظوا -إخواني- كيف سأل العافية في جميع أحواله ومعاشه وآخرته ودنياه؟.
ومن أهميتها أن تنام على سؤالها وتستيقظ على سؤالها، فعند مسلم أن ابن عمر أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقول: "اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتّها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية".
وعندما تستيقظ تقول: "الحمد لله الذي رد عليّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره".
فلأهميتها تنام على الدعاء بها؛ لكن كثيرا منا يجهل أذكار نومه فيبيت على ما لا يرضي الله، على ما يلهي عن ذكر الله، كـ "الواتس" و"النت" و"القنوات" و"المنتديات".
ومما يدل على أهميتها أنك تسألها ممن يملكها في صلاتك بين السجدتين، رباعية أو ثلاثية أو ثنائية، فتقول: "رب اغفر لي وارحمي واهدني ورازقتي وعافني".
هذا، وان كان المسلم جديداً يرشد بالدعاء الحميد، فروى مسلم عن طارق بن أشيم قال: كان الرجل إذا أسلم علمه رسول الله أن يدعو بهؤلاء الكلمات: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي"، بل قال: "فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك".
العافية -يا مسلمون- صحة وسلامة وفوز في الدنيا والآخرة، قال نبي الملحمة والرحمة: "مَن أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده طعام يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
ولمن في النعمة لابسا وفي جمالها كاسيا أن يدعو بالثبات عليها وعدم زوالها، ففي مسلم: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمك وتحول عافيتك". فتدعو ألا تتبدل ولا تتغير ولا تتحول...
العافية تذهب القلق وهموم الحياة وتزيل الشقاء والعناء، فما سئل ربنا شيئا أحب إليه من سؤال العافية والمعافاة.
العافية حصانة من الفتن، ووقاية من المحن، كما قال النبي المؤتمن: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية".
العافية بغية الأحياء والأموات؛ ولهذا من الدعوات عند زيارة الأموات: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية" رواه مسلم.
وفي الصلاة على الميت تقول: "اللهم عافه واعفُ عنه"؛ فالعافية مطلوبة: أمنٌ في الأوطان، وصحة في الأبدان، وتمسك بالإيمان، وعافية عند قيامة الأبدان للرحيم الرحمان، بالعفو والإحسان بدأ (الدعاء) من خروج روح الإنسان.
وإذا أردت راحة البال، وصلاح الحال، فعليك بالتغافل مع الناس والعيال، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "تسعة أعشار العافية التغافل"
أحب من الإخوان كلّ مواتي | وكل غضيض الطرف عن هفواتي |
وإذا تمت عليك العافية وسلمت -بإذن الله- من كل آفة، فإياك والشماتةَ والكبر والفخر والملامة! واسأل الله لك ولكل مبتلى العافية.
ففي الحديث: من رأى مبتلى فقال: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا"، لم يصبه ذلك البلاء، سواء كان البلاء في الدنيا أو الدين.
وقسمة العافية ثلاثة: "العفو، والمعافاة، والعافية"؛ فالشر الماضي يزول بالعفو، والحاضر بالعافية، والمستقبل بالمعافاة؛ لتضمنها دوام العافية، ففي الحديث: "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة"، فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة.
ولأهمية العافية سؤالها في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، أرشد -عليه الصلاة والسلام- بها، قالت عائشة: "يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر؛ فما أقول؟"، قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني".
العافية من أعظم المواهب، وأجل الرغائب، جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "علمني دعاء أنتفع به"، قال: "قُلِ: اللَّهُمَّ عَافِنِي مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَشَرِّ مَنِيِّي" يَعْنِي ذَكَرَهُ.
عباد الله: العافية عافيتان: عافية الأديان، وعافية الأبدان؛ فإذا اجتمعتا فذاك توفيق الرحمن، وعافية الدين أعظم الامتنان، فقد تصاب بالآلام والأسقام ولكنك في صلاح واستقامة.
العافية سلم الأمان، وتاج الأبدان، العافية مطلب فطري... طبيعي، فلا يحب البلاء والوجع، إلا مصاب بالخلل والهلع، ولا يدرك المرء قدر العافية وهي -بحمد الله- في لباسه طافية، فلا يعرفها إلا من فقدها، فإذا فقدت بانت، وإذا ضعفت ظهرت.
