البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

سيدة نساء الجنة

العربية

المؤلف خالد بن علي الغامدي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. التربية بالقدوة يساهم في بناء الشخصية المسلمة .
  2. الحديث عن السيدة فاطمة حديث عظيم الشأن والأثر .
  3. مواقف السيدة فاطمة المشهودة العظيمة .
  4. جوانب العظمة في شخصية فاطمة الزهراء .

اقتباس

وإن الواجب علينا أن نعرف لهذه السيدة المباركة حقها ونعظمها ونتخذها قدوة، ولا يجوز لنا أبدا أن نغلو فيها، ونرفعها فوق منزلتها، أو أن نخترع لها من الفضائل ما لم يصح؛ فكم قد كذب عليها الكذابون والأفاكون، وكم قد اختلقوا وافتروا عليها وعلى زوجها عليّ وأبنائه ما هم منه براء، والمنهج الحق هو الوسط بين الغلاة المفرطين، والجفاة المقصرين...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل أمة الإسلام خير الأمم، وأفاض عليها ما لا يُحصى من ألوان النِّعَم والكرم، وجعل منهم أئمة ونجوما، بهم يُقتدى ويُهتدى في ظلمات الأحداث والأمر المدلهم، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، جاد بالفضائل والبركات والخير العَمَم، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الخليل المصطفى، والرسول المجتبى، قال بالحق والصدق، وبه عدل وحكم، صلى الله عليه وعلى آله السادة الطيبين، وصحابته الأئمة المهديين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا دائما مزيدا.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، واستشعروا عظمته وجلاله في كل وقت وحين، فهو -سبحانه- أقرب إليكم من حبل الوريد، ولن يعجز اللهَ أحدٌ، ولن يعجزه هربا، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.

أيها المسلمون: إن تربية الأمة على الأخلاق الفاضلة والقِيَم النبيلة من خلال الاقتداء بالقدوات الصالحة المؤثرة، والاهتداء بها في الخطاب والمنهج والتطبيق، من أعظم العوامل والأسس التي تساهم مساهمةً عميقةً في بناء الشخصية المسلمة المعتزة بدينها وثوابتها وانتمائها وتاريخها، والتي نحن أحوج ما نكون إليها في زماننا هذا؛ ولأهمية عامل القدوة الصالحة وأثره الفاعل في التكوين والتربية والبناء، أمر الله نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وقال له: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الْأَنْعَامِ: 90].

وضرب لنا في القرآن بدائع النماذج لقدوات هم غُرَر في جبين الزمان؛ كالأنبياء -عليهم السلام-، ومؤمن آل فرعون، ولقمان العبد الصالح الحكيم، ومريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وغيرهم كثير؛ بَيْدَ أن أعظم القدوات الذين أشاد الله -تعالى- بهم هو سيدنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، الذي قال الله فيه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الْأَحْزَابِ: 21]، فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو قدوة مطلقة، قدوة مطلقة بلا حدود زمانية ولا مكانية، في أقواله وأفعاله، وأخلاقه وسيرته وتقريراته، دَقَّتْ أم جَلَّتْ، وقد سرت هذه القدوة النبوية المباركة إلى ذريته وزوجاته، وقد صح في الخبر الأمرُ بالصلاة عليه وعلى ذريته وأزواجه، فأصبحوا كذلك قدوة للعالمين، قال الله -تعالى-: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)[الْأَحْزَابِ: 32]، وقال سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 33].

هذا وإن من أَجَلّ القدوات النبوية من أهل بيته الشريف ابنته السيدة الفاضلة الشريفة فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- وعن أمها المباركة خديجة، وصلى الله على أبيها وسلَّم.

