الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | زيد بن مسفر البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
"أين الله؟"، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: " لقد أعتقته هذه الكلمة في الدنيا، وأرجو أن تعتقه هذه الكلمة في الآخرة"، كلمةٌ توصل إلى مرضات الله -جل وعلا-!
لا تركنن إلى القصور الفاخرهْ *** واذكر عظامك حين تمسي ناخرهْ فإذا رأيت زخارف الدنيا فقل *** يا رب إن العيش عيـــــش الآخره..
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، كانت أشعة الشمس المتوهجة تسطع على جبال مكة وأوديتها وشعابها، فالناس قد أخذوا منازلهم، وكل منهم قد استظل بظل ظليل يقيه من حر ذلك اليوم.
بيد أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان خارج مكة، كان هو وصاحبه عبد الله بن دينار كانا خارج مكة، فكانا ينشدان الوصول إلى مكة بأسرع وقت.
لقد جفّ الحلق، ويبست الشفتان، وقد ستر كل منهما وجهه بقناع يغطيه من لهيب الهواء الحار، يقلبان النظر: هل من شجرة يستظلان بظلها؟ يقلبان النظر: هل هناك من شربة ماء تقيهما حرارة هذا اليوم؟ ما أثمن الماء! وما أغلاه! وما أنفسه! وما أعظمه في مثل هذه الحال! ما أحوج الإنسان إلى شربة ماء ترويه من عطشه العظيم! ما أحوج الإنسان إلى شربة ماء في مثل هذا الموقف! إنه لموقف عظيم؛ والواجب على المسلم أن يتأمله، وأن يتدبره. وتالله! لو أنّا تأملنا نِعمَ الله -جل وعلا- لوجدنا أنفسنا عاجزين عن شكر أقل النعم! ونعم الله لا تحصى! (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهيم:34].
عباد الله: في وسط هذه الصحراء التي أقفرت من الحياة إذا بهما يلحظان سوادا من بعيد، فاتجها إليه تلقائيا، أسرعا إلى السواد، واقتربا منه فإذا هو شاب يرعى الغنم، فرحّب الشاب بضيفيه، وما إن أدرك عليهما آثار الظمأ والعطش حتى قام مسرعا إلى غنمه يحلب لهما من هذه الغنم لبنا، ثم شربا. إنها -والله!- نعمة، نعمة الماء البارد؛ ولذا صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله، كما في سنن الترمذي: "إن أول ما يُسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟".
عباد الله: بقي في الإناء فضلة وبقية، فقال عبد الله بن عمر لهذا الغلام: اشرب ما تبقى من الإناء حتى لا يفسده الحر، فامتنع الراعي، فقال ابن عمر: ولم؟ فلم يجد الراعي بدا من مصارحته بحقيقة الأمر، فقال له: إني صائم. سبحان الله! أيصوم في هذا اليوم مع شدة حرارته؟ فأراد ابن عمر -رضي الله عنهما- أن يكشف عن حقيقة صيام هذا الرجل: أهو صيام حقيقي أم صيام ظاهري؟ فقال له: أتصوم في هذا اليوم الشديد الحرارة دونما سبب موجب؟ فقال هذا الراعي، وعليه أمارات الاستغراب: إني أصوم في هذا اليوم اتقاء حر ذلك اليوم.
نعم، هذا هو الصيام الحقيقي الدؤوب، لا الصيام في رمضان فحسب، هذا هو الصيام الحقيقي الدؤوب عن معصية الله -جل وعلا-، صام الناس في رمضان، صلوا في رمضان، تلوا كتاب الله في رمضان، وأين هم الآن من صلاة الفجر؟ هل الله معبود في رمضان فقط؟ هل الصيام عن الذنوب، هل هو في رمضان فحسب؟ ما أدري، كيف أصور حال كثير من الناس بعد رمضان! أأصورهم بتلك المرأة التي كانت تنسج ثيابها ثم تنقض نسيجها؟ (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً) [النحل:92]، ما يليق بك يا مسلم أن تكون كهذه المرأة الحمقاء. ألا تخاف حرارة ذلك اليوم المهول؟.
