البحث

عبارات مقترحة:

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

الجواد

كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...

من وسائل تزكية النفس

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. أهمية تزكية النفس .
  2. المقصود بتزكية النفس .
  3. أنواع الطهارة .
  4. اهتمام الناس بالطهارة الظاهرة .
  5. الأسباب الداعية لتزكية النفس .
  6. تزكية النفس عملية مستمرة .
  7. الوسائل العملية لتزكية النفس .
  8. علامات المحبة .

اقتباس

أيها الإخوة: إن تزكية النفس عملية مستمرة طوال عمر الإنسان، حتى يلقى الله -تعالى-، ومهما بلغ العبد من تقوى وحرص وسعي حثيث لإرضاء ربه، فلا غنى له عن تزكية نفسه. وإنك لتجد الفضلاء الصالحين أكثر الناس حرصا على تزكية نفوسهم. بينما الجافون المنغمسون في دهاليز الدنيا وشهواتها، والذين هم في أمس الحاجة إلى التزكية، هم أشد الناس بعدا عنها، وأكثرهم غفلة عن ضرورتها.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن الله -تعالى-: إذا أقسم قسما واحدا في كتابه، فإنه يقسم على عظيم، فما بالكم -أيها الأحبة-: إذا أقسم بثمان آيات من آيات خلقها ربنا -تبارك وتعالى-؟!

أقسم على أن فلاح الإنسان في هذه الدنيا معلق بتزكيته لنفسه، فأقسم سبحانه بـ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 1-10].

إن الله إذا أقسم فإنه يقسم على عظيم، فتزكية النفس من أعظم الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها العبد، فهي أعظم رسالة جاءت في تلك السورة.

أيها الإخوة: لا بد أن نستشعر معاني تلك الأقسام التي أقسمها الله -تعالى-، حتى نستفيد ونحن نسمع أو نقرأ تلك السورة، والله -تعالى- أكد على ذلك في آية أخرى بلفظ التأكيد والتقرير: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس: 9].

ووعد سبحانه من اعتنى بتزكية نفسه بالخلود في الجنة، فقال: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)[طـه: 75-76].

والتحقيق: أن الزكاة إزالة الشر من النفس، وزيادة الخير فيها.

فالزكاة تأتي بمعنى: النماء، وتأتي بمعنى: الطهارة.

والطهارة على العموم على نوعين: طهارة جسد، طهارة ظاهرة، وطهارة نفس.

أما النوع الأول: وهي طهارة الظاهر، طهارة الجسد، فلا يكاد يغفل عنها أحد، مؤمن كان أو كافر، فلا يزال التركيز على المظهر، نظافته، جماله، ورونقه، هو الشغل الشاغل لمعظم الناس، ما بين مسكن؛ كالقصر، وسيارة فخمة، وألوان من الملابس الغالية الثمن، وأنواع من الأطعمة المتنوعة، وغيرها من المظاهر التي يحرص عليها جميع الناس.

وأما النوع الثاني: وهو طهارة النفس، وجمالها وصفائها، فما أكثر الغافلين عنها! وهو موضوع حديثنا.

أيها المسلمون: هناك علامات ينبغي للمسلم التنبه لها، إذ هي دلائل على ضرورة مسارعته لتزكية نفسه، وتطهيرها، وتنمية الإيمان فيها.

ذلك أن الفلاح كما تقدم معلق ومرتبط بالمبادرة إلى تزكيته لنفسه.

من هذه العلامات: الاستهانة بالمعاصي بشتى أنواعها، الصغير منها أو الكبير، فهي لا تعظم بنوعها فقط: زنا، ربا، شرب خمر.. لا، بل يضاف إلى ذلك المشاعر التي تختلج في نفس العاصي عند ارتكابها للمعصية، وبعد انتهائه منها.

نعم شرب الخمر، والزنا، والربا، وشهادة الزور، وغيرها، من الكبائر المهلكة بلا شك، ولكن لو كان المسلم لا يفعلها، ولا يفكر في فعلها، ولكنه يستهين بها، ويستصغرها، فهنا الخطر، هل يبيح للإنسان إذا لم يفعلها، أو فعلها على أقل حال أن يستهين بها؟!

