الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
واسْتمر جهاز الحِسبة إلى هذا اليوم, وهذا فيه ردٌّ على دعاة الرذيلة والفتنة, الذين لا يُخفون عداوتهم للمحتسبين والناصحين, ويُحاربون جهاز الحسبة, ويتتبعون زلاتِ بعض أفرادهم, وليس قصدهم -والله يعلم- الحب لهذا الوطن, ولا الإصلاح والرقيّ والازدهار, ولكنه الحقد على كلّ من يقف أمام مشروعهمُ التغريبيّ, وطموحُهُم التخريبي, وغرائزهم الشهوانية, وطبائعهم العدوانية...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ هذه الأمةَ خيرَ أُمةٍ أخرجت للناسِ, تأمرُ بالمعروفِ وتنهى عن المنكرِ, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه, أرسلَه اللهُ رحمةً للعالمينَ, فشرحَ به الصدورَ, وأنارَ به العقولَ, صلى اللهُ عليه, وعلى آلِه وصحبِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب: 41- 43].
معاشر المسلمين: إنّ الله -تعالى- حين ينصر أمةً يُوجب عليهم تكاليفَ وواجبات, متى ما جاءوا بها أطال في تمكينهم, ومتى ما أخلُّوا بها نزع عنهم سبب النصر والقوة, والعزة والتراحم والترابط, وانقلب النصرُ هزيمة, والعزةُ ذلّة, والاجتماعُ تفرقًا واختلافًا, قال الله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 39- 40].
فوعْدُ الله المؤكدُ الوثيقُ المتحققُ الذي لا يتخلَّف, هو أن ينصر من ينصره, فمَن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصر الله القويَّ العزيزَ الذي لا يُهزم مَن يتولاه؟ إنهم هؤلاء: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ), فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر: (أَقامُوا الصَّلاةَ), فعبدوا الله ووثَّقُوا صلتهم به، (وَآتَوُا الزَّكاةَ), فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خَلة الجماعة، وكَفَلُوا الضعاف فيها والفقراء، وحققوا لها صفةَ الجسم الحي؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم, كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو, تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
(وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ), فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس, (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ), فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر, وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروفٍ وهي قادرة على تحقيقه..
هؤلاء هم الذين ينصرون الله؛ إذ يَنْصرون دينه الذي أراده للناس في الحياة، معتزين بالله وحده دون ما سواه, وهؤلاء هم الذين وَعَدُهم الله بالتمكين.
وتأملوا في كلمة التمكين: فهي ليست بمنى الغلبة والعلو العسكري, بل التمكين أشرف وأعلى من ذلك, فالتمكين يشمل المكانة الشريفة بين الأمم, والمحبةَ بين الحاكم والشعب, والذكرَ الحسن, والازدهارَ والتقدمَ والرفعةَ الحسيةَ والمعنوية, وهو ما أوصلنا الله -تعالى- إليه, وذلك بفضل إقامتنا نحن وولاةُ أمرنا للصلاة, وأدائِنا للزكاة, وأمرِنا بالمعروف ونهيِنا عن المنكر.
تأملوا كيف قرن الله -تعالى- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بأعظم شعيرتين وفريضتين, وهما الصلاة والزكاة, اللتان هما من أركان الإسلام, ودعائمه العظام, وجاءت النصوص المتواترة الكثيرة في فضلهما ووجوبهما.
وقد أمر الله أن يكون في الأمة طائفة تقوم به فقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، قال ابن كثير في تفسيره: «والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه». ا.هـ.
هذه الأمة التي كرمت وفُضِّلَت على سائر الأمم, ليس لذاتها, وإنما لما اتصفت به, وهو الأمرُ المعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله, وتعطيلُ هذه الشعيرةِ أو تقليصُها, يعني فقدَ هذه الخيريةَ والشرف والتمكين, بل واللعن والعياذُ بالله تعالى, كما ذكره الله جل سبب لعنه لبني إسرائيل, (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة: 78- 79].
فإذا عطَّلنا هذه الشعيرة العظيمة, فقدنا جهة التفضيل التي بها فُضِّلْنا على الأمم.
أمة الإسلام: إن انتشارَ المعاصي والفجورِ بينَ الناس, هو علامةٌ من علاماتِ هلاكِ البلادِ, كما قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء: 16].
بل إنه يُحمّل جميع المسلمين مسؤولية الإنكار, فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضَ عينٍ علينا جميعًا, ولكنَّ وجودَ جماعةٍ تأمرُ بالمعروفِ وتنهى عن المنكرِ أمانٌ من العذابِ, وإسقاطٌ لفرض العين على كل أحد في كثير من المنكرات.