إن الحديث عن القدوة النبوية فاطمة حديث مُغْدِقُ الثمارِ، عظيم الشأن، له حلاوة وطلاوة ورِيّ ونماء ورونق وبهاء، ينبه الغافلين، والمنبهرين اللاهثين وراء السراب؛ أن هَلُمُّوا فها هنا الجلال والكمال والطهر والنقاء، ها هنا القدوة النبوية التي اختارها الله على علم لتكون غيثا للناس في زمانِ جدبِ الأخلاقِ والقِيَمِ والحياءِ، وواحة غنَّاء للأمة في صحراء الشهوات والشبهات، وفقر النفوس وتهافتها وتفاهتها، اختار الله هذه السيدة المباركة على علم، وأودع في شخصيتها من الفضائل والكمالات ما زكاها به ورقاها في درجات العز والشرف، تربت -رضي الله عنها- في بيت النبوة، وتخرجت بمدرسة أبيها النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وتعلمت من مشكاة الرسالة، ونهلت من علم وفقه زوجها الإمام علي -رضي الله عنه- فحازت أعلى المقامات، وتشرفت بأعظم الثناء، وسطَّر لها التاريخُ أنبلَ المواقف وأفخم الوقائع في تعاملها مع ربها وأبيها، وزوجها ومجتمعها، فمن ذا يلحق شأوها؟ ومن ذا يساميها من نساء الدنيا؟

وُلِدَتْ رضي الله عنها قبل البعثة النبوية بخمس سنوات في مكة، وقريش تبني الكعبة، وأمها خديجة بنت خويلد أحب أزواج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى قلبه، وصاحبة المواقف المشهودة المشهورة، كانت فاطمة -رضي الله عنها- أصغر بنات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأحبهن إلى قلبه؛ لأنها صَحِبَتْهُ منذ نعومة أظفارها ولم تفارقه، وشهدت الأحداث الكبرى في حياته، ورأت من أحوال أبيها وأمورها العجب، وشاركته معاناته، وآلامه وأحزانه وهموم الدعوة، رمى المشركون سلا الجزور على رأس رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو ساجد عند الكعبة فجاءت فاطمة مسرعةً -وهي صغيرة السن- فأزالت القذر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي غزوة أُحُد أصيب خَدّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسال دمه بغزارة فجاءت فاطمة -رضي الله عنها- وغسلت الدم عنه حتى كف، ومرة أخرى رمى المشركون التراب على رأس رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكانت فاطمة حاضرة ونظَّفت رأسه الشريف وهي تبكي، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يهدئها ويقول: "لا تبكي يا بنية؛ فإن الله ناصر أباك".

تعلمت العلمَ مِنْ فِيِّ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى صارت من رواة الحديث، وحديثها في دواوين السُّنَّة، وتخلقت بأخلاق النبوة، وتأدبت بآداب أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-، وصار الناس إذا رأوها تذكروا النبي -عليه الصلاة والسلام-، حتى في مشيتها ما تخطئ مشيتُها مشيةَ أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيتُ أحدًا أشبه سمتًا وَدَلًّا وهديًا برسول الله؛ في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله".

كانت -رضي الله عنها- كريمة على أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-، فما رآها قط مقبلة إليه إلا قام إليها، واحتفى بها وأجلسها بجانبه، وقال: "مرحبا بابنتي"، وكان إذا أقبل من سفر بدأ بالمسجد، ثم عرَّج على ابنته فاطمة في بيتها، وسلَّم عليها ودعا لها، ثم ذهب إلى أزواجه.

ومن كرامتها -رضي الله عنها- على أبيها: أنه ضمها وضم عليًّا والحسن والحسين وألقى عليهم الكساء، ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"(أخرجه أحمد والترمذي).

وبلغت منزلتُها ومكانتها أن قال فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنما فاطمة بَضعة مني" يعني قطعة مني "يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها"(أخرجه الشيخان)، وفي رواية: "يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها"(أخرجها أحمد والحاكم).

وأبقى اللهُ سببَ وَنَسَب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها وفي ولديها؛ الحسن والحسين -رضي الله عن الجميع-، كما ثبت عن الحاكم والبيهقي: "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي".

ومن كرامتها -رضي الله عنها- ومنزلتها: أنه نزل مَلَك من السماء لم ينزل قط لكي يبشر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن فاطمة سيدة نساء الجنة، وأن الحسن والحسين سيدَا شباب أهل الجنة؛ ولذلك شهد لها أبوها -صلى الله عليه وآله وسلم- أنها من خير النساء، كما في (مسند أحمد): "خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسيا امرأة فرعون".