إذا سبرتَ حال الناس بعد رمضان على شواطئهم، على سواحلهم، رأيت كأن رمضان لم يأتِ عليهم! أرمضان، ذلك الشهر الذي كان السلف الصالح يدعون الله بعده ستة أشهر أن يتقبله منهم، لم يؤثر فينا؟ أهؤلاء هم الذين صاموا، قاموا، تلوا كتاب الله، بكوا من خشية الله؟ ماذا جرى؟ ماذا جرى يا أمة الإسلام؟.
إذا سبرت حال الناس في تلك المواقف كأنهم على هذه الأرض مخلدون، ولكأنهم عليها باقون. أما تذكرنا شدة حرارة ذلك اليوم؟ ما أقسى حرارته! يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "تُدنى الشمس من العباد مقدار ميل". قال سليم بن عامر الراوي: والله ما أدري ماذا يعني بالميل: أمسافة الأرض أم الميل الذي تُكتحل به العين؟ وهبْ أنها مسافة الأرض، أليست هذه المسافة قريبة جدا يتأذى العباد منها من حرارة الشمس؟ ما أعظم هول ذلك اليوم! (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].
من يتقِ الله يُحْمَدْ في عواقبه | ويكفه شر من عزوا ومن هانوا |
من استجار بغير الله في فزع | فإن ناصره عجز وخذلانُ |
فالزم يديك بحبل الله معتصما | فإنه الركن إن خانتك أركانُ |
في ذلك اليوم، والله! لن تنفع صدقة ولا مودة ولا محبة إلا في الله،
فاغفر اللهم ربي ذنبنا | ثم زدنا من عطاياك الجسامْ |
لا تعاقبنا فقد أسهرنا | قلق أسهرنا جنح الظلامْ |
ما أروع هذا الراعي! أصبح يرقب يوم المعاد، يخشى الله يتقيه. بل؛ ما أروع هذا الدين الذي جعل من هذا الراعي إنسانا، رجلا لا يعبأ بشدة الحر، ولا بهوله، لا يهتم بالعطش! إنها ثمرة من ثمرات المراقبة التي نحتاج إليها في هذا الزمن: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ما أحوجنا الحاجة الماسة إلى هذه المراقبة! ما أدري، أصدق فينا قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان!"، أين تلك الجموع؟ أين تلك الوفود التي تتوافد في صلاة الفجر؟ أين تلك الأوراد؟ أين تلاوة القرآن في ذلك الشهر؟ في الصحيحين، قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل". يا مسلم، لا تكن مثل فلان، كان يقوم صلاة الفجر في رمضان فترك صلاة الفجر. يا مسلم، لا تكن مثل فلان، كان يقرأ القرآن فهجر كتاب الله.
عباد الله: أحبّ ابن عمر أن يكشف مرة أخرى عن حقيقة صيام هذا الراعي وعن تقواه، نعم، فحقيقة التقوى لا يكشفها صلاة ولا صيام، وإنما كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال وهو يعظ الناس: "لا تنظر إلى صلاة فلان، ولا إلى صيامه، ولكن انظر إليه إذا حدّث صدق، وإذا اؤتمن أدّى، وإذا همّ بالمعصية ورِع"، فأراد ابن عمر أن يمتحن هذا الراعي امتحانا حقيقيا؛ لم؟ لأن المسلمين، لأن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينتصروا على الأعداء إلا لكونهم مؤمنين حقا، إذا ما قلَّبت صفحات التاريخ من غزوة "بدر" امتدادا إلى معركة "القادسية" و"اليمامة" و"اليرموك"، كان المشركون أضعاف أضعاف المسلمين في العتاد والعدة والعدد، ومع ذلك فقد كانت راية الإسلام خفاقة على كل أرض؛ لم؟ لأن شعارهم دائما، كما قال الشاعر:
إذا ما خلوتَ الدهر يوما فلا تقل | خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة | ولا أنّ ما تُخفي عليه يغيبُ |
هذا هو شعارهم.
في العيد -للأسف!- نرى تلك الحفلات الغنائية الموسيقية، نشاهد تلك الجموع من الشباب على الشواطئ وعلى أماكن الترفيه يتراقصون، يغنّون، بزي أهل الكفر، بزي أهل العهر، سبحان الله! أهذا هو من شكر النعمة؟!.
