القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | الشيخ د عبدالرحمن السديس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ها أنتم أُولاء تُودِّعون عامًا انقضَت منه الأيامُ والشهور، وغدَا في أُفولٍ ودُحور، قد جفَّت فيه الصُّحف والأقلام، والله أعلمُ بما كان فيه من صالحِ الأعمال أو الآثام. فهنيئًا لمن أحسنَ واستَقام، وواأسفَاه لمن أساءَ واحتقَبَ السوءَ والإجرام، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدُك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليك، ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه، سبحانك وبحمدِك، لا نُحصِي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسِك.
لك الحمـدُ يا مـن شُكرُنا له يقصُرُ | وتسمعُ نجـوانا الغداةَ وتُبصِرُ |
لك الحمدُ ما ترضَى لك الحمدُ دائمًا | على النِّعم الكُبرى وما أنت تغفِرُ |
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل خِلفةَ الأعوام عبرةً لمن أراد في الخير استِباقًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أورقَ الاتِّعاظَ بالزمن في هديِه إيراقًا، فكان التزكِّي في الأمة خفَّاقًا، صلَّى الله عليه، وعلى آله الطيبين أصولاً الزَّاكين أعراقًا، وصحبِه البالغين من التذكُّر قِممًا طِباقًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن أُفعِمَت نفوسُهم بالجِنان أشواقًا، وسلِّم يا رب تسليمًا شذِيًّا طيبًا رقراقًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: خيرُ المقام الذي وعظَ وكفَى، وأصابَ الحقَّ وما جفَا: تقوى الله في السرِّ والخفَا، ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلَموا أن دُنياكم دارُ ممرٍّ وارتِحال، سريعةُ التقضِّي والزوال، وحقيقتُها كسرابٍ وآل، وكل من فيها إلى انتِقال، إما إلى نعيمٍ وحُسن مآل، وإما شقاءٍ ووَبال، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
وخيرُ الزاد تقوى الله فاعلَم | وشمِّر واعدُ عن قالٍ وقِيلِ |
فتقواه غِنَى الدارَين فـالزَم | فذاكَ العِزُّ للعبـد الذَّليلِ |
أيها المسلمون: في هذا الزمان المُضطرِم بتبارِيح الماديَّات ومُفتَّحاتها، وانغِماس النُّفوس في سُجُفِ الغفلة واعتِلالاتِها، وانتِفالها عن الآيات الواعِظات وإشراقاتها تشرئِبُّ النفسُ السويَة للتذكير بعِبرٍ من القول صادِعة، ومُوقِظاتٍ من الحقِّ رادِعة، تُنيبُ جرَّاءَها القلوب، وتتزكَّى دون الغفلة والحُوب، وتُعاوِدُ الأفئدةُ الخشية وإليها تؤوب.
ومن ذلكم -يا رعاكم الله-: آيةُ تعاقُب الشُّهور والأعوام، وتصرُّم الساعات والأيام، واختِرام الأعمار والآجال دون بلوغ الرَّغائِب والآمال، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44].
أمة الإسلام: ها أنتم أُولاء تُودِّعون عامًا انقضَت منه الأيامُ والشهور، وغدَا في أُفولٍ ودُحور، قد جفَّت فيه الصُّحف والأقلام، والله أعلمُ بما كان فيه من صالحِ الأعمال أو الآثام.
فهنيئًا لمن أحسنَ واستَقام، وواأسفَاه لمن أساءَ واحتقَبَ السوءَ والإجرام، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
روى البخاري والترمذي من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكِبي، فقال: "كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ".
وذلك دليلٌ -يا عباد الله- بأن العُمر -لا محالة- إلى أُفولٍ ودُثور، وانقِطاعٍ وغُبور.
فالحذرَ الحذرَ -عباد الله- من الرُّكون لدار الزَّيف والغُرور، فما أنت إلا فيها مُرتحِل، وعنها مُنتقِل، فيا من هو في أحلام الغفلة والسِّنَة، والعُمر يكِرُّ عليه سنةً إثرَ سنة، ولا تزالُ مُفرِطًا في جحودِك، مُغرِقًا في شهودِك. كم أهدرتَ من شهورٍ وأعوام، وبدَّدتَها في اللهو والأوهام. كم شُرورٍ أصبتَها؟! كم واجِباتٍ تركتَها؟! كم حقوقٍ أضعتَها؟!