أيها المسلمون: لقد وضع الله في شخصية فاطمة -رضي الله عنها- من الأسباب والعوامل ما رفعها الله به فوق نساء العالمين، وجعلها قدوة عظيمة للنساء، في كل زمان ومكان، وإضافة إلى ما سبق ذكره من جوانب عظمتها فقد كانت فاطمة -رضي الله عنها- امرأة عابدة قانتة صوامة قوامة قانعة باليسير، صابرة على حياتها وشظف العيش وشدته، حريصة على طاعة أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-، واتباع سنته، قائمة لزوجها بحقه وطاعته، لم يُحفظ عليها -رضي الله عنها- زلة أو خطأ، عظيمة الخوف والمراقبة لله، متدثرة بثوب الحياء والعفة والتصون، لم يُؤْثَر عنها كذب في الحديث، أو إخلاف لموعد أو تصرف مشين، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيت أحدا أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي وَلَدَهَا".

وكانت -رضي الله تعالى عنها- طيبة المعشر كريمة المحتد، محببة للناس كلهم، تحتفظ بعلاقات طيبة مع الجميع حتى مع زوجات أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فقد كن يحببنها، ويرسلنها أحيانا إلى أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- لتشفع لهن عنده في بعض الأمور.

عباد الله: ومن جوانب عظمتها -رضي الله عنها-: ما سطَّره التاريخ بمداد من نور في قصة زواجها بعلي -رضي الله عنه-، فهل سمعتُم بخبره وكيف كان؟ وما مهرها؟ وما جهاز بيتها؟

إنه حدَث لم يشهد التاريخ مثله؛ فهو زواج سيدة نساء الجنة، ابنة سيد الأنبياء -صلى الله عليه وآله وسلم-، وزوجها هو علي -رضي الله عنه-، رابع الخلفاء الراشدين، ومن أكابر سادات الصحابة -رضي الله عنهم-، لقد كان عرسها عُرْسًا سهلا ميسَّرًا متواضعا مع كل هذا المجد والشرف، تزوجها علي -رضي الله عنه- بعد غزوة بدر، ولم يكن عنده مهر، فأشار عليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يُمْهِرَهَا قيمةَ درعِه الحطميةِ التي غنمها في بدر، وبلغت قيمتُها في ذلك الوقت أربعمائة وثمانين درهما تقريبا، ثم أَوْلَمَ عليها وليمةً مباركةً على شاة واحدة، وأما جهاز بيتها وأثاثه: فتقول أسماء بنت عميس -رضي الله عنها-: "جهزتُ فاطمةَ إلى عليّ فما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلا الليف، ولقد أولم على فاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته"، وقال جعفر بن محمد: "دخلتُ بيتَ عليّ فإذا إهاب كبش على دكة، ووسادة فيها ليف، وقِربة، ومنخل، ومنشفة، وقدح" هذا هو زواج فاطمة، وهذا هو بيتها وأثاثه، وهي ابنة سيد الخلق -صلى الله عليه وآله وسلم-.

عباد الله: وبعد زواجها كانت فاطمة -رضي الله عنها- مثالا للزوجة الراضية القانعة المتحببة إلى زوجها، وقد كان يحصل بينهما ما يحصل بين الزوجين من خلاف وتبايُن في وجهات النظر، ولكنها -رضي الله عنها- لم تكن لتتجاوز أدبها مع زوجها عليّ، ولم يكن علي -رضي الله عنه- ليظلمها، بل سرعان ما يتراضيا لكرامتها عليه، وَلِمَا بينهما من الحب الذي تذوب معه كل الخلافات.

وقد رزقها الله من عليّ الحسن والحسين، ومحسنا، وأم كلثوم، وزينب، وأم كلثوم هذه هي التي تزوجها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد ذلك، رغبة منه في مصاهرة أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.

