البحث

عبارات مقترحة:

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

ماذا استفادت البشرية من مبعثه صلى الله عليه وسلم؟

العربية

المؤلف عقيل بن محمد المقطري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. عظمة الرسالة الخاتمة .
  2. كثرة استفادة البشرية من مبعث النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم .
  3. خسارة من أعرض عن سنته صلى الله عليه وسلم .
  4. إزالة أنقاض الجاهلية ووثنية تخريبية .
  5. بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإنشاء إنسان جديد .

اقتباس

إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية، وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع؛ حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم– وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

في كل عام في مثل هذا الشهر شهر ربيع الأول يتذكر المسلمون في أرجاء الأرض كلها قضية عظيمة وقضية محبوبة إلى قلوبهم كيف لا؟ وهذه القضية هي النور الذي يمشي عليه المسلمون، كيف لا يتذكرون هذا الحدث؟ وهذه القضية، وهي ابتداء حياتهم وابتداء تأريخهم، كيف لا يتذكرون هذه القضية؟ وقد كانت الأمة تعيش في غياهب الجهل والظلام والاقتتال والاحتراب، إنها قضية مولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه القضية التي إن تذكرناها فلا نتذكرها كما يتذكرها بعض التقليديين من خلال قراءة طرف من سيرته العطرة، أو من خلال قراءة بعض الأراجيز والأناشيد التي تذكر سيرته وصفاته ومناقبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما نتذكر مولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على أنه ميلاد لهذه الأمة، وابتداء تاريخ هذه الأمة، وابتداء حضارة هذه الأمة، وأول مولد للتغيير والإصلاح الشامل في الأرض لم يستطع أحد أن يغيّر السلوكيات والأخلاق والعقائد والأفكار، لم يستطع أحد أن ينظّم الحياة كما يريدها الله سبحانه وتعالى، كما تحقق مصالح العباد كما كان ذلك في مبعث محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يوم جاء الإسلام أول ما وقف في وجهه واقع ضخم في جزيرة العرب، وواقع ضخم على وجه الكرة الأرضية، ووقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام والواقع بعيدة جدًّا، كانت تساند الواقع أحقاب من التاريخ، وأشتات من المصالح، وألوف من القوى، وقفت كلها سدًّا في وجه هذا الدين الحديد الذي لا يكتفي بتغيير العقائد والتصورات، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد، والأخلاق والمشاعر، إنما يريد كذلك أن يغيّر الأنظمة والأوضاع والشرائع والقوانين، كما يريد أن ينتزع القيادة من البشرية لتصير لله عز وجل، الذي خلق هذه البشرية لينتزع القيادة من أيدي أولئك الطغاة من أجل أن تكون بيد الإسلام يحكمها بإرادة الله تعالى، بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أيها الإخوة الكرام: إن ما حدث أول مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى بل مرات، فقد حدث ما حدث وفق سنة جارية لا وفق معجزة خارقة، إنها الإرهاصات التي ذكرناها في الخطبة الماضية التي كانت مقدمة لمولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومقدمة وإرهاصًا لمبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فلقد حدث ما حدث من التغيير الجذري للكون كله من خلال سُنّة من سنن الله تعالى لا وفق معجزة من المعجزات وخارقة من الخوارق، فلو كان الأمر يحتاج إلى خارقة من الخوارق لما احتاج الناس إلى الأنبياء، ولا إلى الرسل بل القلوب بيد الله تعالى يقلّبها كيف يشاء، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، لقد قام ذلك البناء بناء الإسلام، وذلك الصرح العظيم على رصيد الفطرة المدخرة في نفوس الناس لكل من يستفيد من هذا الرصيد، ويجمعه ويطلقه في اتجاهه الصحيح.

إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية، وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع؛ حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة.

أيها الإخوة الكرام: لقد قام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنهج القرآن بتغيير في العقائد والأفكار والتصورات وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه؛ فتغير ما حوله في دنيا الناس، وتغيرت المدينة، وتغيرت مكة، ثم تغيرت الجزيرة، ثم بلاد فارس والروم في حركة عالمية تسبح خالقها بالغدو والآصال.

