الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | زيد بن مسفر البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
عشرون يوما ولم يتمكنوا من التوغل والسيطرة على غزة، مع أنها من حيث الأرض الجغرافية لا تعد شيئا، لأن الله قذف في قلوبهم الرعب، ماذا قال -سبحانه وتعالى- عن تلك الطائفة المهاجرة لما هاجرت من مكة؟ وكيف نصرها في يوم بدر؟ (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ)، لكي تُظهروا للأمم قوتكم وجبروتكم؟ لا! (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26]، هذا هو المغزى، الرجوع إلى الله، الإيمان بالله، التمسك بشرع الله...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، يقال في اللغة: إن الأرض التي أصابها المطر تسمى بـ "الأرض المنصورة"، فأي أرض حلَّ بها المطر، فهي عند اللغويين تسمى بالأرض المنصورة، فدلت كلمة "النصر" على إقبال الخير وإدبار الشر.
إن مما يجري في هذه الأيام التي مضت على إخواننا في فلسطين، مضى عشرون يوما وهم تحت الحصار وهذا القصف وذلك القتل، إن ما مضى أعده نصرا، إذ صمدت تلك الطائفة المتجردة عن المال، عن السلاح، عن العتاد، عن الطعام، عن الشراب، عن المأوى، عن العلاج، أمام تلك الترسانة الفاجرة، وما هذا إلا نصر، حتى لو رأيتهم كلهم قد تفانوا وذهبوا كلهم، فإن هذا نصر من الله -سبحانه وتعالى-، إذ عجزت تلك القوة أن تبيد هذه الطائفة القليلة، نعد هذا نصرا لنا.
قال تعالى: (وَأُخْرَى)، أي: ويؤتكم نعمة أخرى، (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)، النصر قريب، الفتح قريب، ما ختام الآية؟ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:13]، فليستبشر كل مؤمن بما يجري، وإن كان هذا مما يؤلم ويؤذي المشاعر حينما نرى إخواناً لنا يقتَّلون ويزهقون وتهدم عليهم المباني، كل ذلك مما يؤذي، ولكن؛ إذا رأيت ذلك الصمود تعده بشرى من الله.
ولتعلموا -عباد الله- أن سنة الله أن أي دولة ظالمة أوقعت ظلمها وفجورها ونيرانها على دولة مظلومة أو على طائفة مظلومة لا يَدَ لها ولا جناح، فإن الله -سبحانه وتعالى- سينتقم منها عما قريب، حتى ولو كانت تلك الدولة المظلومة كافرة، وتلك الدولة الظالمة هي المؤمنة، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في الفتاوى، يقول: "إن الله لينصر الدولة المظلومة على الدولة الظالمة ولو كانت تلك الدولة الظالمة مؤمنة"، فهي سنة الله.
لما تكالب الأعداء على نبي الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء:70]، (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات:98].
ذهبت إمبراطوريات وُجِدت على هذه الأرض، الإمبراطورية الإسلامية ذهبت، لما ضيعت أمر الله تخلى الله عنها، كانت لنا إمبراطورية! لكن لما ضُيِّع أمر الله ضاعت تلك الإمبراطورية، وعلى هذا فقس، ما ترونه من إمبراطورية لهؤلاء اليهود ولمن يشايعهم ويؤيدهم فإنها عما قريب ستنتهي وستضمحل من هذا الوجود، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: لما أتى أعرابي ومعه قعود، فجرى سباق بين هذا القعود الذي هو للأعرابي وبين ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- العضباء، وكانت العضباء لا تُسبق، فسبقها هذا القعود للأعرابي، فشق ذلك على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فماذا قال -عليه الصلاة والسلام-؟ قال: "حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه".
ما تراه من علوٍ وزهوٍ وكبرياء وغطرسة من إمبراطورية هذا العصر، اعلم بأن هذا أوان زوالها، وعنوان فنائها بإذن الله -سبحانه وتعالى-.
لكن؛ ما الواجب علينا تجاه إخواننا؟ أن ننصرهم، هذا هو الواجب علينا. قد يقول قائل: لا أملك شيئا، لا أملك إلا الدعاء! نقول: ونِعم ما تملك! الدعاء به تُفتح أبواب النصر، الدعاء سلاح المؤمن، لكن؛ هل نحن أخذنا بهذا الدعاء وتمسكنا به في نصرة إخواننا؟ هل نحن محافظون على هذا الدعاء؟ هل نحن مستشعرون ما يجري لإخواننا فتنطق ألسنتنا بالدعاء لهم ليل نهار، صباح مساء، في كل وقت وفي كل حين؟ كلٌ منا يسأل نفسه! (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد:7].