يجب عليه: أن يكون خائفا من كل معصية، حتى لو كان فاعلا لها هو بنفسه، حتى لو كان مقيما عليها بنفسه، يجب أن لا ينسى هذا الوضع الخطير! بل يجب عليه أن تنشغل نفسه بالتفكير في عواقب معصيته بين الحين والآخر، وأن يتنبه لهذا الأمر.

يجب أن يظل داعيا ربه: أن يخلصه من تلك المعصية، داعيا ربه أن يخلصه من معصيته التي يرتكبها، ويأخذ بيده إلى التوبة النصوح.

فإذا لم تكن نفسك -أخي الحبيب-: كذلك، مرتقبة إلى التخلص من تلك المعصية، مشفقة راهبة راغبة، فاعلم أنها علامة خطر، ومؤشر غفلة، فسارع إلى تزكيتها قبل فوات الأوان.

وكذا يقال في شأن من ترك طاعة واجبة، فإن العبرة لما يجول في نفسك بإحساسها بالذنب، بإحساسها بالتقصير، ومدى انكسارها وإشفاقها قبل أن يكون في نوع الطاعة التي تركتها.

وينبغي الانتباه إلى حقيقة مهمة، وهي: أن المسلم لو ظل معتنيا بتزكية نفسه، لما انحدر إلى مستوى ترك طاعة واجبة، ولا فعل كبيرة من الكبائر، بل لم تقبل نفسه الخوض في أي شيء يغضب ربه - تبارك وتعالى- عليه، وسيكون بمنأى عن ذلك -إن شاء الله-.

ومن علامات الحاجة إلى تزكية النفس: الكسل عن بعض الطاعات، وذلك بسبب فقدان لذة العبادة، وحلاوة الإيمان.

لماذا لا نستشعر الطاعات؟

لأن النفس لم تتزك، ولم تبلغ تلك الدرجة من الشفافية التي تمكنها من ذوق لذة العبادة -نسأل الله من فضله وكرمه-.

وبالتالي ينساب إليها الفتور والإهمال، والتراخي والكسل، فلا تملك النفس القدرة على تحمل بعض التكاليف والواجبات، ولا تجد الرغبة ولا الاهتمام بذلك؛ لأنها لا تستشعر عظمة العبادة، ولا تجد لها لذة ولا طعما.

ولهذا يقول تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45].

الخشوع يمنع استثقال العبادة، لا يجعلها كبيرة على النفس.

والخشوع هو الذي يجعل هاجس لقاء الله حيا في النفس: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة: 45-46].

يجعل هاجس لقاء الله -تعالى- حيا في النفس.

ولهذا لا تجد في النفس الاندفاع إلى الاستيقاظ لصلاة الفجر لأدائها مع الجماعة عند طائفة من المسلمين؛ لأنها صلاة ثقيلة جدا، والنوم ألذ منها بكثير، والفراش الوثير لا يقاوم، وهنا تتضح الحكمة في إضافة: "الصلاة خير من النوم" في أذان الفجر.

بل لا تحتمل النفس ما هو أقل من ذلك؛ كالصبر على البقاء في المسجد لسماع موعظة ما مثلا، أو أداء السنن الراتبة، أو حفظ أذكار المساء والصباح، أو غيرها من الطاعات لثقلها على النفس: لماذا؟

لعدم استشعار اللذة في أدائها، عدم استشعار كون الرحمة تنزل، وكون الملائكة تحف بالمجلس، الله –سبحانه وتعالى- يذكرك... إلى غير آخر ذلك.

أضف إلى ذلك اشتغال النفس ذاتها بما هو ألذ عندها من تلك الطاعات بكثير، وهي أمور الدنيا، وما أدراك ما أمورها، هذا إن كان للطاعة لذة أصلا، فينبغي لمن وجد في نفسه ذلك أن يسارع إلى تزكيتها.