إن العالم استفاد من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم استفادة عظيمة، ولا أقول العرب ولا المسلمون، بل استفاد العالم بأسره من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن بعثته بعد ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومما استفاد أن العقائد تغيّرت وتبدّلت رأسًا على عقب، كان اليهود يسبّون الله تعالى، ويعتقدون أن عزيرًا ابن الله، وكانوا يصفون الله بما لا يليق به، وكانت النصارى تدّعي لله الولد، وتصفه بأقبح الأوصاف، لقد كان العرب يعبدون أصنامًا وأوثانًا من دون الله تعالى، أحجارًا أخشابًا، ومن فضة وذهب، ومن تمر وسكر، بل ومن تراب، يعبدونها من دون الله، أو يعبدونها مع الله تعالى، هذا كان حال الناس؛ لقد كان الدهريون -الذين لا يؤمنون بخالق، ويقولون: إن الحياة مادة- يقولون كما قال الله تعالى عنهم: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) [الجاثية: 24]، الدهر هو الذي يهلكنا كما يقول قائلهم: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، لا قيامة، ولا نار ولا جنة، ولا جزاء ولا حساب، هذه تصورات كانت موجودة قبل مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فجاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الفئة المنتنة في عقائدها وأفكارها، فصحّحها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خلال ثلاثة وعشرين عامًا، فما توفاه الله عز وجل إلا وقد أحدث تغييرًا في هذا الكون؛ تصحيحًا للعقائد والأفكار، إذًا مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومبعثه كان تغييرًا للعقائد، واستفاد العالم بأسره ولا يزال يستفيد إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة.

ومما استفاد الناس من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جانب الأخلاق أنه جاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو إلى الصدق والعفاف، ويدعو إلى الأمانة والوفاء بالوعود والعهود، وإلى الوفاء بالأمانات والمواعيد، وما شاكل ذلك؛ حتى إن هرقل بكفره بالله تعالى وشركه لما وقف بين يديه أبو سفيان، وقال له: صف لي هذا الرجل، ماذا يريد منكم؟ قال: "يأمرنا بالصدق والعفاف والأخلاق والصلة.." إلى آخر ما ذكر، فكان جواب هرقل أن قال: هذا ما يأتي به الأنبياء بالصدق والوفاء بالعهود والعفاف، وعباده الله تعالى، وكما قال النجاشي للمسلمين حينما وصفوا له ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن هذا الذي تذكرون وما جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة لا يتناقض ولا يتضارب"، ولقد حصر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثته بالأخلاق فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» الأخلاق مع الله في عبادته وإخلاصها له، الأخلاق مع كتاب الله تعالى بتلاوته وتدبره والاحتكام إليه والدفاع عنه، الأخلاق مع أنبياء الله تعالى بحبهم وتوقيرهم، وإجلالهم، واتباع سنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الأخلاق مع الناس بالعدل والإحسان بأن يصدق معهم بأن لا يغدر، بأن لا يخون، بأن لا ينهب، بأن لا يزور، بأن لا يرتشي، بأن لا يأكل أموال الأمة، ولا ينهب ثروات الأمة، هذه كلها أخلاق للحاكم والمحكوم، والصغير والكبير، أخلاق جاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أجل أن يصححها.

إذا كان العالم اليوم يئن من مثل هذه المفاسد، والإسلام جاء من أجل أن يصحّحها، فلماذا يخافون من الإسلام؟ ألهم مصالح يخافون أن تُقطع عليهم هذه المصالح؟! أما ماذا يريدون؟ شرعنا وديننا وإسلامنا جاء ليصحح الأخلاق عند الجميع، وليراقب الجميع، وليحاسب الجميع، وليجعل الجميع سواسية أمام الأنظمة والقوانين السماوية، لا يفرّق بين غني وفقير، ولا صغير وكبير، ولا ذكر وأنثى، ولا وجيه ووضيع، ولا حاكم ولا محكوم، فالناس كلهم سواسية أمام الشرع وأمام القانون، هذه هي أخلاقياتنا التي جاء بها محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والتي استفادها العالم من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ومما استفاده الناس من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن حرّر الاقتصاد من الظلم والربا الذي أكل الأخضر واليابس، حرر العالم من الربا الذي يهدّد الدول بالانهيار الذي جعل ثُلة من الناس يحتكرون المال، وما دخل الربا في بلد إلا دمَّره إلا أهلكه ليعش الناس كفافًا، ولا يحاربون الله تعالى بالربا، فجاء الإسلام من أجل أن يحرر الناس ويحرر اقتصاد الناس كي لا يكون دُولة بين الأغنياء من الناس، حتى يتساوى الناس، وحتى يكون الناس كلهم يأكلون من رزق الله تعالى.

