الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن ناصر الزاحم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
محاسن الأخلاق أساس من أسس كمال الإيمان، ومظهر من مظاهر الإسلام، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" رواه أبو داود، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ" رواه مسلم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى.
معاشر المؤمنين: لقد أشرقت الأرض بنور الإسلام، وأضاءت ببعثة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، فما من شيء تدعو إليه الفطر السليمة والعقول الحكيمة إلا دعت إليه ورغبت فيه، وما من شيء ترفضه العقول السليمة والطباع المستقيمة إلا وقد نهت عنه وحذرت منه.
جاءت بالدعوة إلى تزكية النفوس، وتقويم القلوب، وإصلاح الباطن والظاهر والخلق والسلوك،
رسالة تدور كلها مع أزكى السجايا، وأنبل الطباع، وأحسن الأخلاق، وأصلح الخصال.
عباد الله: يقول الله -سبحانه وتعالى- مقررا مبدأً من مبادئ محاسن الأخلاق القولية: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، ويقول -سبحانه- مؤصلا لمبدأ محاسن الأخلاق الفعلية: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون:96]، ويقول: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]، ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ" رواه أحمد بسند صحيح.
إخوة الإسلام: محاسن الأخلاق أساس من أسس كمال الإيمان، ومظهر من مظاهر الإسلام، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" رواه أبو داود، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ" رواه مسلم.
إن الالتزام بمحاسن الأخلاق سبب في رفع الدرجة وعلو المكانة وسمو القدر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ" حسنه الألباني، وفي صحيح مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا".
والمؤمن بحسن خلقه يدرك منازل السعداء الفائزين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله، وحسن الخلق" رواه الترمذي وصححه، وحسنه الألباني، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ" صححه الألباني.
والاتصاف بمحاسن الأخلاق وكريم السجايا سبب عظيم لمرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحبكم إليّ وأقربكم مني في الآخرة أحاسنكم أخلاقا" رواه ابن حبان في صحيحه.
بل إن لمحاسن الأخلاق تأثير على الميزان عند الحساب، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ" رواه أبو داود.
عباد الله: لقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بوصية جامعة للخيرات، ولها من الثمرات ما لا يحصيه إلا الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
معاشر المسلمين: إن مفهوم محاسن الأخلاق مفهوم واسع وشامل في نظر الإسلام، فهو يعني سلوك كريم الخصال، ونبيل الطباع، وحميد السجايا، وهي بذل المعروف وكف الأذى قولا وفعلا.
وجمع بعضهم بعض علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، كثير العمل، قليل الزلل والفضول، براً وصولاً، وقوراً صبورا، شكورا راضيا، حليما رفيقا، عزيزا شفيقا، بشاشا هشاشا، لا لعانا ولا سبابا، ولا منانا ولا مغتابا، ولا عجولا ولا حقودا، ولا بخيلا ولا حسودا، يحب في الله ويبغض في الله، ويرضى لله ويغضب لله.
أيها الأحباب: قد يكون الإنسان مجبولا على بعض الأخلاق الحسنة، وما لم يكن مجبولا عليها فإنه يستطيع نوالها بالاكتساب والمجاهدة، فالأخلاق قابلة للتعديل والتقويم، قال الماوردي -رحمه الله-: "الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتقهر بالاضطرار".
فعلى المسلم أن يجاهد نفسه في تهذيب أخلاقه وتقويمها، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقه" رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "...وَاهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ" رواه مسلم.
معاشر المؤمنين: إن التمثل بمحاسن الأخلاق في الإسلام يشمل أحوال المسلم كلها، صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، وهي منهج متكامل تقوم عليها فطرة الحياة كلها.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بأحسن الأخلاق، والتمسوا أكرم المقال والفعال، تنالوا الخير وجزيل الثواب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
عباد الله: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة للأخيار والصالحين، بعثه الله ليتمم من الأخلاق مكارمها، فكان -صلوات الله وسلامه عليه- إمامها وهاديها، وأقسم له ربه من فوق سبع سماوات أنه قد حاز أفضلها وأشرفها وأعظمها، فقال -جل وعلا-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
كان -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس أدبا, أشدهم خشية وخوفا من الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِى" رواه مسلم، ومع ذلك قام -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل حتى تورمت قدماه من القيام، وصام النهار فما مل ولا سئم، بل واصل الصيام.