قاعدة: إن خذلتم الله خذلكم الله، الله -جل وعلا- ليس بحاجة إلى نصرتنا، كلا! (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:6]، (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر:7].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد:7]، كيف تتم نصرة الله؟ تتم نصرة الله بحفظ حدوده، ومراعاة أوامره، والانتهاء عن زواجره، ومن بين ذلك كله أن ننصر إخواننا كلٌ على حسب وسعه، وكلٌ على حسب طاقته، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، وإلا، فالله غني عنا: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ)، هو -عز وجل- يعلم قبل أن يخلقنا مَنْ ذا الذي سينصره ومن ذا الذي سيخذله، ولكن هذا العلم المذكور هنا في هذه الآية هو علم يترتب عليه الجزاء والحساب لك أنت يا عبد الله، (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ)، ختام الآية: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد:25]، ليس بحاجة إلى قوتك ولا إلى عزك، فهو القوي الغالب الممتنع الذي لا يُنال بسوء، (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
ولذلك ظفرت تلك الطائفة بمنقبة سطَّرها التاريخ لهم، مَنْ هم؟ مَنْ كان ساكنا في المدينة، الأوس والخزرج، لما كانت اليهود تقول سيخرج في هذا الزمان نبي نتبعه ثم نقاتلكم، (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ)، (الَّذِينَ كَفَرُواْ)، الذين كفروا في هذه الآية هم الأوس والخزرج قبل أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89].
فظفرت تلك الطائفة بنصرة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حتى غلبت تلك الصفة عليهم، فكأنه اسم لهم، حتى إذا ذُكِر قيل: (هذا أنصاري)، غلب الاسم عليه، مع أنها صفة؛ لأنهم ناصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك أشاعها وأذاعها ونشرها رِفعة لهؤلاء، أشاعها مَنْ؟ وأذاعها من؟ وبثّها من؟ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه- كما في المسند، وأصله في الصحيحين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو سلكت الأنصار واديا أو شعبا وسلك الناس واديا أو شعبا لسلكتُ وادي وشعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"...
لا تخف، إذا قمت بأمر الله لا تخش من أحد مهما كانت تلك القوة لدى ذلك الغير، وخصوصا إذا ادلهمت الخطوب، واسود ظلام الليل، وأحيط بالمسلم من كل جانب، وضُيّق عليه من كل طريق، وكان وحيدا فريدا ليس له مناصر ولا معين، فمعك قوة، قوة مَنْ؟ قوة الله.
اسمع، ماذا قال -جل وعلا- لنوح -عليه السلام-؟ (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر:10]، تأمل معي: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ)، لم يقل نوح -عليه السلام-: إني مغلوب فانصر! كلا! قال: (فَانتَصِرْ)، يعني انتصر لنفسك، انتقم لنفسك يا الله، لأنني أوذيت حينما أمرتهم بأمرك يا الله، فانتصر لنفسك يا رب، فكذلك مَنْ رفع شعائر الله فلا يخشى من أحد ولو كان ذلك الغير من أقوى ما يكون.
فالتناصر -عباد الله- من ضروريات حياة الأمة وبقائها حتى لا تنكشف ساحة المسلمين للأعداء، فبالتخاذل تنكشف الساحات ويهيمن العدو ويتسلط، وتكون الدول الإسلامية لقمة يلتقمها متى شاء وأنَّى شاء، فأين نصرتنا؟ إن كنت لا تملك إلا الدعاء فأنعِم به من سلاح.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في سنن النسائي من حديث معاوية بن حيدة: "كل مسلم محرَّم على مسلم، أخوان نصيران"، يعني: لا يجوز لك بأي حال من الأحوال أن تتعدى على حرمة أخيك في مال أو في عرض أو في ما شابه ذلك.
ثم إذا وقع أخوك في مصيدة عدو ورأيته ممتهنا ذليلا، أين نصرتك؟ "أخوان نصيران"، بقاء الأمم لا يمكن إلا بالتناصر.
ولذلك، لأهمية التناصر، أخذ الله -سبحانه وتعالى- على جميع الأنبياء أن مَنْ أدركته الحياة ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بُعث أخذ عليه أن ينصره: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ) [آل عمران:81].
دع عنك تلك القوة، وتلك الترسانات، وتلك الأسلحة، إن عُدنا إلى الله عاد إلينا كل خير وذهب عنا كل شر، (بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران:150]، إذاً، ما قدرتي وما قوتي أمام تلك القوة الهائلة؟ اسمع إلى ما بعدها: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [آل عمران:151].
عشرون يوما ولم يتمكنوا من التوغل والسيطرة على غزة، مع أنها من حيث الأرض الجغرافية لا تعد شيئا، لأن الله قذف في قلوبهم الرعب، ماذا قال -سبحانه وتعالى- عن تلك الطائفة المهاجرة لما هاجرت من مكة؟ وكيف نصرها في يوم بدر؟ (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ)، لكي تُظهروا للأمم قوتكم وجبروتكم؟ لا! (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26]، هذا هو المغزى، الرجوع إلى الله، الإيمان بالله، التمسك بشرع الله، يحصل منه كل خير، وإلا فكما قال -تعالى-: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)، ما الآثار؟ (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، ختام الآية: (وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40]، قوي، غالب، ممتنع، لا ينال بسوء -جل وعلا-.