فالعافية أكرم لباس، وأعظم إحساس.
هذا وصلوا وسلموا على خير من بعث للناس.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين.
عباد الله: لاحظ السلف قدر العافية فصانوها بالطاعة الهادفة، قال أبو سليمان الدارني: "من صفا صُفي له، ومن كدَّر كُدر عليه، ومن سره أن تدوم له العافية فليتق الله".
وقال ابن الجزري: "من أعطي العافية فاز بما يرجوه ويحبه قلبا وقالبا، دينا ودنيا". وقال مطرف بن الشخير: "لئن أعافى لأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر"، وقال: "أنظر في النعمة التي لا يشوبها كدر فإذا هي العافية".
وقال ابن القيم: "من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر".
رأيت البلاء كقطر السما | ءِ وَما تُنبِتُ الأَرضُ من نامِيَه |
فَلا تسألنَّ إِذا ما سَأَلـ | ــتَ إِلهكَ شَيئاً سِوى العافِيَه |
قال وهب بن منبه: "مكتوب في حكمة آل داود: العافية الملك الخفي"، نعم! العافية ملك خفي لا يعلم به إلا من فقده، فلا ينفع ملك ولا مال ولا ولد ولا جاه ولا عيال إذا فقدت.
وكل الغبن أن تنعم بالصحة والعافية فتضيعها في اللهو والمعصية: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"، فلا تضيع عافيتك في معصية ربك.
العافية، بعض الناس يظنها في بدنه وأمنه وأكله وشربه، ونسى أن العافية سلامة دينه ومعتقده، وصلاحه هو عبادته واستقامته.
العافية أحلى ما يملكه الإنسان ويهبه الرحمن، تذكر إخوانك على الأسرّة البيضاء، تذكر إخوانك الموتى، تذكر إخوانك الضعفاء، تذكر الفقراء والمحتاجين، تذكر أهل البلاء والمدينين، تذكر من لا يجد طعاما ولا لباسا ولا أمنا ولا كساء، تذكر من هم في خوف وقلق وهم وغم وحرق.
لولا العافية لما شعرت بلذة محبوب، وطعم موهوب، لولا العافية لما طلبت كل شهي ومرغوب، لولا العافية لتكدرت حالك وانشغل بالك، لولا العافية لم يكن لك قرار وثبات واستقرار، لولا العافية لم تتزوج وتطلب المال وترغب في الحياة والعيال، لولا العافية لم يدم لك مطعم وشراب ولا ما تشتهي مما لذ وطاب.
... فما طاب شيء إلا بالعافية، كان الحَجاج -على ما فيه من صلف وتجبر- جوادا كريما لا تخلو مائدته من آكل، فذات يوم كان خارجا للصيد وكان معه أعوانه وحاشيته، ولما حضر غذاؤه قال: التمسوا من يأكل معنا، فتفرقوا كل جهة فلم يجدوا إلا أعرابيا، فأتوا به، فقال له الحجاج: هلم فكل، فقال: لقد دعاني من هو أكرم منك فأجبته، قال: من هو؟ قال الله دعاني إلى الصوم، قال: تصوم في مثل هذا اليوم الحار؟! قال: صمت ليوم هو أشد حرا منه، قال: أفطر وصم غدا، فقال الأعرابي: أيضمن لي الأمير أن أعيش إلى غد! فقال: إنه طعام طيب، فقال الأعرابي: والله! ما طيَّبه خبّازُك ولا طباخك؛ ولكن طيبته العافية.
فالعافية -عباد الله- لن تدوم إلا بشكر الحي القيوم، فاستثمر عافيتك في قربك من ربك وطاعته وعبادته، وتأمل المثل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى.
وخلاصة المقام، وزبدة الكلام، أن العافية تأمين الله لعبده من كل نقمة ومحنة، ووقايته في دينه وبدنه وولده وأهله، وسلامته وحفظه، وعُرفت بجملة مفيدة: "العافية دفاع الله عن العبد".
ثم الصلاة مع سلام دائم على الرسول القرشي الخاتم وأهله وصحبه الأطهار...
هذا، وأسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...