إخوان لنا في البلاد الأخرى يُصبُّ عليهم من أنواع البلايا، من هتك الأعراض، من زهق الأرواح، من سفك الدماء، ونحن نعصي الله عز وجل سرا وجهارا! نتراقص، نغني، لماذا؟ لماذا لا يكون هذا الوقت الذي يُستفرغ فيه لمعصية الله -عز وجل- أن يُسخر للدعاء لهؤلاء المساكين؟ أين عقولنا؟ ألا نأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء؟ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فقال الذين في أسفلها: لو خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن هم تركوهم هلكوا وهلكوا جميعا، وإن هم أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".
فقال ابن عمر -رضي الله عنهما- مختبرا له، فقال: نحن في مسيس الحاجة إلى طعام، فاذبح لنا شاة. فبدت الحيرة على وجه الراعي؛ لماذا؟ لأن الشياه ليست ملكا له، وما إن لحظ ابن عمر امتناع الراعي أكّد عليه، فقال: شاة نأكل منها، وتأكل منها أنت أيضا. ولما لم يجد الراعي جوابا كشف له عن الحقيقة المخجلة، فقال: إني عبد مملوك، وهذه الغنم ليست لي، وإنما هي لسيدي، فقد أذن لي أن أسقي منها عابر السبيل، ولم يأذن لي أن أذبح منها شيئا.
لكن اعتذار الراعي أعطى ابن عمر مادة حافلة بالمحرجات لمتابعة امتحانه فقال له: أين أنت الآن من سيدك؟ فهو لا يراك، اذبح لنا شاة، وسأعطيك ثمنها. فقال الراعي: وإذا لم يرغب سيدي، فماذا أصنع؟ فقال ابن عمر -رضي الله عنه-: وهل من الضروري أن تخبره؟ فقال الراعي: وماذا أفعل بثمنها؟ قال: تأخذه لك، فقال الراعي: والشاة؟ وسيدي؟ فقال ابن عمر: قل له أكلها الذئب. فقال: يا رجل، أذبح شاةً، وآخذ ثمنها، وأقول: أكلها الذئب؟ قال: أجل، ولن أخبر سيدك بشيء.
ولكن، هل تستطيع أن تستر الأمر عن العليم الخبير الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين؟ هل تستطيع أن تستر الخبر عن الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور؟ أصبح الناس في العيد يجاهرون بالمعاصي محاربة لله. هل هذا هو من التمام؟ هل هذا هو من الكمال؟ أن يقابل هذا الشهر بالذنوب! في الصحيحين، قال -عليه الصلاة والسلام-: "كل أمتي معافى، إلا المجاهرين"، ما هكذا -أمة الإسلام- يكون التمام، الكمال، القبول، كما قال -جل وعلا-: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، نعم، تشكرون الله على نعمة الصيام، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، أي: تتقون محارم الله، فتتقون بهذه التقوى عذاب الله.
من علامة قبول الحسنة أن يتبعها العبد بحسنة، ومن علامة رد الحسنة أن يتبعها العبد بسيئة، هل تستطيع أن تخفي الأمر عن العليم الخبير؟
فما أقبح التفريط في زمن الصبا | فكيف به والشيب للرأس شاعلُ |
ترحلْ من الدنيا بزاد من التقى | فعمرك أيام، وهن قلائلُ |
نعم، عمرك أيام، وهي أيام قلائل: الجلطة، الضغط، السكر، تعطل الكلى، تليف الكبد، السرطان، كلها نذر، كلها نذر، ويا ليت شعري! كيف تكون النهاية؟ أعلى خير أم على شر؟ يا ليت شعري! كيف يكون الختام؟ أعلى طاعة أم على معصية؟ تروم الخلد في دار المنايا؟ تتمنى أن تبقى في هذه الدنيا؟ هيهات هيهات!.
تروم الخلد في دار المنايا | فقد رام مثلك ما ترومُ |
أين نمرود وكنعان ومن | ملك الأرض وولى وعزل؟ |
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم | حيا فما أقرب القاصي من الداني! |
تنام ولم تنم عنك المنايا؟ | تنبَّهْ للمنية يا نؤومُ |
أسأل الله عز وجل أن يرحمنا!.