وقد كانت فاطمة -رضي الله عنها- ترعى شئون أولادها وزوجها بنفسها، وتقوم بأعمال بيتها حتى أثَّر عمل البيت في يديها، وتعبت من ذلك ولاقت شدةً، فذهبت إلى أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- تطلب منها خادمًا من السبي تعينها على أعمال البيت فامتنع النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقال: "والله لا أعطيك وأدع أهل الصُّفَّة" وأهل الصفة هم الفقراء الذين لا مأوى لهم، فرجعت فاطمة -رضي الله عنها- إلى بيتها، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يأتيها فوجدها مع عليّ فلاطفهما، ثم أرشدهما إلى أن يُسَبِّحَا ويحمدا اللهَ ثلاثا وثلاثين، ويكبِّرَا أربعا وثلاثين عند النوم، فهو خير لهما من خادم، فرضيت فاطمة -رضي الله عنها- وأسلمت لله ولرسوله، وحافظت على هذا الذِّكْر العظيم فرزقها الله بعد ذلك قوة ونشاطا وتحمُّلًا وصبرا، ولم يترك علي -رضي الله عنه- هذا الذكر ولا ليلة صِفِّينَ؛ فلذلك كان من أقوى الرجال -رضي الله عنه-، وذلك كله ببركة طاعة الله ورسوله، وبركة ذكر الله -تعالى-.

والمجدُ يُشْرِقُ من ثلاثِ مَطَالِعٍ

فِي مَهْدِ فَاطِمَةَ فَمَا أَعْلَاهَا

هِيَ بِنْتُ مَنْ؟ هِيَ زَوْجُ مَنْ؟ هِيَ أُمُّ مَنْ؟

مَنْ ذَا يُدَانِي فِي الْفَخَارِ أَبَاهَا؟

هِيَ أُسْوَةٌ لِلْأُمَّهَاتِ وَقُدْوَةٌ

يَتَرَسَّمُ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ خُطَاهَا

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم والفضل والقدوات، يُحيي بشمائلهم القلوبَ، ويجدد بعلمهم ما اندرس من أمر الدين، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير، وعلى آله وصحابته والتابعين.

أما بعد: فإن جوانب العظمة والقدوة -يا أيها المسلمون- في شخصية السيدة الجليلة فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لا ينقضي منها العجبُ، ولا يُقضى منها الأرب، لكننا نشير إلى أن أمر وفاة أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- كان له أعظم الأثر على قلبها وروحها، واهتز له كيانها هزة عنيفة، وهي الصابرة المحتسبة ولكن الأمر كان شديدا عليها، بل وعلى المسلمين جميعا، وتبدأ هذه القصة المؤلمة منذ أن ابتدأ المرض الأخير الذي مات فيه النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله وسلم- فَفَقَدَ الكونُ كلُّه هذه الرحمةَ المهداةَ، وانقطع خبر السماء، ووحي الله بموت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقد ابتدأ مرض النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في مطلع شهر ربيع الأول في سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية، وقد اشتدت عليه الحمى وألم الرأس متأثرا بالأكلة التي أكلها في خيبر من الشاة المسمومة التي سممتها لها المرأة اليهودية؛ حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاعَ أَبْهَرِي من ذلك السُّمِّ"(أخرجه البخاري).

وكانت مدة مرضه -صلى الله عليه وآله وسلم- قرابة عشرة أيام أو أكثر قليلا، ويشتد عليه الوجع، ويغمى عليه -صلى الله عليه وآله وسلم-، وتدخل عليه ابنته فاطمة وهو في هذا الكرب الشديد فيعتصر الحزنُ قلبَها، وتقول: "واكرب أبتاه"، فيصحو من إغمائه -صلى الله عليه وآله وسلم- ويقول: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" ثم إنه دعاها، وَأَسَرَّ لها أنه ميت في هذا المرض فبكت -رضي الله عنها- حزنا على فراقه، ثم أَسَرَّ لها بِسِرٍّ آخَرَ؛ وهو أنها أول أهله لحوقا به، فضحكت استبشارا.

