الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن ناصر الزاحم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
فخرجوا حتى قدموا المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث: عن فتيةٍ ذهبوا في الدهرِ الأول، ما كان من أمرِهم، فإن حديثَهم عجب! وعن رجُلٍ طوَّافٍ قد بلغ مشارق الأرض ومغاربَها، ما كان نبَؤُه؟ وسلوه عن الروحِ، ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو مُتَقَوِّل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
عباد الله: ذكر علماء التفسير، بأن "النَّضْر بن الحارث" كان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينصب له العداوة، وكان قد قدم "الحِيرة" وتعلم بها أحاديث "رستم".
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله، وحدّث قومه ما أصاب مَنْ كان قبلهم من الأمم، جاء النضر بن الحارث بعده، فقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلموا إليّ، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس.
فبعثته قريش مع بعض رجالها إلى اليهود بالمدينة، ليسألوا أحبارهم عن محمدٍ وصفتِه، وأخبِروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجوا حتى قدموا المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث: عن فتيةٍ ذهبوا في الدهرِ الأول، ما كان من أمرِهم، فإن حديثَهم عجب! وعن رجُلٍ طوَّافٍ قد بلغ مشارق الأرض ومغاربَها، ما كان نبَؤُه؟ وسلوه عن الروحِ، ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو مُتَقَوِّل.
فلما عادوا إلى مكة، قالوا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاؤوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسألوه.
فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "أخبركم بما سألتم عنه غداً"، ولم يستثنِ، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة ليلة لم يأتهِ الوحي، ولم يُخبَر بخبر هؤلاء، فشق ذلك عليه، وأرجف أهل مكة به، وقالوا: وعَدَنَا محمدٌ غداً، واليوم خمس عشرة ليلة!.
ثم جاء جبريل -عليه السلام- من عند الله بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطواف، وذي القرنين.
قال -جل وعلا- عن خبر ذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرْضِ وَاتَيْنَـاهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف:83-98].
فالله -عز وجل- قد مكن له في الأرض، وأعطاه من القوة والتصرف والتدبير الشيء الكثير، إضافة إلى كثرة الجنود والهيبة والوقار، وقد قذف الله -عز وجل- الرعب في قلوب أعدائه.
قد آتاه الله كلَّ ما يَصلُح به أمرُه، ويقوم عليه سلطانُه، كان يطوف الدنيا شرقاً وغرباً، ويفتح البلاد، وكلما مر بأمة قهرهم وغلبهم، ويدعوهم إلى الله -عز وجل-، فإن أطاعوه، وإلا أذلهم وأرغم أنوفهم، واستباح أموالهم وأمتعتهم.
سار غربا حتى انتهت به اليابسةُ إلى ساحل بحر الظلمات، المعروف اليوم بالمحيط الأطلسي، فرأى الشمس تغرب في البحر، وظن أن اليابسة تنتهي هنا، ووجد في هذا الموضع أمة من الأمم، قال ابن كثير: وقد ذُكر أنها كانت أمة عظيمة، ويظهر من سياق الآيات أن فيها أناسا صالحين وآخرين غيرُ صالحين.
قال -تعالى-: (قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً). ومعنى هذا أن الله -تعالى- مكنه منهم وحكّمه فيهم وأظفره بهم، وخيَّره، إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ وأفدى.
فكان جوابُ ذي القرنين: (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً). أعلن أن للظالمين العذاب والعقاب الدنيوي، ثم يُردون إلى ربهم فيعذبهم عذابا شديدا، أما المؤمنون الصالحون فلهم الجزاء الحسن، والمعاملة الطيبة، والتكريم والتيسير، وفي الآخرة جزاؤهم الجنة.
بعد ذلك عاد ذو القرنين من رحلة المغرب مشرِّقا، حيث قال -تعالى-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها، قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً)، أي" ليس لهم بناء يُكِنُّهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، قال سعيد بن جبير:كانوا حمرا قصارا مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك".
ثم أخبر -جل وعلا- أن ذا القرنين سلك طريقا من مشارق الأرض حتى بلغ جبلين متناوحين بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فسادا، ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم -عليه السلام- كما ثبت في الصحيحين، فقال -جل وعلا-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)، وذلك لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس.
(قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا)، أي أنهم أرادوا أن يجمعوا مالاً من بينهم فيعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا.
فقال ذو القرنين بعفةٍ وديانة وصلاح وقصدٍ للخير: (مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ)، أي: ما أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان -عليه السلام-: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ) [النمل:36]، ثم قال: (فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، فطلب منهم المساعدة بعملهم وآلاتهم، فجمعوا قطع الحديد حتى حاذوا بها الجبلين طولا وعرضا، فأجَّج عليه النار حتى صار كله نارا، ثم قال: (آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)، والقطر هو النحاس، أضافه إلى الحديد ليزداد قوة وصلابة.
ثم أخبر -جل وعلا- أن يأجوج ومأجوج لم يقدروا على الصعود من فوق السد، ولم يقدروا على نقبه؛ لإحكام بنائه وصلابته وشدته، فقال: (فَمَا اسْطَـاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَـاعُواْ لَهُ نَقْبًا)، (قَالَ هَـاذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى)، أي: لما بناه ذو القرنين قال: هذا رحمة من ربي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد.
وذكر ابن كثير -رحمه الله- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغ مدتهم، وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله، فيعودون إليه كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيُنشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم...".
وفي ذلك يقول الله -جل وعلا-: (فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً). أي: فإذا جاء الوعد الحق ساواه بالأرض.
أسأل الله -جل وعلا- أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأن ينفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون: إن في هذه القصة درسا عظيما، ومنهجا قويما، رسمه ذو القرنين لمن يأتي بعده.
لقد أعطى الله ذا القرنين أسباباً عظيمة من التمكين، والحكم، والفتح، والبناء، والعمران، وغيرها، ومع ذلك فإن الله -جل وعلا- يقول: (فَأَتْبَعَ سَبَباً)، أي: إنه قد أحسن استغلال ما أعطاه الله، واستعان به على نشر الخير وإقامة العدل.
(أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً)، من العدل أن يأخذ الظالم والمعتدي، وصاحب المنكرات، والمفسد، والكافر الذي يخالف أمر الله -عز وجل- عقابه في الدنيا، أما في الآخرة فإنه يُرد إلى ربه فيعذبه عذابا أليما.
وأما المؤمن الصالح صاحب الخير الداعي إلى الله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فإنه يُقرب ويجازى بالجزاء الحسن، ويكافأ المكافأةَ الطيبة، ويخاطب باليسر والسهولة، (وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً).
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله -تعالى- يا من أعطاكم الله شيئا من التمكين، لا تستعملوا هذا التمكين في ظلم الناس، ولا تستغلوه في التستر على الظلمة والمفسدين.
فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن، والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العقاب الرادع. هذا هو شرع الله منذ خلق السماوات والأرض، فما قامتا إلا على العدل.
كما ينبغي لمن آتاه الله الخير والقوة والتمكين، أن يعمل على بذل الندى، ونشر المعروف، ومساعدة المحتاجين، وعدم التكبر على الآخرين، وأن لا يستغل نعمة الله لسلب أموال الناس وممتلكاتهم، وليكن منهجه، (مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ)، وليحذر الرشوة والعطايا، وليقل كما قال نبي الله سليمان -عليه السلام-: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ).
أسأل الله أن يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجعلنا من أهل الخير، الداعين إليه، الساعين إلى نشره.
عباد الله: صلوا على النعمة المهداة، والرحمة المسداة، من بعثه الله رحمة للعالمين، حيث أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].