الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
مَن كَانَ حَرِيصَاً على حُسْنِ الخَاتِمَةِ كَانَ مُسْتَقِيمَاً على العِبَادَةِ، والاسْتِقَامَةُ على العِبَادَةِ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ إلا المَوْتُ، الاسْتِقَامَةُ على العِبَادَةِ لا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، ولا بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، ولا بِمَرْحَلَةٍ دُونَ مَرْحَلَةٍ من العُمُرِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عِبَادَ اللهِ: لِكُلِّ حَيٍّ من البَشَرِ نِهَايَةٌ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ خَاتِمَةٌ، فَيَا شَقَاءَ من كَانَتْ خَاتِمَتُهُ إلى سُوءٍ وَعَذَابٍ، وَيَا سَعَادَةَ مَن كَانَتْ خَاتِمَتُهُ إلى هُدَىً وَصَوَابٍ، وَأَتَاهُ اليَقِينُ وَهُوَ في حَالَةِ تَعْظِيمٍ للهِ -تعالى- وَلِشَعَائِرِهِ، وَفي شَوْقٍ لأَنْ يَلْحَقَ المُتَّقِينَ الأَبْرَارَ، وَكَانَ مِمَّن خُوطِبَ بِقَوْلِهِ تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْـمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 28 - 30].
يَا عِبَادَ اللهِ: مَن كَانَ حَرِيصَاً على حُسْنِ الخَاتِمَةِ كَانَ مُسْتَقِيمَاً على العِبَادَةِ، والاسْتِقَامَةُ على العِبَادَةِ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ إلا المَوْتُ، الاسْتِقَامَةُ على العِبَادَةِ لا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، ولا بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، ولا بِمَرْحَلَةٍ دُونَ مَرْحَلَةٍ من العُمُرِ، يَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "أَبَى قَوْمٌ المُدَاوَمَةَ، واللِه ما المُؤْمِنُ بالذي يَعْمَلُ شَهْرَاً أَو شَهْرَيْنِ أَو عَامَاً أَو عَامَيْنِ، لا واللهِ مَا جَعَلَ اللهُ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلاً دُونَ المَوْتِ".
قَالَ تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الالْتِزَامِ بالعُبُودِيَّةِ للهِ -تعالى-، والعِبَادَةِ لَهُ، وإذا كَانَ شَبَابُنَا اليَوْمَ يُسَافِرُونَ إلى بِلادِ الكُفْرِ تَحْتَ اسْمِ الهِجْرَةِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَهُم: اِسْمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ-: "الْعِبَادَةُ فِي الْـهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" [رواه الإمام مسلم عَن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-].
يَا عِبَادَ اللهِ: إذا اضْطَرَبَتِ الأُمُورُ واخْتَلَّتْ، وَتَزَعْزَعَ كَيَانُ النَّاسِ، بِسَبَبِ الهَرْجِ والمَرْجِ والفِتَنِ، فَإِنَّ صِلَتَنَا باللهِ -تعالى-، وَعِبَادَتَنَا لَهُ في تِلْكَ الحَالَةِ دَلِيلٌ على قُوَّةِ الإِيمَانِ في قُلُوبِنَا، فالوَاجِبُ عَلَيْنَا مَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوفُ قَاسِيَةً: أَنْ نَنْشَغِلَ بالعِبَادَةِ للهِ -تعالى-، وهذهِ العِبَادَةُ في هذهِ الأَيَّامِ كَالهِجْرَةِ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ-.
يَا عِبَادَ اللهِ: النَّاسُ في الفِتَنِ وَأَيَّامِ الهَرْجِ يَنْشَغِلُونَ بالقِيلِ والقَالِ، ويَنْشَغِلُونَ عَن العِبَادَةِ للهِ -تعالى-، ولا يَتَفَرَّغُونَ لَهَا، يَنْشَغِلُونَ بِمُتَابَعَةِ القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ، والإِذَاعَاتِ العَالَمِيَّةِ، وَيَكُونُ هَمُّ الوَاحِدِ مِنْهُم، ماذا حَدَثَ؟ وماذا جَرَى؟ وماذا سَيَكُونُ؟
يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَحْوَجَنَا وَنَحْنُ نَعِيشُ أَيَّامَ الغُرْبَةِ، وَزَمَنَ الفِتْنَةَ: أَنْ نَتَعَرَّفَ على أَسْبَابِ الثَّبَاتِ على دِينِ اللهِ -تعالى-، وأَسْبَابَ الثَّبَاتِ على الاسْتِقَامَةِ حَتَّى يَأْتِيَنَا المَوْتُ وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ.