ربَّاه ربَّاه، لأي ساعةٍ -أيها المسلم- أخَّرتَ توبتَك؟! ولأي زمانٍ أجَّلتَ أوبَتَك، (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 11]. تقرِضُ الأيامُ عُمرك قرضًا، وأملُك يمتدُّ طولاً والحِمامُ يبغَتُك عرضًا:
تفـتُّ فـؤادَك الأيامُ فتًّا | وتنحِتُ جسمَك الساعاتُ نحتًا |
وتدعُوك المَنُون دُعاءَ صدقٍ | ألا يا صاحِ أنت أُريدُ أنـت |
فكم ذا أنت مخدوعٌ وحتَّى | متى لا ترعَوِي عـنهـا وحتَّى |
فيا سُبحان الله -عباد الله-، كم هو عجيبٌ حالُ الإنسان، يُؤمن بالموت ثم ينسَاه، ويُوقِنُ بالتفريط ويغشَاه. كم يغترُّ بالصحة والعافية، ويرفُلُ عن مثُلاتٍ لا تزالُ أمامَه باقِية؟!
يعتلِقُ دُنيا قُلعَةً قصيرةً ذات غِيَرٍ مريرة، شهدُها مشفوعٌ بإبَر النَّحل، ورُطَبُها مصحوبٌ بسُلاَّء النَّخل، وابنُ آدم المغرور لا يزالُ لها جمعًا ومنعًا، ولا يُطيعُ فيها ناصِحًا قبولاً ولا سمعًا، يومئذٍ ما أحزنَك -أيها المُفرِّط- على شيطانٍ أطعتَه، وزمانٍ نفيسٍ أضعتَه، وهوًى ابتعتَه، وحقٍّ تنكَّبتَه وما اتَّبعتَه، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30].
فيا أيها المؤمنون: السعيدُ من ادَّخَر من دُنياه لنفسِه، وعمِلَ صالحًا في يومِه وأمسِه، واستعدَّ لحِسابِه ورمسِه، وخشِيَ أهوالَ يوم القيامة ودُنُوِّ شمسِه.
فازهَد بقلبِك في الدار التي فتنَت | طوائِفًا فرأَوها غايةَ الطلبِ |
تنافَسُوهـا وأعطَـوها قوالِبَهم | مع القلوبِ فيا للهِ من عجَبِ |
إخوة الإيمان: وأنتم تُودِّعُون عامًا، وتستقبِلُون عامًا، تُوبوا إلى الله توبةً نَصوحًا صادقةً، بالإخلاص والنَّدم وادِقة. حاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وزِنُوا أعمالَكم قبل أن تُوزَن عليكم، وتساءَلوا عن عامٍ كيف أمضَيتُموه، وفِيمَ قضَّيتُموه؛ لاستِدراك ما فاتَ فيما هو آت.
وايْمُ الله! إن الكيِّسَ لمن راقبَ أنفاسَه وعاتبَها، وراقبَ حواسَّه وحاسبَها؛ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزولُ قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عُمره فيمَ أفنَاه، وعن شبابِه فيمَ أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه، وماذا عمِلَ فيما علِم". أخرجه الترمذي.
فالمرءُ مشهودٌ عليه من ذاتِه، ومسؤولٌ عن مُخالفاته وحسنَاته، وعما اكتسبَ في دقائِقِه وأيامِه، وشهوره وأعوامِه، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13، 14].
فالباقيات الصالحاتُ ذخائرٌ | وبها نُجازَى في الخُلـود ونُجذَلُ |
والفوزُ كل الفوز طاعةُ ربِّنا | من حيثُ يُبلَسُ من عصَاه ويُخذَلُ |
معاشر المسلمين: ومع إشراقَة فجر العام الجديد، ومع ما تُكابِدُه أمتُنا من معرَّة التفرُّق عبَالِيد، وما تُسامُ به من بأسٍ من الظالمين حديد، وبطشٍ بإخواننا عنيد، وتربُّصٍ من الأعداء فريد؛ لزِم التأكيدُ على أنه لا عِزَّ ولا نصرَ ولا تمكينَ للأمة إلا بالتمسُّك بعقيدتها، واستِنهاضِ كل القِيَم الأخلاقية التي أمرَ الله بها.