ابن عمر -رضي الله عنه- جعل يلقي عليه بعض الشبه التي ربما يثيرها الشيطان في بعض ذوي الضمائر العفنة، فقال: إنك إنسان فقير، وصاحبك غني، لا تضره الشاة ولا الشاتان، وهو يستغل جهودك أبشع الاستغلال. وبأسلوب المناقشة التي تعتمد على المغالطة تابع قوله فقال ابن عمر: هبْ أن الذئب عدا على واحدة منها، أفلا يضيع ثمنها؟ فقال الراعي: بلى! فقال ابن عمر: ألستَ أفضل من الذئب؟ فقال: بلى! فقال ابن عمر: إذاً؛ لماذا لا تسارع في إعداد شاة لنا، وسنكتم الأمر بيننا؟ فانفجر الراعي كالبركان الثائر صائحا بأعلى صوته: أين الله؟ أين الله؟.
فوصلت هذه الكلمة إلى قلبي عبد الله بن عمر، وعبد الله بن دينار، فجعلا يرددان هذه الكلمة: أين الله؟ أما اختلجت هذه الكلمة في صدور أولئك الذين يعصون الله، وينسون رمضان، كأنه لا ذكر له، ولا أثر؟ أما ترددت هذه الكلمة في قلبك يا من تركتَ الصلاة؟.
عيدنا مشوب! والله إن عيدنا مشوب! عيدنا يحتاج إلى إصلاح! دخل رجل على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في يوم العيد، وهو يأكل خبزا، فقال له: يا أمير المؤمنين، أتأكل خبزا في هذا اليوم، وهو يوم عيد؟ فقال علي -رضي الله عنه-: اليوم عيد لمن غُفر له ذنبه، اليوم عيد لمن قُبل صيامه، اليوم عيد لمن قُبل قيامه، اليوم عيد، وكل يوم لا نعصي الله -عز وجل- فهو لنا عيد.
نعم، ما كان ينبغي لنا أن ننسى رمضان بهذه السرعة، ما كان ينبغي لنا أن ننساه، وكيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يريد منا أن ننسى هذا الشهر العظيم، بل ربطنا بهذا الشهر، فقال -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر"، هذا هو التمام، هذا هو الكمال، هذا هو قبول الشهر، يا عاقل، يا حصيف، يا رزين، إن كنا نعقل إن كانت لنا حصافة ورزانة.
ما أجمل أن تكون الأمة كلها تخشى الله -جل وعلا- وتراقبه! التفت ابن عمر إلى هذا الراعي يسأل عن سيده ومكانه، فأخبره، فأسرع ابن عمر عائدا إلى مكة يسير في طرقاتها متحاملا على نفسه يبحث عن منزل سيد هذا الراعي، حتى عثر عليه، فاشترى ابن عمر العبد وما معه من الغنم، ثم أشهد الناس أنه أعتق الراعي وأعطاه الغنم.
"أين الله؟"، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: " لقد أعتقته هذه الكلمة في الدنيا، وأرجو أن تعتقه هذه الكلمة في الآخرة"، كلمةٌ توصل إلى مرضات الله -جل وعلا-!
لا تركنن إلى القصور الفاخرهْ | واذكر عظامك حين تمسي ناخرهْ |
فإذا رأيت زخارف الدنيا فقل | يا رب إن العيش عيـــــش الآخره |
أي وربي! إن العيش عيش الآخرة، لا عيش سعدى ولا ليلى، ولا أم سالمِ؛ لا عيش الأفلام، لا عيش المسلسلات، لا عيش الضياع، لا عيش النوم، لا عيش ترك الصلاة، لا تركنن إلى القصور الفاخرة، واذكر عظامك حين تُدفن في قبرك مستوحشا قلقا حيران إن لم يؤمنك الله.
ولا أمان إلا بالعمل الصالح!.
لا تركنن إلى القصور الفاخرهْ | واذكر عظامك حين تمسي ناخرهْ |
فإذا رأيت زخارف الدنيا فقل | يا رب إن العيش عيش الآخره |
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إن ربي كان توابا رحيما.