ومن نصر إخوانه ووقف معهم فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصيبه خزي أو ذل أبداً، مَن يفعل الخير لا يعدم جوازيه، في الصحيحين: "لما أتى جبريل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوحي ورجع إلى أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- وفُؤاده يرتجف"، ماذا قالت له لما قال: "خشيت على نفسي"؟ قالت: "كلا! والله لا يخزيك الله أبدا!"، لم؟ "إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".
محبة الله، ولاية الله التي بها يتحقق النصر، تكون بالمناصرة، في مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -تعالى-: حقّت محبتي للذين يتناصرون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي"، إذا أحبك الله، أيمسك سوء؟ كلا والله! "مَنْ عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
وعلى العكس من ذلك، لو أن الأمة تخاذلت أو أن الفرد تخاذل عن نصرة أخيه، كيف يكون حاله؟ اسمع إلى ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند أبي داود من حديث أبي أيوب -رضي الله عنه-، والله أخشى أن يكون ما يجري محل اختبار لنا نحن، وعلامة هلاك لنا نحن ليس لأولئك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ مسلم يخذل مسلما في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يُحب نصرته فيه، وما من امرئ مسلم ينصر مسلما في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب أن ينصر فيه".
حتى ولو كان هذا التناصر في محيط الكفار وبين الكفار إذا كان مبدؤه على العدل وعلى دفع الجور والظلم فإنه عهد وحلف مكرمٌ في الإسلام، حتى ولو كان المتعاقدون والمتعاهدون كفارا، لأن الله -سبحانه وتعالى- يريد العدل، أي طائفة وأي أمة لا تراعي العدل في أمورها فقد آذنت بالسقوط والانحطاط... قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "شهدتُ حلف المُطَيَّبين"، ما هو هذا الحلف؟ شهده النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو صغير قبل أن يبعث، "اجتمعت رؤساء القبائل ووضعوا أيديهم في طيب وتعاهدوا على أن ينصروا المظلوم، وأن يقفوا معه، وأن يرفعوا علم وراية العدل"، فماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بُعث؟ "شهدت حلف المطيبين مع عمومتي، وما أحب أن لي حُمْر النعم"، وهي الإبل النوق التي لها وزن وقيمة عند العرب، "وما أحب أن لي حُمْر النعم وأني أنكثه".
ولذلك، لما جرى ما جرى في صلح الحديبية، وقد ذكرها ابن حجر -رحمه الله- في الفتح وحسنها، "أن من أحب أن يدخل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فليدخل، فدخلت بنو بكر مع قريش، ودخلت خزاعة مع رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، وكان بين هاتين القبيلتين عداء شرس في الجاهلية، لكن لما أظهر الله -سبحانه وتعالى- الإسلام انطفأت تلكم الشرارة.
فلما مضى زمن إذا بنوفل بن معاوية بن أبي بكر يأتي على خزاعة على ماء لهم يسمى بالوتير فبيَّتهم وقتل رجلا منهم، فقامت بنو خزاعة لكي ترد، فحصل بينهم قتال، حتى تقاتلوا في الحرم، وأعانت قريش حليفتها بالسلاح، وشارك بعض قريش معهم في القتال.
فلما انتهى القتال إذا بعمرو بن سالم الخزاعي يقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فينشد قائلا – لأنه حليف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
يا رب إني ناشـــدٌ محــمــدا | حِلف أبينا وأبيه الأتلـــدا |
فانصر هداك الله نصرا أَيـّدا | وادع عباد الله يأتوا مددا |
إن قريشا أخلفوك الموعـــدا | ونقضوا ميثاقك المؤكَّـدا |
هم بيَّتونا بالوتير هُــجَّــــــدا | وقتَّلونا ركعا وســجــــدا |
وزعموا أن لست أدعو أحدا | وهم أذل وأقــل عـــــددا |
قال ابن إسحاق: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نُصرت يا عمرو بن سالم"، فكان ذلك الأمر سببا في حصول فتح مكة.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- بمنه وكرمه أن ينصر إخواننا المستضعفين المستذلين، وألا يجعل هذه المحنة محنة لنا، لأنه من الذل في الدنيا أن يُنظر إلى إخواننا يقتَّلون كأنهم البهائم أو يذبحون كما تذبح البهائم، فهذا الذل قد يصيبنا في هذه الدنيا، لكن هناك ذل قد يصيبنا في الآخرة، نعم، في مسند الإمام أحمد، وإن كان فيه شيء من المقال، لكن النصوص الأخرى تؤيده، جاء في حديث سهل بن حنيف: "مَنْ أُذِل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة".
هَب أنه أصابك ذل في هذه الدنيا، يذهب ويزول الأمر، لكن أي عقاب وأي عذاب وأي ذل أعظم من ذل الآخرة على رؤوس الأشهاد بين يدي رب العالمين؟! نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يلطف بنا.