ومع كل التحديات المُعاصِرة؛ فإنه يجبُ على أمتنا تحمُّل مسؤوليَّاتها الدينية والتاريخية تِجاه عزِّ دينِها، وأمن بلادِها، وتعزيز وحدَة صفِّها، واجتِماع كلمتِها، والتعامُل مع غيرِها بالحِكمة والتسامُح والحِوار، لا غُلوَّ ولا جفاءَ ولا تجبُّر ولا رفضَ للغير مُطلقًا.
فالحكمةُ ضالَّةُ المُؤمن أنَّى وجدَها فهو أحقُّ بها، والنظرُ في مصالِح الأمة الكُبرى ورعايةُ حقوق الإنسان والشعوب، وتجنِيبُها وَيلات الفتن والحُرُوب، وإحقاقُ الحقِّ، وإرساءُ العدل، وصَونُ الحريَّات، وحقنُ الدماء، والحِفاظُ على الأمن والسِّلم الاجتماعيِّ؛ ليتحقَّقَ الأمنُ والسِّلمُ العالميُّ.
حتى لا يفقِدَ العالمُ أملَه في الأمن والسلام، وثِقتَه في المُنظَّمات والهيئات الدولية، وأهمية إصلاحِها إصلاحًا شاملاً؛ لتتمكَّن عمليًّا من أداء واجِباتِها، وتحمُّل مسؤوليَّاتها.
في بُعد عن الانتِقائيَّة، وازدِواجيَّة المعايِير، والكَيل بمِكيالَيْن؛ باعتِزازٍ وشُموخٍ بالتمسُّك بثوابِتنا وأُصولِنا، وعدم المُساوَمة والمُزايَدة عليها، في قضايا السِّلم والحرب، والسياسة والاقتصاد، والمرأة والمُجتمع، وتحقيق الوسطيَّة والاعتِدال، ونَبذِ التعصُّب والعُنف والتمييز والكراهِيَة، ورفع الظُّلم والتسلُّط والجَبَروت، وعلاجٍ لمُشكلات الجهل والفقر والمرض والبَطالَة، والفُرقة والاختلاف، وإعزازٍ للعلوم والمعارِف والحضارَة، والجديَّة والإنتاجِ والإعمارِ والنماء، والوحدة والوِئام والبناء.
واستِثمار وسائل العصر وتِقاناته، ومواقع التواصُل الاجتماعي فيما يُفيد الأمة، ويخدم الدين، ويُوحِّدُ الأوطان ويُحافظُ على أمنها واستِقرارها، ويُبعِدُها عن استِهداف المُغرِضين والشَّانِئين والحاقِدين والمُتربِّصين، والتدرُّع بنأَمَة الأمل الباسِمِ البتَّار، والتحصُّن بكتائِبِ التفاؤُل والاستِبشار، ودَحرُ فُلول القُنوطِ واليأس المِغوار.
وليكن منا الشِّعارُ والدِّثار: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، وليكُن خفقُ قلوبنا وملءُ درُوبِنا الاستِنصارَ بالواحد القهَّار، (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
ألسنَا بنصر الله في كل موطِنٍ | وُعِدنا ووعدُ الله حـقٌّ مُحتَّمُ؟! |
بلَى، ما نصرنا اللهَ فهو نصيرُنا | وما شاءَ يُمضِي في البرايا ويحكُمُ |
فيا أحبَّتنا في فلسطين الجَريحة، وفي أكنافِ بيت المقدِس والمسجد الأقصَى المُبارَك: أبشِروا بانقِشاع الكَرب والحرَج، وأمِّلوا التمكينَ والفرَج.
ويا أحبَّتنا في بلاد الشام: أبشِروا بالنصر المُؤزَّر التام، وإن خانَكم الظلمةُ اللِّئام، ونشرُوا التدميرَ والإجرام.