كان -صلى الله عليه وسلم- دائم البِشر، طليق الوجه بالسرور، قال جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-: "مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي" رواه مسلم.
كان يرحم الصغير والكبير، ويعطف على الجليل والحقير، قال أنس بن مالك -صلى الله عليه وسلم-: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي: أف! ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟" رواه البخاري.
وكان -صلى الله عليه وسلم- جوادا كريما، فقد كان أجود بالخير من الريح المرسلة، ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء قط فقال لا"، وقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين" رواه البخاري
.لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وكان يعطي الشاة والبعير وما في بيته صاع من شعير.
كان -صلى الله عليه وسلم- برا بالعباد، رحيما بهم، رحيما في دعوته، رحيما في توجيهه وحكمته، رحيما بالأمة حتى في إمامته وصلاته، كان يدخل الصلاة يريد أن يطولها فإذا سمع بكاء الأطفال أشفق على الأمهات فخففها. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَرِيضَ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ" رواه مسلم.
كان يصلي في الفجر بالستين والمائة آية، فلما دخل ذات يوم يريد أن يطول فسمع بكاء صبي فقرأ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، فذُكر ذلك له فقال: "إني سمعت بكاء صبي في مؤخر الصفوف، فأحببت أن تفرغ إليه أمه"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لأَدْخُلُ الصَّلاَةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ" رواه مسلم.
عباد الله: لقد كان -صلى الله عليه وسلم- متواضعا بين أصحابه يدخل عليهم الغريب فلا يعرفه من بين الصحابة من تواضعه -صلى الله عليه وسلم- ، وكان السائل يقول: أيكم محمد؟.
ما كان جبارا ولا فظا ولا صخابا ولا لعانا، ولكن كان رحمة للعالمين -صلى الله عليه وسلم-، كان رحيما بالأحياء والأموات، فكان إذا جن عليه الليل خرج إلى بقيع الغرقد فوقف على قبور المؤمنين والمؤمنات وسأل ربه بصالح الدعوات أن يسبغ عليهم شآبيب الرحمات.
توفيت امرأة سوداء كانت تقم المسجد فلم يشهدها -صلى الله عليه وسلم- فخرج إلى البقيع وقام على قبرها وصلى عليها ودعا لها وقال: "إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاَتِى عَلَيْهِمْ" رواه مسلم.
أما مع أهل بيته -صلى الله عليه وسلم- فهو خير الأزواج وأبرهم وأفضلهم صلوات ربي وسلامه عليه، فكان إذا دخل من الباب لا يدخل على وجهه؛ لئلا يتخون أهله، بل كان يدخل من أحد طرفي الباب، وإذا دخل إلى بيته -صلى الله عليه وسلم- ملك قلوب أزواجه بالعطف والإحسان، وبالرحمة والحنان.
ما عاب -صلى الله عليه وسلم- طعاما وضع بين يديه، ولا سب امرأة ولا شتمها ولا ضربها ولا أهانها، وإذا جاءت زوجه بالشراب أقسم عليها أن تشرب قبله، فإذا شربت من الإناء وضع فمه حيث وضعت فمها، وإذا أتته بالمرق والعظم فيه اللحم أقسم عليها أن تنهش منه قبله فإذا نهشت منه وضع فمه حيث وضعت فمها، فما أكرمه! وما أحلمه! وما أرحمه -صلى الله عليه وسلم-!.
دخل أعربي المسجد والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، فرفع الأعرابي ثوبه ليبول، فقام الصحابة ينهرونه ويمنعونه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُزْرِمُوهُ"، رحمة وشفقة منه -صلى الله عليه وسلم- عليه حتى قضى حاجته، فأمر بذنوب من ماء يصب على بوله، ثم دعاه فوجهه وعلمه وأرشده.
عباد الله: هذا قليل من كثير من سيرة البشير النذير، فما أحوجنا أن نملأ قلوبنا بمحبته، وما أحوجنا أن نربي على هذه السنة والأخلاق الكريمة أنفسنا وأبناءنا، وتظهر آثارها علينا في كل حياتنا.
اللهم ارزقنا محبة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- واتباعه، والتمسك بسنته، ونسألك اللهم أن تحشرنا تحت لوائه وفي زمرته، وأن توردنا حوضه فنشرب من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
عباد الله: صلوا وسلموا على محمد بن عبدالله المبعوث رحمة للعالمين، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].