ومن علامات الحاجة لتزكية النفس: الخصال المذمومة في القلب؛ كالكبر والحقد والحسد والغرور وإساءة الظن بالمسلمين البرآء، وكذلك الكثرة المذمومة؛ ككثرة الكلام، وكثرة الضحك، وكثرة الأكل، وكثرة الكلام في الناس، وما يلازم ذلك من الغيبة، وكثرة النوم، وكثرة الخوض في أمور الدنيا؛ كأمور الدرهم والدينار، كثرة الخوف: الأسهم والعقار.

الحاصل أن هذه الخصال إن وجدت فتتأكد معها الحاجة إلى تزكية النفس.

أيها الإخوة: إن تزكية النفس عملية مستمرة طوال عمر الإنسان، حتى يلقى الله -تعالى-، ومهما بلغ العبد من تقوى وحرص وسعي حثيث لإرضاء ربه، فلا غنى له عن تزكية نفسه.

وإنك لتجد الفضلاء الصالحين أكثر الناس حرصا على تزكية نفوسهم.

بينما الجافون المنغمسون في دهاليز الدنيا وشهواتها، والذين هم في أمس الحاجة إلى التزكية، هم أشد الناس بعدا عنها، وأكثرهم غفلة عن ضرورتها.

ولهذا ذكرنا علامات الخطر التي قد تغيب عن أذهان بعض الناس، والآن يأتي السؤال المنتظر: كيف يزكي المسلم نفسه؟

أيها الإخوة: إنه لا يتحقق مطلوب في الدنيا إلا بشيء من جهد، صغير كان ذلك الجهد أم كبير، ولذلك قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4] أي في شدة ونصب.

فالعلم لا يتحقق إلا بجهد، وطلب الرزق المال لا يتحقق إلا بجهد، والزواج لا يتحقق إلا بجهد، والمسكن لا يتحقق إلا بجهد، وقس على ذلك غيرها من حاجات الدنيا.

وإذا كانت أمور الدنيا لا تأخذ بالتمني، ولكن كما قيل: "تأخذ الدنيا غلابا" فكيف بأمور الآخرة التي هي أعظم وأجل؟!

فلابد إذاً لحصول التزكية من مجاهدة.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ "[رواه الترمذي وهو حديث صحيح].

كما أنه لا بد من التفكر، لا بد من أن تجلس قليلا وتفكر، تأمل، لا بد من إعمال الفكر في النفس وآفاتها.

يوم من الأيام على الأقل اجلس وفكر في هذا الأمر: الدنيا ومآلها، الآخرة وقربها، الجنة ونعيمها، النار وأهوالها، الآخرة وأهوالها؛ وكما قيل:

إذا المرء كانت له فكرة

ففي كلّ شيء له عبرة

أولى الوسائل لتزكية النفس: الدخول على الله من باب العبودية المحضة.

وباب العبودية المحضة المقصود به، هو باب الانكسار والذل والافتقار إلى الله -تعالى-، وذلك أن يستشعر الإنسان أن ما فيه من نعمة، أية نعمة كانت: علم، جاه، جمال، نسب، قيادة، ملك، سلطان... إنما هي من الله وحده، ليست باجتهاده وقوته، وحسن تدبيره.

لأن اجتهاده وقوته وتدبيره كل ذلك مربوط بتوفيق الله له، وتقدير الله له، ورعايته لشأنه، وتقدير أموره لصالحه، ولو شاء الله ما وصلت تلك النعمة إليه، ولو عمل ما عمل، ولو تهيأ ما تهيأ، وصرف ودبر وأنفق، ولكن الله -تعالى- يسوق نعمه بحكمته، ويبتلي بها عباده: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد: 2].

(وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253].

من أهم النعم التي يجب إرجاعها إلى الله -تعالى-: نعمة التزكية التي نتكلم عنها، يقول الله -تعالى-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النــور: 21].

إذاً من أين نطلب التزكية؟

لو شعر المسلم بمعانيها وتحرك قلبه بمقتضي تلك الآية لأدخلته على الله من باب العبودية المحضة، لانكسر قلبه، لجعلته يبتهل إلى الله بقلب ذليل، وحاجة ملحة، وضرورة وفقر ما بعده فقر: أن يزكي الله نفسه التي بين جنبيه.