ويا إخوتنا في بُورما وأراكان: أبشِروا بانفِراج الغسَق؛ فإن وعدَ الله حقٌّ، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
وهَتفةٌ مُمِضَّةٌ حرَّى، وعطفةٌ من دِيار الحرمين وَطفاء، وهي رائِدَةُ المواقِف البطوليَّة الشمَّاء، نُرسِلُها إلى أحبَّتنا المُضطَهَدين في دينِهم والمظلومين في كل الأنحَاء، والمُشرَّدين والمكلُومين في كل الأرجَاء، مُردِّدين مُؤكِّدين:
إن سهِدتُم فنحن عينٌ وجفنُ | أو سعِدتُم فسعدُنا مقسومُ |
فرَحُكم فرَحُنا حِماكُم حِمانا | واجِدٌ فاقِدٌ صحيحٌ سقيمُ |
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّة المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، ألا إن الله هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله لم يزَل فضلُه مِدرارًا وضَّاحًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -سبحانه- جعلَ من تعاقُب الملَوَين عِبرةً تُفحِمُ القلوبَ انشِراحًا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بلَّغ رسالةَ ربِّه غُدوًّا ورواحًا، فكانَت للعالمين رحمةً وعِزًّا صُراحًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه الباذِلين للجِنان مُهَجًا وأرواحًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حقَّ التقوى، واعتبِروا بانقِضاء الأعمار، وانمِحاء الآثار، وعليكم بالمُراجَعة والمُراقبَة، قبل فُجاءَة المُحاسَبة ونُزول المُعاقَبَة.
معاشر المؤمنين: ومن الأحداث التاريخيَّة الخالِدة، الزاخِرة بالعِبَر الطارِفة والتالِدة، المُستكِنَّة في العام الهجريِّ الوليد: حدثُ الهِجرة النبوية المُبارَكة، وإنه لحدثٌ لو تعلَمون عظيمٌ جلَل، ونموذجٌ فذٌّ في صِناعة التفاؤُل والأمل. الأمل في نصر الله وإن طالَ مَدَاه، الأمل في التمكين وإن اشتدَّ المُتربِّص في عِداه، الأمل في اندِحار الطُّغيان وإن أصمَّ صداه، الأمل في المُستقبَل المُشرِق للإسلام وإن تأخَّر فجرُه وضُحاه، ونُورُه وسَنَاه.
وكذَا الأُنموذجُ الفريدُ في ترسُّخِ حُسن الظنِّ بالله ألا مُغيثَ ولا مُجيرَ ولا نصيرَ إلاَّه، يتجلَّى ذلك في قول المُصطفى الواثِق بربِّه: "يا أبا بكر: ما ظنُّك باثنَين اللهُ ثالِثُهما". في استِلهامٍ لمعانِي القوة في قوة المعاني، وسلامة الدين والبلاد والمغانِي.
فالظنُّ بالله مـولانا وسيِّدنا | ظنٌّ جميلٌ مع الأنفاسِ يزدادُ |
نرجُوه يرحمُنا، نرجُوه يستُرُنا | فمنه للكل إمـدادٌ وإيجادُ |
ندعُوه نسألُه عفـوًا ومغفرةً | مع حُسن خاتمةٍ فالعمرُ نفَّادُ |
فيا أحبَّتنا الكرام: ومِسكُ الخِتام: اتقوا الله في عامِكم الجديد، وسِيرُوا إلى الله قبل أن يُسرَى بكم، وأطيعُوا من أرادَ الخيرَ واليُسرَ بكم، وأجهِدوا أنفسَكم في الطاعاتِ والقُرُباتِ فعلَ كادِحٍ غير مَلُول، وامتَطُوا لغُفران البارِي ومرضَاتِه كلَّ صعبٍ وذَلُول؛ تفوزوا بالجِنان والمِهاد الأوثَر، وترِدُوا -يا بُشراكم- السَّلسَبيلَ والكوثر، وتُحقِّقُوا -بإذن الله- النصرَ والتمكين، والعزَّ المَكين، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على النبي المُصطفى الأوَّاب، كما أمرَكم المولَى الكريمُ التواب في مُحكَم الكتاب، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".
علـيه أزكَى الصلاة دائمةً | تكِرُّ كرَّ الشهور والحِجَج |
والآلِ والصَّحبِ ما همَا مُزنٌ | وسارَت الجارِياتُ في الثَّبَج |
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وحبيبِنا وقُدوتِنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائِه الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابَة أجمعين، وعن الطاهرات زوجاتِه أمهات المُؤمنين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الكفرَ والكافرين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً وسائر بلاد المُسلمين.