مَا أَحْوَجَنَا إلى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ في زَمَنٍ تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ، فَيُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنَاً وَيُمْسِي كَافِرَاً، وَيُمْسِي مُؤْمِنَاً وَيُصْبِحُ كَافِرَاً، القَلْبُ هُوَ أَكْثَرُ الجَوَارِحِ تَقَلُّبَاً، وَمَرَدُّ الهِدَايَةِ والثَّبَاتِ إِلَيْهِ.
روى الإمام أحمد والحاكم عن الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: لَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ خَيْرَاً وَلَا شَرَّاً حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُخْتَمُ لَهُ، يَعْنِي بَعَدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ-. قِيلَ: وَمَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابَاً مِن الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيَاً".
وروى الإمام أحمد عَن أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-، عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ، إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ، يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرَاً لِبَطْنٍ".
يَا عِبَادَ اللهِ: أَهَمُّ الأَسْبَابِ التي تُثَبِّتُ على الحَقِّ، وتَجْلِبُ للمُؤْمِنِ مَحَبَّةَ الخَلْقِ: الاعْتِصَامُ بِكِتَابِ اللهِ -تعالى-، وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ-، وَلَقَد دَعَانَا إلى ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ-، فَقَالَ: "إِنِّي قَد تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ" [رواه الحاكم عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-].
فَمَنِ الْتَزَمَ بالوَحْيَيْنِ كَانَ ثَابِتَاً على الحَقِّ، وَمَن هَجَرَهُمَا انْحَرَفَ وَوَقَعَ في الضَّلالِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: ومن أَسْبَابِ الثَّبَاتِ على الحَقِّ: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ، قَالَ تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
فهذا وَعْدٌ من اللهِ -تعالى- أَنْ يَهْدِيَ الذينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُم للسَّبِيلِ الأَقْوَمِ الذي يُقَرِّبُهُم إلى اللهِ -تعالى-.
وَهُنَاكَ وَعْدٌ آخَرُ، هُوَ قَوْلُهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30].
يَا عِبَادَ اللهِ: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ أَمْرٌ عَزِيزٌ وَلَيْسَ بالهَيِّنِ، يَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ وَمُصَابَرَةٍ، وَصَدَقَ اللهُ -تعالى- القَائِلُ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذَاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرَاً عَظِيمَاً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطَاً مُسْتَقِيمَاً * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا) [النساء: 66 - 70].
والقَائِلُ: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27] يُثَبِّتُهُم رَبُّنَا -عزَّ وجلَّ- في الحَيَاةِ الدُّنْيَا على الخَيْرِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، وفي الآخِرَةِ يُثَبِّتُهُم عِنْدَ سُؤَالِ المَلَكَيْنِ في القَبْرِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: من أَسْبَابِ الثَّبَاتِ على الحَقِّ: الدُّعَاءُ والإِلْـحَاحُ على اللهِ بالثَّبَاتِ، فالدُّعَاءُ يَكُونُ سَبَبَاً للهِدَايَةِ أَصْلاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6].
وَيَكُونُ عَامِلاً للثَّبَاتِ: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].
القُلُوبُ بَيْنُ أُصْبُعَيْنِ من أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، وَهِيَ أَوْعِيَةٌ للهِدَايَةِ، وَقَد تَكُونُ أَوْعِيَةً للغِوَايَةِ، روى الإمام أحمد عن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلَابِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ".
وَكَانَ يَقُولُ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَالْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَخْفِضُهُ وَيَرْفَعُهُ".
يَا عِبَادَ اللهِ: لِكُلِّ حَيٍّ من البَشَرِ نِهَايَةٌ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ خَاتِمَةٌ، فَأَلِحُّوا على اللهِ -تعالى-، لا سِيَّمَا في أَوْقَاتِ الإِجَابَةِ، أَنْ يُثَبِّتَنَا اللهُ -تعالى- بالقَوْلِ الثَّابِتِ حَتَّى يَأْتِيَنَا اليَقِينُ، وَيَنْطَبِقَ عَلَيْنَا قَوْلُهُ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بالثَّبَاتِ على الحَقِّ حَتَّى المَمَاتِ، آمين.