هذه القصة -عباد الله- ذكرها ابن الأثير، وذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء، وذكرها باختصار ابن حجر في الإصابة، وذكرها الهيثمي باختصار في مجمع الزوائد.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، ذكرنا آنفا موقفا لابن عمر -رضي الله عنهما-، ولكن هناك موقف شبيه بهذا الموقف لأبيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: بينما عمر -رضي الله عنه- يتعسس المدينة إذ أعياه التعب في الليل فاتكأ على جدار بيتٍ، فإذا به يسمع امرأة تقول لامرأة: قومي إلى هذا اللبن، فامزجيه بالماء! فقالت هذه المرأة: يا أمي، ألم ينادِ منادي أمير المؤمنين ألا يُمزج اللبن بالماء؟ فقالت أمها: إنك في موضع لا يراك فيه عمر! فقالت البنت: إذا كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا.
وعمر يسمع هذا الكلام كله، فقال لغلامه أسْلَم: يا أسلم، علِّم الباب، واعرف الموضع. فلما أصبح، قال عمر: يا أسلم، انظر إلى الموضع، ومَن القائلة، ومن المقول لها، فأتى الموضع فإذا الجارية لا زوج لها، وإذا بتلك أمها وليس لهما رجل، فجمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبناءه، وقال: والله! لو كان بي حركة إلى النساء ما سبقني إلى هذه الجارية أحد. فقال عبد الله وعبد الرحمن: لكل منا زوجة، فقال عاصم: لا زوجة لي، فزوجني، فبعث عمر إلى الجارية، فزوجها من عاصم، فتزوجت هذه البنت من عاصم، فولدت هذه البنت بنتا، وولدت هذه البنت غلاما، تُرى، من هو هذا الغلام الذي هو من صلب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؟ تُرى، من هو هذا الغلام الذي جده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؟ إنه عمر بن عبد العزيز الذي عده بعض العلماء خامس الخلفاء الراشدين.
يتحدث السيوطي -رحمه الله- في تاريخ الخلفاء عن موقف لعمر، موقف نبيل عظيم: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أمير المؤمنين يحمل قربة ذات يوم على عنقه، فقيل له: لماذا تفعل هذا؟ فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها.
بل قال أنس -رضي الله عنه-: سمعته ذات يوم، وبيني وبينه الجدار، يقول: بخ بخ! أمير المؤمنين عمر! لتتقين الله أو ليعذبنك. سبحان الله! كلمات تصدر ممن؟ تصدر من رجل يأكل، ويشرب مع الناس، ويمشي بين الناس، وهم يعلمون أنه من أهل الجنة قد أُعطي وثيقة بدخول الجنة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو موقفه: يخشى من الله -جل وعلا-؛ فكيف بنا؟ لا وثيقة بدخول الجنة، لا وثيقة بالبراءة من النار، ومع ذلك ذنوب كثيرة، وأعمال قليلة، وإذا عملنا عملا يسيرا أعددنا أنفسنا في مقام الزهاد والعُبَّاد، سبحان الله!.
"لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك"، لا أستطيع لا أنا، ولا غيري، مهما أوتي من فصاحة، أن يُعبر عن دقائق هذا الموقف إلا إذا أراد أن يفسد معناه، "لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك".
بهذه الاستقامة، بهذه الطاعة، انتصر المسلمون، هذا هو الإيمان الذي اجتاز الحدود، هدّم السدود، وحطَّم القيود.
أتطلبون من المختار معجزة | يكفيه شعب من الأموات أحياه |
إنها الاستقامة التي تحصل بها السعادة. هل المادة، هل الأموال، هل النوم، هل الضياع، هل ترك الصلاة، يجلب السعادة؟
ولست أرى السعادة جمع مال | ولكن التقي هو السعيدُ |
ولكن أقول:
حاسبت نفسي لم أجد لي صالحا | إلا رجائي رحمة الرحمن |
ووزنت أعمالي عليّ فلم أرَ | في الأمر إلا خفة الميزانِ |
وظلمت نفسي في أموري كلها | ويحي إذاً من وقفة الديَّانِ |
يا ربِ إن لم ترضَ إلا ذا تقى | من للمسيء المذنب الحيرانِ |
أنا العبد المقر بكل ذنب | وأنت السيد المولى الغفور |
فإن عاقبتني فبسوء فعلي | وإن تغفر فأنت به جديرُ |
أسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى في هذه الساعة، ولعلها أن تكون ساعة مستجابة، أسأله -جل وعلا- أن يتقبل منا صيامنا، وقيامنا، وسائر أعمالنا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار، وأن يجعلنا من أهل الجنة الفائزين في الدار الآخرة.