ومما استفاد الناس من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه جاء ليطفئ نار الطائفية والقبلية والثارات، وما شاكل ذلك؛ فإنه أعلنها واضحة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع جعل الربا كله مهدرًا لا قيمة له ولا استفادة فيه، قال: «وأول ربًا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» أقرب الناس إليه، وكان أن وضع الدماء كذلك وضع الثارات وألغاها تمامًا، وكان أول دم يضعه أقرب الدماء إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليبدأ بنفسه لا أن يقوم البعض في أنظمتهم وفي حكمهم على إثارة القلاقل وإثارة الثارات بين الناس، الواجب التسامح والعفو، والواجب أن تردم هذه الهوة حتى يعيش الناس بإخاء وبسلام.

أيها الإخوة الكرام: استفاد الناس من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومبعثه الوحدة، كان العرب في غاية من التمزق والتفرق، وما استطاعت لغتهم العربية أن تجمعهم، ولا يصدق قول ذلك القائل: لسان الضاد يجمعنا.. لسان الضاد كان أفصح ما يكون عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل قبل مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان أفصح مما هو عليه اليوم. أين لغتنا اليوم؟ إذا كانت لسان الضاد ما جمعت العرب قبل الإسلام وما استطاعت أن توحّد الناس في ذلك الوقت، ووحدهم دين الله تعالى الواجب أن نقول دين الله يجمعنا وليست اللغة هي التي تجمعنا ولا الدم هو الذي يجمعنا ولا اللون هو الذي يجمعنا، الدين هو الذي يجمعنا، فجاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63] بماذا ألّف بينهم؟ بمولده ومبعثه ودينه سبحانه وتعالى، هذا هو سبب توحيد الأمة.

وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأنفال: 103] بماذا؟ بمبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بميلاد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بهذا الدين العظيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما استفادة العالم من مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم العلم حيث كان الناس يعيشون في جهل، وحيث كانت الكنيسة قد أوجدت حربًا بينها وبين العلماء، وأدخلت الناس السجون وأحرقتهم وقتلتهم؛ فجاء الإسلام ليعلي من العلم، ليعمر الناس بالعلم في مجالات الحياة في الاقتصاد والسياسة، وفي الإعلام في التعليم، في العلوم التجريبية كلها..

إن الأمة بل العالم كله يحتاج إلى هذه العلوم، وهي فروض كفائية إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، وليس صحيحًا أن يبقى المسلمون عاكفين على العلوم الشرعية فحسب وأن يتركوا العلوم الدنيوية النافعة، فإن العلم النافع الذي مدحه الله تعالى ومدحه رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو كل علم تستفيد منه الأمة، بل العالم بأسره، العلم النافع هو الذي يتعدى نفعه للآخرين، أما العلم القاصر على شخصك فليس هذا من ذاك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فإن مما استفاد العالم من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه جاء ليحرر النصف الآخر من المجتمع وهي المرأة، هذه المرأة التي كانت عند النصارى شيطانة، وعند اليهود ممتهنة، فكانت إذا جاءها الحيض رموا بها، لا يجلسون معها، ولا تغسل لهم ثيابهم، ولا تطهو لهم طعامًا، ولا يمسونها كأنها نجس، جاء الإسلام والمرأة متاع تُباع وتُشترى كما هو اليوم في جاهلية اليوم المرأة تُباع وتُشترى لتكون في صور الإعلانات، في صور التائرات والجرافات والدبابات والطماطم والصوابين، وما شاكل ذلك يشترون من المرأة الجميلة صورتها، لتوضع على مثل هذه السلع.. كانت المرأة ليس لها أمر، وليس لها شأن، لا ترث فجاء الإسلام ليحرر حقيقة هذه المرأة من براثن الجاهلية، وإذا كانت المرأة اليوم تعاني من الجاهلية المعاصرة في امتهانها والاستخفاف بها، فإن الإسلام هو الذي سيضعها في موضعها الصحيح كأم وكبنت وكزوجة وكنصف حقيقي فاعل ومشارك في هذا المجتمع.

مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم استفاد منه العالم المحبة والسلام، والإخاء والوئام، جمع الإسلام العربي والرومي والفارسي والحبشي، وجمع شتات العالم كله، بل إلى يومنا هذا يوجد في روسيا مسلمون، في الصين مسلمون، في الهند مسلمون، في أوروبا مسلمون، في أمريكا مسلمون، في جنوب إفريقيا مسلمون، في كل أرجاء العالم مسلمون، لا تفرقنا لغة، ولا يفرقنا حد، ولا يفرقنا لون ولا دم ولا شيء من هذا، أي حيث حل المسلم فهو أخ لك، تحبه وتواليه وتناصره، أليست هذه أعظم استفادة؟! أليس العالم الغربي اليوم عالم عنصري؟! أليس اليهود عنصريين؟! أليس يوجد في الهند طوائف عنصرية وهلم جرا..

أما الإسلام فلا يعرف العنصرية بل يحاربها ويقاتلها يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « قد أذهب الله عنكم عُبّية الجاهلية، وفخرها بالآباء، فالناس مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب» «لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى»، وانظروا إلى حال المسلمين في الصلاة وفي الصوم وفي الحج تراهم كلهم على وتيرة واحدة.

استفدنا واستفاد العالم من مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلغاء الرق من خلال وسائل عدة.

وخلاصة القول أيها الإخوة الكرام -كما يقول الأستاذ الندوي رحمه الله تعالى-: "الحال التي كان عليها العرب وغيرهم وقتئذ كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن السادس المسيحي أكبر من أن يقوّم بإصلاح مصلحين أو معلمين من أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي المصلحون والمعلمون الذين لم يخلُ منهم عصر ولا مصر، ولكن القضية كانت إزالة أنقاض الجاهلية ووثنية تخريبية تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان واسع الأرجاء يسع العالم كله.

قضية إنشاء إنسان جديد يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء كأنه وُلد من جديد أو عاش من جديد، قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]، ويقول: قضية اقتلاع جرثومة الفساد واستئصال شأفة الوثنية واجتثاثها من جذورها بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخًا لا يُتصور فوقه، وغرس قيم ترضي الله تعالى وعباده، وخدمة الإنسانية والانتصار للحق.. إلى أن قال: وبالجملة فالأخذ بحجج الإنسانية المتحررة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق أولها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون، وآخرها جنة الخلد التي وُعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قوله تعالى في معرض المنّ ببعثته صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].

اللهم غيّر أحوالنا إلى أحسن حال، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه.

والحمد لله رب العالمين.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم– وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

في كل عام في مثل هذا الشهر شهر ربيع الأول يتذكر المسلمون في أرجاء الأرض كلها قضية عظيمة وقضية محبوبة إلى قلوبهم كيف لا؟ وهذه القضية هي النور الذي يمشي عليه المسلمون، كيف لا يتذكرون هذا الحدث؟ وهذه القضية، وهي ابتداء حياتهم وابتداء تأريخهم، كيف لا يتذكرون هذه القضية؟ وقد كانت الأمة تعيش في غياهب الجهل والظلام والاقتتال والاحتراب، إنها قضية مولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه القضية التي إن تذكرناها فلا نتذكرها كما يتذكرها بعض التقليديين من خلال قراءة طرف من سيرته العطرة، أو من خلال قراءة بعض الأراجيز والأناشيد التي تذكر سيرته وصفاته ومناقبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما نتذكر مولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على أنه ميلاد لهذه الأمة، وابتداء تاريخ هذه الأمة، وابتداء حضارة هذه الأمة، وأول مولد للتغيير والإصلاح الشامل في الأرض لم يستطع أحد أن يغيّر السلوكيات والأخلاق والعقائد والأفكار، لم يستطع أحد أن ينظّم الحياة كما يريدها الله سبحانه وتعالى، كما تحقق مصالح العباد كما كان ذلك في مبعث محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يوم جاء الإسلام أول ما وقف في وجهه واقع ضخم في جزيرة العرب، وواقع ضخم على وجه الكرة الأرضية، ووقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام والواقع بعيدة جدًّا، كانت تساند الواقع أحقاب من التاريخ، وأشتات من المصالح، وألوف من القوى، وقفت كلها سدًّا في وجه هذا الدين الحديد الذي لا يكتفي بتغيير العقائد والتصورات، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد، والأخلاق والمشاعر، إنما يريد كذلك أن يغيّر الأنظمة والأوضاع والشرائع والقوانين، كما يريد أن ينتزع القيادة من البشرية لتصير لله عز وجل، الذي خلق هذه البشرية لينتزع القيادة من أيدي أولئك الطغاة من أجل أن تكون بيد الإسلام يحكمها بإرادة الله تعالى، بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أيها الإخوة الكرام: إن ما حدث أول مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى بل مرات، فقد حدث ما حدث وفق سنة جارية لا وفق معجزة خارقة، إنها الإرهاصات التي ذكرناها في الخطبة الماضية التي كانت مقدمة لمولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومقدمة وإرهاصًا لمبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فلقد حدث ما حدث من التغيير الجذري للكون كله من خلال سُنّة من سنن الله تعالى لا وفق معجزة من المعجزات وخارقة من الخوارق، فلو كان الأمر يحتاج إلى خارقة من الخوارق لما احتاج الناس إلى الأنبياء، ولا إلى الرسل بل القلوب بيد الله تعالى يقلّبها كيف يشاء، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، لقد قام ذلك البناء بناء الإسلام، وذلك الصرح العظيم على رصيد الفطرة المدخرة في نفوس الناس لكل من يستفيد من هذا الرصيد، ويجمعه ويطلقه في اتجاهه الصحيح.

إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية، وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع؛ حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة.

أيها الإخوة الكرام: لقد قام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنهج القرآن بتغيير في العقائد والأفكار والتصورات وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه؛ فتغير ما حوله في دنيا الناس، وتغيرت المدينة، وتغيرت مكة، ثم تغيرت الجزيرة، ثم بلاد فارس والروم في حركة عالمية تسبح خالقها بالغدو والآصال.

إن العالم استفاد من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم استفادة عظيمة، ولا أقول العرب ولا المسلمون، بل استفاد العالم بأسره من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن بعثته بعد ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومما استفاد أن العقائد تغيّرت وتبدّلت رأسًا على عقب، كان اليهود يسبّون الله تعالى، ويعتقدون أن عزيرًا ابن الله، وكانوا يصفون الله بما لا يليق به، وكانت النصارى تدّعي لله الولد، وتصفه بأقبح الأوصاف، لقد كان العرب يعبدون أصنامًا وأوثانًا من دون الله تعالى، أحجارًا أخشابًا، ومن فضة وذهب، ومن تمر وسكر، بل ومن تراب، يعبدونها من دون الله، أو يعبدونها مع الله تعالى، هذا كان حال الناس؛ لقد كان الدهريون -الذين لا يؤمنون بخالق، ويقولون: إن الحياة مادة- يقولون كما قال الله تعالى عنهم: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) [الجاثية: 24]، الدهر هو الذي يهلكنا كما يقول قائلهم: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، لا قيامة، ولا نار ولا جنة، ولا جزاء ولا حساب، هذه تصورات كانت موجودة قبل مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فجاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الفئة المنتنة في عقائدها وأفكارها، فصحّحها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خلال ثلاثة وعشرين عامًا، فما توفاه الله عز وجل إلا وقد أحدث تغييرًا في هذا الكون؛ تصحيحًا للعقائد والأفكار، إذًا مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومبعثه كان تغييرًا للعقائد، واستفاد العالم بأسره ولا يزال يستفيد إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة.

ومما استفاد الناس من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جانب الأخلاق أنه جاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو إلى الصدق والعفاف، ويدعو إلى الأمانة والوفاء بالوعود والعهود، وإلى الوفاء بالأمانات والمواعيد، وما شاكل ذلك؛ حتى إن هرقل بكفره بالله تعالى وشركه لما وقف بين يديه أبو سفيان، وقال له: صف لي هذا الرجل، ماذا يريد منكم؟ قال: "يأمرنا بالصدق والعفاف والأخلاق والصلة.." إلى آخر ما ذكر، فكان جواب هرقل أن قال: هذا ما يأتي به الأنبياء بالصدق والوفاء بالعهود والعفاف، وعباده الله تعالى، وكما قال النجاشي للمسلمين حينما وصفوا له ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن هذا الذي تذكرون وما جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة لا يتناقض ولا يتضارب"، ولقد حصر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثته بالأخلاق فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» الأخلاق مع الله في عبادته وإخلاصها له، الأخلاق مع كتاب الله تعالى بتلاوته وتدبره والاحتكام إليه والدفاع عنه، الأخلاق مع أنبياء الله تعالى بحبهم وتوقيرهم، وإجلالهم، واتباع سنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الأخلاق مع الناس بالعدل والإحسان بأن يصدق معهم بأن لا يغدر، بأن لا يخون، بأن لا ينهب، بأن لا يزور، بأن لا يرتشي، بأن لا يأكل أموال الأمة، ولا ينهب ثروات الأمة، هذه كلها أخلاق للحاكم والمحكوم، والصغير والكبير، أخلاق جاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أجل أن يصححها.