فتمكين رجال الهيئات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أمانٌ من الله لنا من العذاب والهلاك, قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117], فلم يقلْ صالحونَ, بل مصلِحونَ لغيرِهم, يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ, ويأخذون على أيدي السفهاء, ويردون كيد السحرة والمروجين الأعداء.
بارك الله لي ولكم…
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ معزِ من أطاعَه واتقاه, ومذلِ من أضاعَ أمرَه وعصاه, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وصحبِه, ومن أقامَ أمرَه واجتنبَ نهيَه, ودعا بدعوتِه واهتدى بهداه إلى يومِ الدينِ.
أما بعد: أمة الإسلام: لقد قام جهاز الهيئة مع قيام هذه الدولة, فمن أوائلِ ما فعل مؤسسُ هذه البلاد المباركة, الملكُ عبدُ العزيز -رحمه الله-, هو إنشاء جهاز الْحِسبة, وكان لا يكاد يسمع أنَّ قرية ليس فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, إلا وجه إلى القائم فيها كتاباً, يأمره بتعيين رجال من أهل الصلاح والتقوى لهذا الأمر.
وعندما ضم الحجاز عام أربعٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وألفٍ للهجرة, أي قبل أكثر من تسعين عامًا, كان أوّل ما بدأ به: إنشاءُ الاحتساب، وتعيين رجال يتولونه، وقد وجهه خطابًا إلى علماء وأعيان مكة المكرمة عشية دخولها، جاء فيه: "الرجاء أن تنظروا في الأمر, وتعينوا رجالاً من إخوانكم المنتسبين للخير، يمشون في كل سوق ومجمع، يأمرونهم بالصلاة كلما أذن المؤذن، لأن فيها قِوام الدين والدنيا، واتفاق الكلمة".
وعناية المملكة -حرسها الله- بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستمرة، واسمعوا إلى رجل الأمن الأول, الذي أُوكلَ إليه حفظ الأمن, الأميرِ نايفِ بنِ عبدالعزيز -رحمه الله- حيث قال: «إنه لشرفٌ لهذه البلاد أمةً وقيادةً, أن فيها مَن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن الدولة هي التي تقوم بهذا العمل، والتي تحقق هذا الأمر وتعمل من أجله، وهذا ليس بجديد، فمنذ أن قامت هذه الدولة على يد الإمام المصلح محمد بن سعود, إلى الملك عبد العزيز -رحمه الله-, وبعده أبناؤه وإلى الآن, وهذا الأمر قائم وسيظل قائمًا، ويجب أن يعرف الجميع داخل البلاد وخارجها, أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ركنٌ أساسيٌ لدولة الإسلام». ا.هـ.
والحِسبةُ ليست أمرًا مُحدثًا أو جديدًا, بل هو من العهدِ الأول في الإسلام, فقد مارسها النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسِه, وقام بها أصحابُه من بعده, إلى أنْ كثرت الفتن في الأمة, وقلّ الناصحون, فأُنشئتِ الحِسبةُ ووضع لها نظامٌ, فهذا أَتَابِكُ طُغْتِكِينَ، أحدُ أمراءِ الدولةِ السلجوقية, طَلَبَ لَهُ مُحْتَسِبًا، فَذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فقَالَ له: "إنِّي وَلَّيْتُك أَمْرَ الْحِسْبَةِ عَلَى النَّاسِ، بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ".
واسْتمر جهاز الحِسبة إلى هذا اليوم, وهذا فيه ردٌّ على دعاة الرذيلة والفتنة, الذين لا يُخفون عداوتهم للمحتسبين والناصحين, ويُحاربون جهاز الحسبة, ويتتبعون زلاتِ بعض أفرادهم, وليس قصدهم -والله يعلم- الحب لهذا الوطن, ولا الإصلاح والرقيّ والازدهار, ولكنه الحقد على كلّ من يقف أمام مشروعهمُ التغريبيّ, وطموحُهُم التخريبي, وغرائزهم الشهوانية, وطبائعهم العدوانية.
اللهم وفقِ القائمينَ على الهيئةِ إلى كلِ خيرٍ, واصرفْ عنهم كلَ شرٍ, اللهم سدِّدْ أمرَهم, وأصلحْ شأنَهم, وولِّ عليهم خيارهم, اللهم كنْ لهم مؤيداً ونصيراً, ومعيناً وظهيراً.