فلما توفي النبي -عليه الصلاة والسلام-، ودفنه الصحابة، قالت فاطمة لأنس بن مالك: "كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟"، وبقيت فاطمة -رضي الله عنها- بعد وفاة أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- ستة أشهر، وهي محزونة مكمودة، تذوب كما يذوب الملح في الماء من هول هذه الفاجعة، وذبلت زهرة حياتها، وانطفأت شمعة بهجتها، وتفطر قلبها الرقيق، ولم يعد فؤادها المكلوم يتحمل فراق أبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- فوافاها الأجل ليلة الثلاثاء الثالث من رمضان، في السنة التي توفي فيها أبوها -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكان عمرها يومَ توفيت تسعا وعشرين سنة تقريبا، وتولى غسلَها وتكفينَها وتجهيزَها زوجُها علي -رضي الله عنه- وأسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-، ودفنها علي ليلا في البقيع.

أيها المسلمون: لقد كانت فاطمة -رضي الله عنها- رمزا للحياء والستر والعفة، وحتى عند وفاتها -رضي الله عنها- فقد كانت جنائز النساء في عهدها يُلقى على الواحدة منهن ثوب، ثم يصلى عليها وتحمل إلى المقابر، وقد يصف الثوبُ أعضاءَ جسمها، وقد تنكشف، فكانت فاطمة -رضي الله عنها- من حيائها تكره ذلك ولا يعجبها، وتتمنى شيئا يستر المرأة في جنازتها، وذكرت ذلك لمن حولها من النساء قبل وفاتها، فاقترحت عليها أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- شيئا رأته في الحبشة؛ وهو أن يُجعل على النعش شيء مقوَّس من جريد النخل، ويطرح عليه الثوب، وتوضع المرأة تحته، فلا يصف أعضاءها، ففرحت بذلك فاطمة -رضي الله عنها- وقالت: "سترتني سترك الله".

فكانت فاطمة -رضي الله عنها- هي أول امرأة يصنع نعشها على هذه الصفة التي نشاهدها اليوم في نعش النساء.

فما أبرك هذه السيدة الجليلة، وما أعظم خيرها على الأمة في حياتها وبعد مماتها.

أمة الإسلام: حق لهذه السيدة الجليلة أن تكون أعظم قدوة لنساء الأمة ونبراسا ينير الطريق، ومثالا فخما بديعا يُحتذى، ويُقتدى في الحياء والحشمة والعفاف، وما أروع أن تكون سيرتها وشمائلها تعطِّر وتجمِّل مجالس السمر ومنتديات العلم، وتكون مقرَّرًا في مناهج التربية والتعليم وبناء القدوات.

وإن الواجب علينا أن نعرف لهذه السيدة المباركة حقها ونعظمها ونتخذها قدوة، ولا يجوز لنا أبدا أن نغلو فيها، ونرفعها فوق منزلتها، أو أن نخترع لها من الفضائل ما لم يصح؛ فكم قد كذب عليها الكذابون والأفاكون، وكم قد اختلقوا وافتروا عليها وعلى زوجها عليّ وأبنائه ما هم منه براء، والمنهج الحق هو الوسط بين الغلاة المفرطين، والجفاة المقصرين. فرضي الله عن فاطمة بنت رسول الله، وعن أمها المباركة خديجة وصلى الله على أبيها النبي الأعظم سيد ولد آدم وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله: صَلُّوا وسلِّموا على رسول الله فقد أمركم بذلك الله حيث قال في محكم تنزيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]. وثبت عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات"، فاللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا وحبيبنا وسيدنا وقدوتنا محمد، وعلى آله وأزواجه وذرياته وصحابته الكرام، وخُصَّ منهم أبا بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذا النورين، وعليا أبا الحسنين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين المظلومين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين وفي العراق وفي اليمن وفي كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم كن لهم عونا ونصيرا ومؤيدا وظهيرا، بقوتك يا قوي يا عزيز.

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، الله وفقه ونائبه لِمَا فيه صلاحُ البلاد والعباد، واجعلهم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا وارزقنا واجبرنا، وارفعنا ولا تضعنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وكن معنا ولا تكن علينا وانصرنا ولا تنصر علينا.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.