فينبغي على المسلم: أن ينخلع من كل قوة وحول؛ سوى حول الله -تعالى- وقوته، مصداقا للعبارة الإيمانية الصادقة: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

وأن يؤمن بأن زكاة نفسه لا تتم إلا بعون من الله، وما عليه إلا أن يبذل الوسائل العملية الموصلة إلى ذلك، وهو يدعو ربه خلالها بأن يأخذ بيده إليه، ويدل قلبه عليه.

ومن الوسائل العملية: إحسان العبادة، وذلك بأن يجعل العبادة الهم الأكبر في حياته.

يجب أن تكون كذلك؛ لأنها سر وجوده: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

فيبذل جهده في اكتساب العلم الذي يقوده إلى عبادة الله على هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، لا على هدي أهل البدع، والطرق المحدثة.

وأن يخلص بعد ذلك نيته في عبادته، بلا رياء، ولا طلب لسمعة.

وأن يحرص، حتى يحسن عبادته على الخشوع والاحتساب والصبر والتفكر في الأذكار، فضلا عن المحافظة عليها.

فالناس يحرصون على الاتقان في أمور الدنيا، فلماذا لا يتقنون فيما هو خيرا وأبقى؟!

وإحسان العبادة وجه من أوجه الابتلاء: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2].

قال الفضيل: "أحسن عملا أي أخلصه وأصوبه" فإذا أحسن المسلم عبادته زكت نفسه.

أسأل الله أن يزكي نفوسنا، وأن يصلح قلوبنا.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فمن وسائل تزكية النفس: الإقبال على كتاب الله تلاوة وحفظا وتدبرا.

ينبغي أن ترافق آداب التلاوة الظاهرة من حسن صوت، وجمال هيئة ووقار، ينبغي أن ترافق هذه الآداب الظاهرة آداب باطنة؛ من استشعار لعظمة الكلام، هو كلام الله -جل وعلا-، وحضور القلب، وتدبر معاني الآيات ومدلولاتها.

والتقدير بأنك -أيها التالي-: للآيات أنك، أول المخاطبين بها لا غيرك، فتلاوة كتاب الله -تعالى- لو أحسن المسلم أداءها لهذبت نفسه وزكتها: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) [الإسراء: 82].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].

ومن الوسائل: الذكر بإطلاقه: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

إن على كل من أراد تزكية نفسه: أن يصلح الطريق فيما بينه وبين ربه، فكلنا قادم عليه سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق: 6].

لا سبيل إلا إلى لقاء محمود، أو لقاء مذموم -نسأل الله العفو والعافية-.

ولا لقاء محمود إلا بصحبة صالحة، ومحبة صادقة لله -تعالى-.

فلقاء المتحابين -أيها الأحبة-: أجمل لقاء، وأرق لقاء، إذا التقيت مع محبوبك.

ومن أكبر علامات المحبة: ذكر الحبيب، ولذلك قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].

صح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه".

قال أبو عثمان النهدي: "إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها" قيل له: ومن أين تعلمها؟ قال "يقول الله –عز وجل-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152]".

وقال السدي: "ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله -عز وجل-".

فدوام ذكر الله -تعالى- يشرح الصدر، ويزكي النفس.

ومن وسائل تزكية النفس: ذكر الموت، وقصر الأجل.

إن الذي يستجلب الآفات إلى النفس: لهفها على الملذات بأنواعها، وعلى الدنيا وأعراضها، وما يقتضيه هذا اللهف من صراع نفسي، ومشاعر حسد، وكيد خفي، بل ربما تطور به الأمر إلى مشاعر حقد وغم وحزن، وكلها أمراض في النفس لا يجليها إلا ذكر الموت، وقصر الأمل.

فالمنغمس في أعماق الدنيا ذلك الذي يتعامل معها، وكأنه خالد فيها، لا يذكر الموت، بل هو غافل عنه تماما، بل لو ذكر به لكره ذلك، وقد قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8].

الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقل: اذكروا الموت، بل قال: "أكثروا ذكر هادم اللذات" [رواه الترمذي].

اذكر الموت وداوم ذكره

إن في الموت لذي اللب عبر

وكفى بالموت فاعلم واعظا

لمن الموت عليه قد قدر

اللهم اغفر لنا وارحمنا...