إذا كان العالم اليوم يئن من مثل هذه المفاسد، والإسلام جاء من أجل أن يصحّحها، فلماذا يخافون من الإسلام؟ ألهم مصالح يخافون أن تُقطع عليهم هذه المصالح؟! أما ماذا يريدون؟ شرعنا وديننا وإسلامنا جاء ليصحح الأخلاق عند الجميع، وليراقب الجميع، وليحاسب الجميع، وليجعل الجميع سواسية أمام الأنظمة والقوانين السماوية، لا يفرّق بين غني وفقير، ولا صغير وكبير، ولا ذكر وأنثى، ولا وجيه ووضيع، ولا حاكم ولا محكوم، فالناس كلهم سواسية أمام الشرع وأمام القانون، هذه هي أخلاقياتنا التي جاء بها محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والتي استفادها العالم من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ومما استفاده الناس من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن حرّر الاقتصاد من الظلم والربا الذي أكل الأخضر واليابس، حرر العالم من الربا الذي يهدّد الدول بالانهيار الذي جعل ثُلة من الناس يحتكرون المال، وما دخل الربا في بلد إلا دمَّره إلا أهلكه ليعش الناس كفافًا، ولا يحاربون الله تعالى بالربا، فجاء الإسلام من أجل أن يحرر الناس ويحرر اقتصاد الناس كي لا يكون دُولة بين الأغنياء من الناس، حتى يتساوى الناس، وحتى يكون الناس كلهم يأكلون من رزق الله تعالى.

ومما استفاد الناس من مولده ومبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه جاء ليطفئ نار الطائفية والقبلية والثارات، وما شاكل ذلك؛ فإنه أعلنها واضحة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع جعل الربا كله مهدرًا لا قيمة له ولا استفادة فيه، قال: «وأول ربًا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» أقرب الناس إليه، وكان أن وضع الدماء كذلك وضع الثارات وألغاها تمامًا، وكان أول دم يضعه أقرب الدماء إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليبدأ بنفسه لا أن يقوم البعض في أنظمتهم وفي حكمهم على إثارة القلاقل وإثارة الثارات بين الناس، الواجب التسامح والعفو، والواجب أن تردم هذه الهوة حتى يعيش الناس بإخاء وبسلام.

أيها الإخوة الكرام: استفاد الناس من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومبعثه الوحدة، كان العرب في غاية من التمزق والتفرق، وما استطاعت لغتهم العربية أن تجمعهم، ولا يصدق قول ذلك القائل: لسان الضاد يجمعنا.. لسان الضاد كان أفصح ما يكون عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل قبل مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان أفصح مما هو عليه اليوم. أين لغتنا اليوم؟ إذا كانت لسان الضاد ما جمعت العرب قبل الإسلام وما استطاعت أن توحّد الناس في ذلك الوقت، ووحدهم دين الله تعالى الواجب أن نقول دين الله يجمعنا وليست اللغة هي التي تجمعنا ولا الدم هو الذي يجمعنا ولا اللون هو الذي يجمعنا، الدين هو الذي يجمعنا، فجاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63] بماذا ألّف بينهم؟ بمولده ومبعثه ودينه سبحانه وتعالى، هذا هو سبب توحيد الأمة.

وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأنفال: 103] بماذا؟ بمبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بميلاد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بهذا الدين العظيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما استفادة العالم من مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم العلم حيث كان الناس يعيشون في جهل، وحيث كانت الكنيسة قد أوجدت حربًا بينها وبين العلماء، وأدخلت الناس السجون وأحرقتهم وقتلتهم؛ فجاء الإسلام ليعلي من العلم، ليعمر الناس بالعلم في مجالات الحياة في الاقتصاد والسياسة، وفي الإعلام في التعليم، في العلوم التجريبية كلها..

