أشراط الساعة

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-؛ فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.

وتقوى الله -جل وعلا-: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.

أيها المؤمنون: إنَّ الساعة خطْبٌ جلَل، وهوْل عظيم: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 2].

أيها المؤمنون: حريٌ بكل مؤمن وجديرٌ بكل مسلم أن يستعد للساعة، وأن يهيئ لها عدَّتها.

عباد الله: وهذا الخطب العظيم قد أخبر نبينا -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يكون حتى يأتي بين يديه آيات عظيمة وعلامات متنوعة تشير إلى دنو قيامها وقرب مجيئها، بل إن هذا الإنذار والإعلام قد جاء في كتاب الله -جل في علاه-، قال الله -عز وجل-: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) [محمد: 18].

وقال سبحانه: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر: 1].

وقال جل وعلا: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 1].

وقال الله -عز وجل-: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) [الأحزاب: 63].

عباد الله: وآيات الساعة وأشراطها وعلامات دنو مجيئها، وقُرب قيامها، متنوعة، جاء تبيانها بأنواعها في سنة النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-، وقد كان هذا الإخبار منه عليه الصلاة والسلام بعلامات الساعة بأنواعها آيةً من آيات نبوته، حيث أخبر عن أمور مغيَّبة منها ما وقع ومنها ما سيقع طبقًا لما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 4].

أيها المؤمنون: ولقد دلت النصوص في السنة النبوية على أن أشراط الساعة وعلاماتها على أنواع ثلاثة:

الأول: نوعٌ ظهر وانقضى؛ ومن ذلكم: انشقاق القمر، قد ذكر الله -عز وجل- هذه الآية في قوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر: 1].

ومنها: مبعثه عليه الصلاة والسلام: قال عليه الصلاة والسلام: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ".

وكذلك: موته، ومقتل عثمان، إلى غير ذلك من آيات قد ظهرت وانقضت، وهي من علامات الساعة وأماراتها.

والنوع الثاني -أيها العباد-: ما قد ظهر ولم ينقضِ بعد، بل لا يزال في تنامٍ وازدياد وتكاثر؛ وهذا النوع جاءت به أحاديث كثيرة عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- ومن ذلكم: ما جاء في صحيح مسلم في حديث جبريل المشهور حيث سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أشراط الساعة قال: "فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا" قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ".

ومن ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا".

وفي المسند من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ، وَقَطِيعَةَ الأَرْحَامِ، وَائْتِمَانَ الخَائِنِ، وَتَخْوِينَ الْأَمِينِ".

وثبت في الصحيح عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- أن أعرابيا سأله عليه الصلاة والسلام عن الساعة، وعن علاماتها، فقال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ" فقال الأعرابي: "كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" قَالَ: "إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ".

والأحاديث في هذا النوع كثيرة.

والنوع الثالث -عباد الله- من علامات الساعة وأشراطها: العلامات الجسام والأشراط العظام، والتي إذا ظهرت واحدة منها توالت الآيات بعدها كعِقد انفرط خرزه متواليةً ومتتابعة، وقد جاء في ذكر هذه الآيات ما رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- قال: اطَّلَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: "مَا تَذَاكَرُونَ؟" قلنا: "نَذْكُرُ السَّاعَةَ" قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ؛ فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عليه السلام-، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ".

أيها المؤمنون: ومن شأن هذه الآيات العظام -آيات الساعة العظام وعلاماتها- أن ظهورها إيذانٌ بدنو قيام الساعة وانتهاء هذه الحياة الدنيا وقيام الساعة والمثول بين يدي الرب -جل وعلا-: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم: 31].

ولهذا -عباد الله- من شأن هذه الآيات أعني الآيات العظام أنها إن ظهرت واحدة منها لم ينفع إيمان عبد إن آمن؛ لأن إيمانه حينئذ إيمان مشاهدة وليس إيمان غيب، قال الله -تبارك وتعالى-: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام: 158].

وثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا".

فذكر عليه الصلاة والسلام: "طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَظهور الدَابَّةُ" ورواه أحمد في مسنده، وذكر "الدخان" بدل الدجال.

أيها المؤمنون -عباد الله-: إن الواجب على المسلم أن يستذكر هذه الآيات -آيات الساعة العظيمة- الدالة على قرب قيامها ودنو مجيئها؛ ليكون هذا الاستذكار معونةً له على إصلاح نفسه وزوال الغفلة عنها وحُسن الاستعداد للقاء الله -جل في علاه-.

اللهم يا ربنا أصلح لنا شأننا كله، واهدنا إليك صراطا مستقيما، وأعِذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنك سميع الدعاء وأنت أهل الرجاء وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

الخطبة الثانية:

الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-؛ فإن في تقواه خلَفًا من كل شيء، وليس من تقوى الله خلَف.

أيها المؤمنون: وأعظم الآيات خطبًا وأكبرها شأنًا: خروج الدجال، فقد جاء في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنْ الدَّجَّالِ" إشارةً إلى عظم فتنته وشدة خطبها وكثرة افتتان الناس بها؛ ولهذا ما من نبي بعثه الله إلا وقد أنذر قومه فتنة المسيح الدجال.

عباد الله: قد قال نبينا -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح الثابت عنه: "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ" أي فليبتعد عنه.

إلا أنه -يا معاشر العباد- يخرج بين يدي الدجال الأكبر دجاجلة كثيرون يروِّضون لمجيئه، ويوطِّدون نفوس الناس لقبول ما يأتي به.

ولهذا -عباد الله- ينبغي على العبد أن يعمل على صلاح نفسه وصيانتها من الدجل بأبوابه وأنواعه وصنوفه، وأن يُقبل على الإيمان ومعالي الأمور وصحيحها، وأن يعمل على صلاح نفسه وزكائها.

اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.

وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا".

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك يا أرحم الراحمين.

اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا وحافظًا ومؤيدا، اللهم احفظ جنودنا المرابطين في حدود البلاد، اللهم تولهم بالحفظ والتوفيق والتسديد يا رب العالمين.

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم سدِّده في أقواله وأعماله يا رب العالمين، اللهم ولِّ على المسلمين أينما كانوا خيارهم واصرف عنهم شرارهم.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

اللهم أعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء.

اللهم إنا نسألك الهدى والسداد، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف 23].

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.