إن الأمة بل العالم كله يحتاج إلى هذه العلوم، وهي فروض كفائية إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، وليس صحيحًا أن يبقى المسلمون عاكفين على العلوم الشرعية فحسب وأن يتركوا العلوم الدنيوية النافعة، فإن العلم النافع الذي مدحه الله تعالى ومدحه رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو كل علم تستفيد منه الأمة، بل العالم بأسره، العلم النافع هو الذي يتعدى نفعه للآخرين، أما العلم القاصر على شخصك فليس هذا من ذاك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فإن مما استفاد العالم من مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه جاء ليحرر النصف الآخر من المجتمع وهي المرأة، هذه المرأة التي كانت عند النصارى شيطانة، وعند اليهود ممتهنة، فكانت إذا جاءها الحيض رموا بها، لا يجلسون معها، ولا تغسل لهم ثيابهم، ولا تطهو لهم طعامًا، ولا يمسونها كأنها نجس، جاء الإسلام والمرأة متاع تُباع وتُشترى كما هو اليوم في جاهلية اليوم المرأة تُباع وتُشترى لتكون في صور الإعلانات، في صور التائرات والجرافات والدبابات والطماطم والصوابين، وما شاكل ذلك يشترون من المرأة الجميلة صورتها، لتوضع على مثل هذه السلع.. كانت المرأة ليس لها أمر، وليس لها شأن، لا ترث فجاء الإسلام ليحرر حقيقة هذه المرأة من براثن الجاهلية، وإذا كانت المرأة اليوم تعاني من الجاهلية المعاصرة في امتهانها والاستخفاف بها، فإن الإسلام هو الذي سيضعها في موضعها الصحيح كأم وكبنت وكزوجة وكنصف حقيقي فاعل ومشارك في هذا المجتمع.

مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم استفاد منه العالم المحبة والسلام، والإخاء والوئام، جمع الإسلام العربي والرومي والفارسي والحبشي، وجمع شتات العالم كله، بل إلى يومنا هذا يوجد في روسيا مسلمون، في الصين مسلمون، في الهند مسلمون، في أوروبا مسلمون، في أمريكا مسلمون، في جنوب إفريقيا مسلمون، في كل أرجاء العالم مسلمون، لا تفرقنا لغة، ولا يفرقنا حد، ولا يفرقنا لون ولا دم ولا شيء من هذا، أي حيث حل المسلم فهو أخ لك، تحبه وتواليه وتناصره، أليست هذه أعظم استفادة؟! أليس العالم الغربي اليوم عالم عنصري؟! أليس اليهود عنصريين؟! أليس يوجد في الهند طوائف عنصرية وهلم جرا..

أما الإسلام فلا يعرف العنصرية بل يحاربها ويقاتلها يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « قد أذهب الله عنكم عُبّية الجاهلية، وفخرها بالآباء، فالناس مؤمن تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب» «لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى»، وانظروا إلى حال المسلمين في الصلاة وفي الصوم وفي الحج تراهم كلهم على وتيرة واحدة.

استفدنا واستفاد العالم من مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلغاء الرق من خلال وسائل عدة.

وخلاصة القول أيها الإخوة الكرام -كما يقول الأستاذ الندوي رحمه الله تعالى-: الحال التي كان عليها العرب وغيرهم وقتئذ كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن السادس المسيحي أكبر من أن يقوّم بإصلاح مصلحين أو معلمين من أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي المصلحون والمعلمون الذين لم يخلُ منهم عصر ولا مصر، ولكن القضية كانت إزالة أنقاض الجاهلية ووثنية تخريبية تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان واسع الأرجاء يسع العالم كله.

قضية إنشاء إنسان جديد يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء كأنه وُلد من جديد أو عاش من جديد، قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]، ويقول: قضية اقتلاع جرثومة الفساد واستئصال شأفة الوثنية واجتثاثها من جذورها بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخًا لا يُتصور فوقه، وغرس قيم ترضي الله تعالى وعباده، وخدمة الإنسانية والانتصار للحق.. إلى أن قال: وبالجملة فالأخذ بحجج الإنسانية المتحررة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق أولها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون، وآخرها جنة الخلد التي وُعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قوله تعالى في معرض المنّ ببعثته صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].

اللهم غيّر أحوالنا إلى أحسن حال، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه.

والحمد لله رب العالمين.